Print
ميشلين مبارك

"تصاميم لحياة أخرى": شخصيات وأشياء وأماكن رسمت حياة الشاعر

11 يوليه 2024
عروض




"تصاميم لحياة أخرى" المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر والمترجم اللبناني محمد ناصر الدين، وقد صدرت حديثًا (حزيران/ يونيو 2024) عن دار التكوين للنشر والتوزيع (الشارقة) عن سلسلة "إشراقات"، وهي السلسلة الشعرية التي يختارها ويشرف عليها الشاعر أدونيس. نُشرت المجموعة بمنحة خاصة من "مؤسسة جديد للتنمية". وكان قد صمّم الغلاف الفنان أحمد معلّا، أمّا الإشراف العام فتتولاه أرواد إسبر، ابنة أدونيس. ويقع محتوى المجموعة الشعرية في 174 صفحة من الحجم الوسط، وهو مبوّب لستة أبواب أو أقسام.

جاء الباب الأول بعنوان "الذّاكرة والأشياء" مذيلًا بشرح يقول: "الحياة رقيقة، تسمية الأشياء تكسرها حتمًا". يتضمن هذا القسم حوالي 25 قصيدة نثرية قصيرة ومتوسطة الطول، وكأنها لوحات شخوص وصور وأمكنة رُسمت بتأنٍ، بتصاميم لحياة أرحب وأجمل فكتبها قصائد، قدّمها الشاعر للفقراء، للجنوب، لفلسطين. فالشّعر عنده "يداوي الفاكهة المريضة" (ص: 13)، فيرفعه إلى مرتبة العلاج الناجع، ولعله العلاج الوحيد لكل أوجاعنا العربية، وأمراضنا الموروثة من خيبات وانكسارات ومن جيل إلى جيل. وفي هذا الفصل، يكتب ناصر الدين على وقع نوتات موسيقية أبجدية الشّعر، يصف فيها طغاة خرجوا من التاريخ أو أنبياء علقوا في حكايات الكتب المقدسة. هو في الحقيقة وصف لعذاب البشرية منذ القديم حتى العصر الحالي، كأنّه عزف على أوتار الألم كنوتة "ري" على سبيل المثال (ص: 15) "جارتي الأرمنية تؤنث المذكر في كلامها/ لعلّ السيف القديم على عنق جدتها/ يصير وردة". انطلاقًا من هنا، نلمس أهمية الكلمة عند الشاعر، وهي ليست فقط الكلمة الشافية، بل الكلمة السحرية الصانعة للمعجزات ناهيك عن قوة الشّعر والبوح في مواجهة مسارات الألم.

في الأسلوب، يظهر بوضوح أنّ الشاعر الشاب سعى إلى الرمزية في مجمل قصائده، فالرمزية هي صفة مشتركة عند شعراء الحداثة، وقد وظفها للإشارة إلى عمق الدلالات التي قصدها في أماكن كثيرة، على سبيل المثال "التفاحة" (ص: 16) التي ترمز إلى الخطيئة. أو "الكرة" التي ترمز إلى حياة الإنسان، أو حتى القمر الذي يرتدي وجهًا زهريًا خجولًا (ص: 19) للإشارة إلى الفرح النادر. لا شك بأنّ هذه الرمزية المعتمدة أسهمت في ارتقاء القصيدة وغموضها وطغيان عنصر الخيال كما في قصائد بودلير على سبيل المثال معتمدًا على لغة الإيحاء والإحساس كما في قصيدة "الصخرة" (ص: 32):

"ثبّت ألفًا من المكابح في كعبها/ مثلما يفعل الأطفال بدراجة جامحة/ حفظت تضاريسها عن ظهر قلب:/ خاصرتها الرخوة/ حيث ينام ثعبان في الشتاء/ الشقوق في قلبها/ حيث تنبت وردة بلا مشقة/ البثور في وجهها/ حين تنحتها الريح والذاكرة/ الأيدي الرقيقة/ التي تسندها في لوحة بيتر بلوم/ تقول الصخرة التي انسحقت في كتفي/ حين حملتها لسيزيف للمرة الألف:/ الشعراء فاشلون/ يحشرون الكون في صخرة/ ثم يرصفون كلماتهم كأنابيب الأوكسجين/ في فتحة أنفها الصغيرة".

فالشاعر والمترجم محمد ناصر الدين الذي يواكب العصر، لا ينحاز إلى أي مدرسة شعرية، بل يكتب الشّعر ليطرح الجدلية من ماهية الشعر نفسه إلى ماهية الوجود إلى ماهية المعنى من الوجود. هو القائل في حديث سابق لـ"ضفة ثالثة" بأنّ: "الشّعر هو تجربة داخلية ودعوة للإنصات". معترفًا بأنّ: "يقين الشعراء هو صعب ومستصعب، وإن الشك والحيرة دينهم وديدنهم". كيف لا، وهو ابن الجنوب اللبناني النازف أبدًا بالشهداء، وهو ابن لبنان المتأرجح دومًا على أكف الحروب والمشاكل والأزمات، فإذا به ابن لغتين (العربية والفرنسية) وغربتين (بيروت وسُجد) وحتى مهنتين (الفيزياء والشعر). هذه الحيرة هي التي أنجبت الدهشة والتكثيف في شعره اللذين هما أساس الإبداع.

في الباب الثاني من المجموعة شعرية: "القطيعة التي يحركّها الهواء" يقول: "حذرتني لا تدخل الغابة! ما أجمل الخوف لو كان غابة فقط". يكثر الشاعر في هذا القسم من استعمال التعابيروالمفردات المتعلقة بالغابة، مثل الشجر، الأغصان، الريح، العصافير، الأوراق، وكلّ ما يتصل بها من صمت وسكون أو موسيقى وأصوات، فيضفي على وصفه الكنايات والاستعارات حتى يشخّص الطبيعة فيزيد من الإيحاء الفنيّ الجمالي للوصف، كقصيدة "أحوال الشجر": "حين يكون الشاعر شجرة/ عليه إذن/ في الفصول الأربعة/ أن يصمت/ أن يستمع لكلام البشر/ دون أن يجيب البتة/ أن يكون كلّه/ في ورقة/ وأن يراها تطير". ولطالما استُخدمت الأشجار لدى العديد من الكتّاب والشعراء لدلالات متنوعة، فالكاتبة الأميركية فيرجينيا وولف كانت تُظهر في كتاباتها الأشجار كامتداد لشخصيات أخرى غير مكتشفة. أمّا الكاتب الألماني هيرمان هسه فيصف الأشجار: "بالأماكن المقدّسة. حالما نتعلم الاستماع لها... فإنّ هذه هي السعادة". وحتى شعراء الحداثة والشباب منهم، قد رثوا في قصائدهم قطع الأشجار أو مدحوا ثمارها وعطاءاتها كقصيدة "ليت الفتى شجرة" للشاعر محمود درويش، وغيرها الكثير من الحكم أو الأقوال المأثورة عن الشجرة والتي لا مكان للحديث عنها هنا. ففي المحصلة، تلبسنا الشجرة ونلبسها في قصائد ناصر الدين ليتعلم منها الشعراء الصبر والعطاء.

وحمل الباب الثالث من هذه المجموعة الشعرية عنوان "هدوء مشمس للعالم"، وفيه تعانق قصيدته الحديثة المكان الأحب على قلبه ألا وهو جبل عامل، يعانق من أحبهم وغادروا هذا العالم، يكتب للمقبرة الريفية، لبول فاليري، ويضع إكليلًا على ضريح ريلكه. لعله هذا الهدوء المشمس للعالم هو هدوء الموت، فنراه يمطر قرّاءه بتعابيره الوجودية وأسئلته العميقة، فينتفض على التكنولوجيا وأدواتها، إذ يقول في قصيدته "المقبرة الريفية: إكليلان على قبر بول فاليري" (ص: 72): "غدًا يستفيق أجدادي الغاضبون/ من مقبرة جبلية صلبة/ هم لا يعرفون تحفة موتك البحرية/ يا بول فاليري/ ينسفون بمعاولهم عمود الإرسال/ أعلى التلة/ يحرقون خطوط الهاتف والتيليغرام/ بوقاحة أبناء الريف". والمعاني متنوعة في هذا الفصل، عن الموت والحرب والقتل، وما يفعله الموتى في الأسفل، وأحوال النبي، وأحوال القيامة.

وفي الفصل الرابع الذي حمل عنوان "نقوش ورديّة للحواس"، يظهر (كما في الفصول الأخرى أو أكثر)، تأثر الشاعر ناصر الدين بشعرية ريلكه الذي يُطلق عليه "الشاعر الذي قتلته وردة". وكما هو معروف فعندما خرج ريلكه إلى حديقته، في عام 1926، لكي يقطف وردة، جرحت يده إحدى الأشواك، ليكتشف فيما بعد أنه مصاب باللوكيميا، ثم ما لبث أن توفي بعد أقل من شهرين. ونحن إذ فتحنا المزدوجين هنا على الشاعر النمساوي فلنشير إلى عمق تأمله في معنى الوجود وسرّ الموت وملء الحياة، وهو الذي عُرف بواقع اختباره الوجداني وقصائده الرثائية. فنتلمس في قصائد "تصاميم لحياة جديدة" نقوشًا وجدانية تظهر لوهلة أولى على شاكلة الورود والزهور إنما هي في العمق تصيب القارئ في الصميم لشدّة حزنها ومعاناة ناسها في بُعد وجداني يتماهى فيه (أي القارىء) مع الكاتب في الأعياد المؤجلة ودموع الخاسرين، في نذورات النساء وليالي بيوت الموتى الحزينة. حتى الحبّ في هذا الفصل يتنفس قلقًا بين الكلمات، فيكبته الشاعر في الصفحة 125 على سبيل المثال:

"أحبسُ اسمك بين نجمتين وحيدتين/ في غابة تلفّها أنفاس الغزلان الخائفة/ في الضباب الرقيق للبحيرة/ في تفتحّ الزهور فوق المستنقعات/ أحبسهُ بحيث لا يستطيع/ أن يظهرَ وحده/ كمعجزات الأنبياء القديمة/ أن يلمع كوشم الشفاء على أكتاف المرضى/ أتركهُ فحسب في راحة يدي/ كالجمرة".

وعنون الشاعر الباب الخامس من المجموعة شعرية "متاهات السّمو"، وقد أتى بمثابة رسائل موجهة إلى أخيه (علي)، ثم بورتريه إلى الشاعر محمد علي شمس الدين وغيرهم من الذي أثّروا بشكل أو بآخر في حياة الشاعر، بالإضافة إلى هوامش من أشياء وناس وأماكن ترجمهم ناصر الدين في قصائده المعمّدة بحبّ القرية، وألم الجنوب وفقد أحبة، أو بموت الحلم مع موت صديق، وبقلق عصفور "وبغياب الجزء ليكتمل الكلّ" بحسب تعبيره (ص: 147).

الباب الأخير أتى نثرًا بعنوان "أختار شكلًا آخر" يضم خمس قصص قصيرة عن الفراشة، المزهرية، وردة في التجريد، بارت أدورنو، وبعوضة وتائهان. قصصٌ فيها الكثير من الفانتازيا الجميلة المرمّزة أيضًا تترك في نفس القارئ نهايات مفتوحة على خيال وسفر وتصاميم لحيوات أخرى. لنكتشف مع الكاتب بأنّ: "الّلغة هي الحجر قرب النبع، وليست النبع ذاته" (ص: 161)

في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الغلاف الخارجي للكتاب يتزيّن بنص للشاعر أدونيس يقول فيه: الشّعر بوصفه حياةً وحريّةًّ وحبًا، هو ما نؤسس له اليوم أصوات شعرية متنوعة، نساء ورجالا في مختلف البلدان العربية، ولذلك هي ظاهرة فريدة في تاريخ الإبداع الشعري العربي.

هكذا تبدو كتابة ناصر الدين كأنها تجيء من أفقٍ آخر: أفق الذاتيّة المتحرّرة من جميع أنواع السلطات الكابحة، وأفق الكينونة المنفتحة على الأعماق والأبعاد المجهولة، وعلى الأسئلة المهمّشة أو المطموسة اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، إضافة إلى المكبوت نفسيًا وجسديًا، بصرًا وبصيرة ومخيّلة. وفي هذا ما يتخطّى خريطة الكتابة الشّعرية السائدة.