Print
أحمد طمليه

"المتلقي المذعن": في القراءة المعرفية الناقدة وتفكيك النصوص

25 يونيو 2024
عروض


صدر حديثًا عن دار أزمنة للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمان، كتاب جديد لأستاذ النقد الأدبي في جامعة اليرموك الأردنية د. زياد صالح الزعبي، بعنوان "المتلقي المذعن: محاورات في النقد الأدبي"، يكشف فيه عن نمطين من التلقي: التلقي المذعن للنص الشعري الذي يتم من دون رويّة، أو تفكير، بل استنادًا إلى انفعال نفسي يستنهض على فكرة أن المرء يتبع تخيلاته أكثر مما يتبع علمه وظنه، وهو ما تمثله تصورات الفلاسفة التي تعتمد على الأبعاد النفسية، فابن سينا يرى أن الشعر كلام مخيل تذعن له النفس؛ فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير رويّة وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالًا نفسيًا غير فكري، وبالتالي فإنه يعبّر بصورة جلية عن متلق لا يملك إلا الإذعان لما يقدم له، وهذا الفعل مرتبط بتصور محوري يرى أن عملية التلقي هذه تتم دون روية أو تفكير، بل استنادا إلى انفعال نفسي.

فالنص الشعري، بحسب  د. الزعبي، يقدم لنا صورة نستجيب لها  استجابة نفسية آنية لا تخضع للروية أو المساءلة، فحين نقرأ قول ابن الرومي:

            وجهك يا عمرو فيه طول     وفي وجوه الكلاب طول

فإن المتلقي الذي لا يعرف عمرًا هذا يستقبل وصف ابن الرومي التصويري الهجائي الساخر استقبال إذعان، إذ تتم عملية ربط تلقائية بين وجه الكلب الذي نعرف ووجه عمرو الذي لا نعرف، وهو ربط لا نخضعه لتساؤل إن كان وجه عمرو كذلك أم لا، ولا يعنينا إن كان ابن الرومي صادقًا أو كاذبًا، فقد اكتفينا بالجمع بين صورة وجه الكلب التي نعرفها والمحفوظة في مخيلتنا ووجه عمرو، وهو ما جعلنا نستقبح وجهه الذي لا نراه إلا بعين المخيلة التي يفعلها النص ويجعلها تستحضر مقرونة بوجه الكلب.

ويعرج المؤلف على شعر المتنبي الذي تحضر لدينا فيه صورتان: صورة سيف الدولة بعظمته وشجاعته وكماله، وصورة كافور الإخشيدي العبد المنحط الوضيع الذي اغتال سيده، ونحن مع المتنبي لا نسأل عن هاتين الصورتين إن كانتا صادقتين أو كاذبتين، ونكتفي بالاحتفاظ بهما كما شاء المتنبي أن يقدمهما تحسينًا وتقبيحًا، بمعنى أننا نذعن لنص المتنبي. وهذه حال تتكرر في استقبال النص الشعري عند عدد كبير من النقاد، وتمثل حالًا شائعة عند المتلقين عامة.

ويرى الكاتب أن هذا العملية المقترنة بتلقي النص الشعري والاستجابة للصور التي يرسمها أمر يمكن فهمه في سياق نظريات الفن التي تدور على تأثيره في المتلقين استنادًا إلى الأبعاد النفسية التي تتحكم في عملية التلقي.

في المقابل، هناك التلقي النقدي أو المعرفي الذي يجب أن يعتمد الروية والتفكير، ويفارق على نحو حاد الاستقبال القائم على الإذعان أو القبول دون مساءلة، فكل قراءة علمية يجب أن تنهض على مساءلة النصوص والأفكار وتذهب إلى بيان مرجعياتها المعرفية، وطروحاتها النظرية وتطبيقاتها العملية؛ لتصل إلى رؤية نقدية تجاوز التلقي السلبي أو القبول المستسلم.

يعتبر الزعبي كتابه بفصوله المختلفة أنه يهدف إلى قراءة متسائلة ناقدة لا تستسلم أو تذعن للنصوص وطروحاتها وأفكارها، حتى وإن كانت مما يشيع، ويمثل مرجعية يصعب التشكيك فيها أو محاورتها أو نقضها. ويقف عند  الفصل المخصّص للسيميائية التي تعبّر عن هذه الرؤية، فما قاله سوسير غدا تصورًا ونظرًا مرجعيًا تقبله الباحثون في الثقافة الغربية- مع إخضاعه للنقد والتساؤل أحيانًا– وتقبله واستلمه الباحثون العرب تقبل إذعان في معظم الأحيان، وذهبوا إلى بناء رؤاهم حول الأسلوبية والبنيوية والسيميائية استنادا إلى إعجاب وتصديق مطلق بما قرأوا، وهو فعل ثبت من خلال المراجعة العلمية أنه لا يثبت أمام قراءة ناقدة مسائلة، فقد ذهبت بعض الدراسات الأوروبية الحديثة بأن ما قدمه سوسير ليس سوى فبركة كبرى، وأن "دروسه في علم اللغة العام" ليست من وضعه، وأن النصوص المكتشفة حديثًا تبيّن عن صور تباين ما هو متداول معروف. وذهبت دراسات أخرى إلى نقض رؤيته للغة الطبيعية بأنها نظام سيميائي نقضًا تامًا، كما فعل روبن ألوت. 

أما في الفصل المنشغل بتناسل النصوص، فيركز الكاتب على هذه الفكرة في إطار الشعر العربي، وكذلك النصوص النقدية العربية التي وقفت على هذه الظاهرة وبحثتها في سياقات متعددة، منها ما تم في إطار التوليد وإعادة الصياغة والبناء، وحل المنظوم ونظم المحلول، وكذلك في سياق الاهتمام الواسع بقضية السرقات. كل هذه السياقات والنصوص لم تكن كافية لبناء تصور نظري يوازي نظرية التناص الحديثة التي تقبلها الباحثون وأشباههم ورأوا فيها فتحًا نظريًا وعمليًا ومضوا إلى نفي علاقتها بما نجده في إطار الأدب أو النقد العربي، على الرغم من عشرات النصوص التي تمثل هذه الظاهرة نظريًا وعمليًا.

ويصل الكتاب إلى المسألة المقترنة بالتلقي المذعن، وهو تلق ناجم عن المعرفة الموضعية النمطية الفقيرة بالتراث الأدبي والنقدي العربي التي تقصر على نصوص بعينها وشعراء وأدباء مشهورين، ولكنهم لا يمثلون بأي حال المدونة العربية الثقافية الكبرى التي امتدت قرونًا، وغطت مساحات مترامية الأطراف من الجغرافيا في قارات العالم القديم الذي شهد حضور الثقافة العربية وازدهارها.

أما الفصل المخصص لمصطلح الخطاب فيمثل نموذجًا آخر للاستقبال غير الخاضع للمساءلة التي تجاوز القبول إلى المحاورة الفعالة التي تضع القراءة في سياقات ثقافية وفكرية متعددة، وتكشف عن عناصر التوافق والتفارق بين التصورات النظرية وأشكال التطبيقات العملية في إطارين لغويين وثقافيين مختلفين. وهو ما يجب أن يدفع القارئ إلى مسارات متعددة في الرؤية تنأى به عن القبول المستسلم لما يمتلك، أو للوافد الذي يمثل مرجعية غير قابلة للنقض أو المحاورة.

ويرى الكاتب أن الفصل المكرس للبحث في وعن مصادر ابن خلدون النقدية ومحاورتها يظهر جانبين: الأول يمثل الشخصية الفكرية المتفوقة التي يمثلها ابن خلدون بمجموع الآراء التي أوردها في المقدمة، وصاغها على نحو منحه أسبقية في التأصيل ليس لعلم الاجتماع وحسب، ولكن أيضًا للعديد من القضايا التي ضمنها مقدمته الشهيرة الذائعة الصيت، والثاني يكشف من خلال البحث الاستقرائي عن المصادر التي اعتمد عليها في بناء رؤاه في العمران البشري وعلم الاجتماع واللغات والنقد، والتي تضع ابن خلدون وفكره في دائرة القراءة الناقدة التي لا تقبل التسليم، والتي تكشف عن الكيفيات التي انحلت فيها النصوص السابقة في نص جديد وبنية جديدة تعتمد على قدرة ابن خلدون الفائقة على استحضار النصوص السابقة، ولم شعثها، ومعالجتها في إطار نظري محدد، منحته ميزة على سابقيه أصحاب النصوص التي جاءت لديهم أو عرضت في أطر لم تملك تحديدًا نظريًا واضحًا، كما هي الحال عنده.

التلقي المذعن بنظر الزعبي هو تلق ناجم عن المعرفة الموضعية النمطية الفقيرة بالتراث الأدبي والنقدي العربي التي تقصر على نصوص بعينها وشعراء وأدباء مشهورين


ويقف المؤلف عند رؤية ابن خلدون مدنية الإنسان والعمران البشري ونشوء المجتمعات والأسباب التي دعت إلى ذلك التي يعيدها إلى كون "الإنسان مدني بالطبع"، وأنه غير قادر  بمفرده عن تحصيل حاجته من الغذاء، ويضرب مثلًا على ذلك برغيف الخبز الذي يحتاج إلى صناع وصناعات كثيرة لتحصيله، وهو كذلك محتاج إلى أبناء جنسه للدفاع عن نفسه، فالتعاون سبب مكن الإنسان من تحصيل "القوت للغذاء، والسلاح للمدافعة... كما أنه بحاجة إلى وازع أو حاكم يحكم بقانون يحقق العدالة ويمنع الظلم، فإذًا هذا الاجتماع بهذه المعطيات، ضروري للنوع الإنساني".

ويقول الزعبي: "لقد كان طرح ابن خلدون هذا حول الاجتماع البشري أساسًا في ريادته لعلم الاجتماع، ووصفه بأنه المبدع غير المسبوق على الرغم من أنه نفسه قد نسب هذا الطرح ‘للحكماء‘، فقد بدأ بالقول: ‘في أن الاجتماع للإنسان ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم...‘، أي أنه كما يظهر من النص يقتبس عن ‘الحكماء‘، وهم بالعرف الثقافي العربي الفلاسفة. لكن الأمر المثير الذي يجب أن يستوقف الباحثين هو وجود نص ابن خلدون بتفصيلاته وأمثلته في كتب عربية عديدة قبله بقرون، فالنص الذي يتحدث عن كون ‘الإنسان مدني بالطبع‘، و‘كون الاجتماع ضروريًا‘ نجده عند الجاحظ المتوفى عام 255هـ في كتابه ‘الحيوان‘، وقدامة بن جعفر المتوفى عام 339 هـ في كتابه ‘الخراج وصناعة الكتابة‘، ونجده بعد ذلك وعلى نحو واسع عند الغزالي المتوفي عام 505هـ في كتابه ‘إحياء علوم الدين‘، وما يختلف في هذه المصادر هو الصياغة وتكييف النص وفق الرؤى الفكرية للكاتب. غير أن ما يجمع بين هذه النصوص كلها أنها تعتمد مصدرًا أصلًا تنقل عنه ما سماه ابن خلدون ‘الحكماء‘، وهم الفلاسفة اليونان وبخاصة أرسطو الذي اعتمدوا جميعًا على رؤاه ونصوصه".

ويشير الزعبي إلى أن هذا الطرح الذي يقدمه ابن خلدون يبين الفكرة المحورية التي يتبناها، وهي التلقي الإذعاني، وهو تلق لا يحاور النصوص أو يفككها أو ينقضها أو يكشف مصادرها، وهي فكرة تبين عن بؤس معرفي للتراث الفكري العربي الذي تمت قراءته غالبًا قراءة نمطية موضعية عابرة تكتفي بالمتداول الشائع، والمختار الذائع، ولذا فإن الشعر العربي يكاد يدور الاهتمام فيه على عدد معيّن من الشعراء، وعلى عدد محدود من النصوص، وتسقط من دوائر الاهتمام والقراءة والمعرفة قوائم طويلة من الشعراء الذين لم تقع الإشارة إليهم، وهذا ما ينطبق كذلك على الكتاب والمفكرين بمختلف عصورهم وأصنافهم وأساليبهم وأفكارهم ومصادرهم. 

إن هذه قضية تجعلنا نتساءل، كما يرى المؤلف، عن مدى معرفتنا بإرثنا الثقافي الذي يمثل مكونًا أساسيًا من البنية الثقافية العالمية، وهو ما يتجلى في العمل الاستشراقي الممتد والهادف إلى استقراء التراث الثقافي العربي في أبعاده كلها. وتدل في الوقت نفسه على معرفتنا بالثقافات الأخرى، وهي معرفة مبتورة مستسلمة لما يصل إليها، وهو ما تجسّده حالات الانبهار والإلحاح على معالجة النظريات النقدية واللغوية الوافدة من دون سعي إلى إدراك جذورها الفلسفية والاجتماعية والعلمية. ولعل التنقل من منهج أو نظرية إلى أخرى يبين عن جري خلف النظريات الوافدة من دون فهمها أو معرفتها معرفة حقة.

ويخلص الكاتب إلى أن ما يقدمه في الكتاب لا يعني التقليل من قيمة ما قدمه أولئك العلماء، ولكن بيان الضرورة التي تدعو إلى إدراك كيف تشكلت رؤاهم وأفكارهم استنادًا إلى سلسلة من الأفكار والنصوص السابقة، وهي نصوص وأفكار تظهر أن ما قدم ليس ابتداعًا فرديًا ذاتيًا، وأنى أن يكون كذلك، فالفكر الإنساني سلسلة من حلقات ممتدة متصلة متناسلة، يتولد بعضها من بعض، ويعتمد فيها اللاحق على السابق، ويضيف إليه ويعدل في رؤيته، ويكيّف النظريات والرؤى وفق ثقافة المستقبل ورؤاه ومنظومته الفكرية والعقدية. وهذا ما يمكننا من فهم شخصية فائقة الحضور ثرية الإنتاج مثل الجاحظ، وشخصية تركت آثارًا واسعة في الفكر الإنساني مثل شخصية ابن خلدون، لكن ما يجب إدراكه أن ما قدمه هؤلاء وأمثالهم ليس جهدًا أو ابتداعًا فرديًا، وهذا ما يجعل المرء يذهب إلى تتبع سلسلة النصوص والأفكار التي تكشف عن الكيفيات التي مكنتهم من احتلال المكانة التي حصلوها، والنصوص الضخمة حجمًا وقيمة التي تركوها، والتي يصعب على المرء أن يتصوّر أو أن يتقبل أنها عمل ذاتي.

يذكر أن زياد الزعبي حاصل على دكتوراه في الفلسفة (النقد الأدبي) من جامعة "يوستسن ليبغ جيسن" الألمانية. ودرس في عدد من الجامعات العربية والأجنبية. له العديد من المؤلفات في مجالات اللغة والنقد والتوثيق. وقد خص الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل (عرار) بالكثير من الكتابات، التي توثق سيرته وشعره.