Print
بشير البكر

أتاتورك وسيرة حياته بعين ألمانية: لعبة الصور المتعددة

2 يوليه 2024
عروض

كلاوس كرايزر  


يبقى مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) من بين أكثر الشخصيات السياسية التاريخية صمودًا بوجه الزمن. وهو يشكل للأتراك رمزًا يعلو فوق كل الاعتبارات، رغم أن تركيا تطورت كثيرًا منذ وفاته، وعرفت أنظمة سياسية مختلفة، وعاشت انقلابات عسكرية. وتعزى المكانة الرمزية إلى أنه لعب دورًا أساسيًا في تأسيس الجمهورية التركية، التي تولى قيادتها بعد انهيار الدولة العثمانية. وعلى هذا تظل الدراسات التي تتناول سيرته محل اهتمام من قبل الباحثين الأتراك والأجانب. واللافت في هذا المجال صدور عدة كتب في العقدين الأخيرين، تتناول سيرته بمزيد من التعمّق، ومنها كتاب الكاتب الألماني كلاوس كرايزر "أتاتورك: سيرة حياته"، الذي نقلته إلى العربية المترجمة سمية قوزال، وصدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".

تتصدّر الكتاب مقدمتان، واحدة للمترجمة، وأخرى للكاتب. وكلاهما يركّز على نقطة مهمة، وهي شرح مبرّر صدور سيرة جديدة لهذا السياسي والعسكري، الذي مرّ على رحيله نحو 75 عامًا. وتلتقي المقدمتان عند خلاصة أساسية، مفادها أن تعدّد الدراسات يعني تعدّد الرؤى واختلافها، ما يتيح زوايا جديدة للنظر. ويرى الكاتب أنه يوجد العديد من المصادر والمراجع التاريخية حول أتاتورك، لم يجر تمحيصها والاستفادة منها إلى يومنا هذا إلا جزئيًا. ويلفت إلى أن سير عمله في هذا الموضوع أسهل منه من أبحاث مماثلة لمدوّني السيرة الذاتية الأتراك، إذ تؤثر انحيازات هؤلاء وانتماءاتهم الشخصية على نظرتهم العلمية للموضوع، لكنه في الوقت ذاته لا يقرر رسم ملامح محددة لأتاتورك، بل إن هدفه هو أن يقرّر القارئ الصورة التاريخية، التي يأخذ بها.

يقدّم الفصل الأول في الكتاب مدخلًا يثير الفضول، ذلك أنه يركّز على الأسماء التي حملها أتاتورك، وخلفية كل منها وظروف التسمية، التي أطلق بعضها على نفسه، ومنها اللقب الذي اتخذه لنفسه عام 1934 وهو أتاتورك، وغيّر بموجبه بطاقة الهوية ليرسخ نهائيًا، ويصبح مصطفى كمال أتاتورك. وأول الأسماء المكتسبة هو كمال، الذي يقول إنه حصل عليه في المدرسة العسكرية في سالونيك، نظرًا إلى نتائجه الباهرة في مادة الرياضيات. وهناك من يقول إنه حمله بسبب إعجابه بالشاعر نامق كامل. أما بقية الألقاب فهي تبدأ بالباشا، ومن ثم الغازي، الذي يعود استعماله إلى النبي محمد، وكان يوصف به عامة المحاربين المسلمين، وبعده المشير، الشيف الأكبر، المجاهد، المنقذ المخلص، المنجي الكبير، المعلم الأكبر، ذو الشأن العظيم، لا نظير له، وأخيرًا الرئيس الأبدي الذي حصل عليه في الذكرى السنوية الأولى لوفاته. وتشكّل الأسماء ثلاث محطات في درب أتاتورك من العقيدة الإسلامية، إلى الوطنية العثمانية، وصولًا إلى الايمان بالثقافة التركية.

طفولة وشباب أتاتورك كانتا قاسيتين وصعبتين، فوالده صاحب دخل محدود جدًا، وهو عبارة عن موظف ضرائب في مدينة سالونيك التي ولد فيها، ثم إنه رحل مبكرًا، ولم يكن أمام الطفل سوى أن يتدبر أمره بدخول المدارس الرسمية التي لم تكن مفتوحة للجميع، ولكنه نجح في ذلك، بفضل ذكائه واجتهاده في مادة الرياضيات، مع أنه كان ميالًا في شبابه لكتابة الشعر وتعاطي المشروبات الكحولية، وهي العادة التي رافقته حتى انتقاله إلى الكلية الحربية في إسطنبول وتخرّجه منها عام 1905، وهناك بدأ ينشط، حيث انضم إلى جمعية "الاتحاد والترقي" عام  1907، وبذلك صار يعاشر التجار الكبار وموظفي البنوك ومضاربي البورصة ومديري كل من المدرستين الفرنسية والألمانية. واللافت أن أتاتورك لم يهتم لاحقًا بقصة دخوله المدرسة التقليدية، وما واكبها من طقوس واحتفالات دينية، كون "حزب الشعب" الذي تزعّمه، شنّ حربًا على المدارس التقليدية، التي ألغيت بموجب مرسوم جمهوري عام 1926. وقام بهذه الخطوة كون نظام التعليم العثماني لم يعرف إصلاحات واسعة خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني، الذي حاول تجاوز الإهمال الذي لحق به عبر عدة قرون.

يربط الكاتب بين تقدّم أتاتورك في السلك العسكري، فهو بات في عداد جيش يبلغ 500 ألف جندي، بينهم قرابة 25 ألف ضابط، وبين السنوات العصيبة التي عاشها السلطان عبد الحميد الثاني، والضغوط الدولية التي تعرّض لها، وخاصة من قبل ألمانيا، حتى إن القيصر الألماني فيلهلم الثاني كتب ملحوظة على هامش تلغراف أرسله له سفيره يقول فيها "يجب خلع السلطان"، وتصاعدت الأحداث في تلك الفترة حيث شنت عناصر أرمنية تنتمي إلى حزب الطاشناق هجومًا على البنك العثماني، وكانت النتيجة موجة من المذابح والمجازر ضد الأرمن في الأناضول. وذلك في فترة النزاع الروسي الياباني، الذي وجد صداه في تركيا من خلال إعجاب النخب بالنموذج الياباني ومنهم ضياء غوك ألب، في حين أن أتاتورك عارض التحديث الانتقائي، وكان غربي النظرة.

يكشف المؤلف عن أمر طريف وهو أن أتاتورك كان يمكن أن يتوجه إلى الشعر، وليس إلى العسكرية والزعامة، لولا تدخل من بعض أساتذته وزملائه المقربين. وكان معجبًا في البدايات بالشاعر عمر ناجي، ومن ثم انتقل الإعجاب إلى نامق كامل، الذي رحل عام 1888. وينقل عن أحد أصدقائه قوله "إن لم ينتشلني أستاذنا في مادة المراسلات الرسمية محمد عاصم أفندي لانتهيت شاعرًا. لقد كان يقول لي انظر يا مصطفى يا ولدي. اترك الشعر فهو عائق في طريقك، إذا أردت أن تصبح جنديًا ناجحًا". وبالفعل شكلت المدرسة الحربية في إسطنبول نقطة انطلاقه الفعلي نحو السلطة، وواتته ظروف مختلفة كي يتقدم بسرعة، فهو كما تصفه الإضبارة الرسمية "طويل القامة، أبيض البشرة، وصاحب نظرة خاصة إلى الحكم، وحين انعطف مجرى السفينة نحو قصر الخلافة، انجلت أمام عينيه دار السعادة"، كما كانت تسمى إسطنبول حتى نهاية الدولة العثمانية، وآن له أن يرى سرادق وبساتين قصر يلدز، حيث كان يقيم السلطان عبد الحميد، ولا يغادره إلا لصلاة الجمعة في المسجد قبالة السراي.

وفي هذه الفترة تشكلت جمعية "الاتحاد والترقي" التي عقدت مؤتمرها الأول في باريس عام 1907، وكان الأجانب يختصرون اسمها إلى "الجمعية"، ويصفون أعضاءها بالاتحاديين، وانبثق عنها "حزب تركيا الفتاة"، الذي تولى السلطة بين عامي 1908 و1918، على أساس مراعاة أهم مسألتين هما: رفض التخلي عن آل عثمان، وإنما الحد من صلاحيات السلطان، وعدم التفكير جديًا في إرساء قواعد النظام الجمهوري للدولة. ويذكر الكاتب أن البرلمان الذي تم انتخابه ضم 142 تركيًا، 60 عربيًا، 25 ألبانيًا، 23 يونانيًا، و12 أرمنيًا. وجرت احتفالات على الطريقة الإسلامية، وكان مؤلف النشيد أرمنيًا يدعى حاكميان، والملحن يونانيًا، يدعى كريستيديس. وقد نجحت "الجمعية" في الإمساك بخيوط اللعبة في إسطنبول، وتمكنت في عام 1909 من عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وتعيين شقيقه محمد رشاد الخامس في مكانه. وجرى نقل عبد الحميد إلى سالونيك، ليظل تحت الأنظار.

أتاتورك لدى وصوله ألمانيا عام 1924 وزوجته إلى اليسار (Getty)


من المحطات المهمة التي يضيء عليها الكاتب، وتتقاطع مع صعود أتاتورك، هي المذابح وعمليات التهجير التي تعرّض لها الأرمن بدءًا من عام 1915. ويرجح الكاتب أن قرار الحكومة العثمانية بتهجير الأرمن من المناطق الأناضولية قد اتخذ في آذار/ مارس 1915، بالتزامن مع تسلّم أتاتورك قيادة وحدته في جزيرة غاليبولي. ويشير الكاتب إلى أن تركيا اعتبرت الأرمن حليفًا محتملًا للروس، وهم بالفعل قاتلوا ضد الجيش العثماني إلى جانب الجيش الروسي. ويذكر أن والي مدينة بتليس في تلك الفترة مصطفى عبد الخالق (رندا) أحد المسؤولين عن الأحداث، وهو ينحدر من إقليم الإيبروس من أصل ألباني، ومقرّب من طلعت باشا، الذي أرسله واليًا على حلب ما بين 1915 و1918، حيث استمر في  عملية ملاحقة الأرمن، وعرض عند عودته عام 1921 من جزيرة مالطا التي نفاه إليها الإنكليز، خدماته على الحكومة الوطنية، فتم انتخابه في البرلمان عام 1923 برضى أتاتورك.

وفي هذه الأثناء تولى أتاتورك قيادة الفرقة المرابطة في مدينة ديار بكر، وتمت ترقيته إلى "أمير لواء"، فحصل بذلك على أعلى الرتب الرفيعه، واستحق لقب الباشا وهو في الخامسة والثلاثين، وهناك في ثكنة سلوان عكف على كتابة مذكراته، التي لا يأتي ما نشر منها إلى أحداث الأرمن نهائيًا. وقد استغرق بعد ذلك في كتابة هذه النصوص، التي تبلغ أوجها مع خطابه الذي ألقاه عام 1927 واستمر ستة أيام متتالية، وحاول من خلاله فرض تحليله الشخصي للتاريخ على "التأريخ" نفسه. وأثناء وجوده في ديار بكر بنى علاقات مع الزعماء المحليين، وخاصة الأكراد، الذي أراد أن يكسبهم في مواجهة الأرمن المتحالفين مع روسيا، ومثّل ذلك أرضية لبرنامجه اللاحق لبناء وطن تركي كردي.

جسّدت الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-1940) النموذج الأعلى لأتاتورك وللأتراك الشبان ذوي النزعة الإصلاحية، ولكن الحديث يقتصر هنا على نموذج فرنسا العلمانية، دون فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي علّتها سمات دينية كاثوليكية. وهناك عنصر خلاف وهو أن العلمانية الفرنسية ليست مرادفة للإلحاد، كما فهمها أتاتورك، وتجلى ذلك صريحًا في رسائله إلى كورين، التي يعرّفها الكتاب على أنها من أصول شامية، ولكنه ينسبها إلى جذور إيطالية. وتبدو السخرية واضحة في كلامه عن مفهوم الشهادة وحوريات الجنة، والإسلام، وعلى هذا الأساس رفض أن يرافق وحدته العسكرية إمامًا، مثلما كان معمولًا به في الجيش العثماني. ويتحدث أحد مساعديه عن رفضه التقاليد الإسلامية "لم نقم مراسم احتفال بالعيد في مقر القيادة بالثكنة".

هذه أول السير التي تتناول هذه النقطة، ذلك أن السير التي صدرت في العشرين عامًا الأخيرة، كان من الصعب عليها أن تخوض في هذه المسألة بحرية، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي. ويرى الكاتب أن فكره الذي حكم به تركيا لاحقًا، تبلور أثناء علاجه في مدينة كارلسباد في ألمانيا، والذي يقوم على مبدأ "لا أريد أن أكون مثل عامة الناس، بل على عامة الناس أن يكونوا مثلي".

جانب آخر من شخصية أتاتورك يحتل مساحة كبيرة من الكتاب هو مناهضته بقوة للتحالف العثماني الألماني، الذي كان يلقى صدى كبيرًا في تركيا، ويجري التلويح به لمواجهة الخطر السلافي الروسي. وكان يتحدث دائمًا عن أن الألمان يتبعون في مشاريعهم الاقتصادية سياسة نفعية، ويحذّر من خطر تغلغل وسيطرة الألمان على النظام التعليمي والعثماني. وترجم هذا الموقف بتقارب شديد مع فرنسا، واستحضار النموذج الفرنسي حتى على صعيد قواعد اللغة التركية الجديدة. وإحدى نقاط الخلاف مع ألمانيا كانت قضية الأرمن؛ عندما واجه الألمان الوفد التركي، برئاسة ولي العهد، بالحديث عن وضع الأرمن أثناء زيارة عام 1916، وصفوهم بـ"الطيبين"، وبأن الأتراك سمحوا لأنفسهم "بتعديات مؤلمة" بحقهم، وكان ذلك صادمًا على أراضي دولة يرتبطون معها بحلف عسكري. ورد أتاتورك على الانتقادات الألمانية، واحتفظ بنص الرد ونشره لاحقًا في عام 1926، ويقول الكاتب إن ذلك يعبّر عن أن أتاتورك يؤمن بنظرية مفادها، أن "الأرمن شعب ليس له ‘تاريخ‘ يخوّله بإقامة دولة خاصة به".

سيرة حياة سياسية أكثر، بينما تتوسع السير الأخرى في تناول تفاصيل حول الجوانب الاجتماعية، حول علاقته بأمه وزوجها وشقيقته، ومع زوجته لطيفة التي يمر عليها الكتاب سريعًا، ويذكر تاريخ الزواج، ولا يتطرق إلى الطلاق وأسبابه، والتي يرجحها بقية المؤرخين إلى شخصيتها القوية وثقافتها الواسعة وإجادتها الفرنسية والإنكليزية والألمانية وهي عازفة بيانو لامعة، ويذكر المؤرخ التركي ألبير أورتايلي أن سبب الطلاق أنها كانت تناديه باسمه الأول كمال، من دون أن تقرنه بصفه الباشا أو البيه، وحصل ذلك مرة أمام مسؤولين، وهي تودعه على رصيف محطة القطار، ومن بعد هذه الحادثة اتخذ قرار الطلاق.

هناك ملاحظة أخرى على هذه السيرة، وهي أنها مغرقة في سرد تفاصيل معروفة، وهي نفسها التي وردت في السير الأخرى، مع خلاف وحيد، هو التوسع فيما يخص العلاقة مع ألمانيا خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني وما بعده، وهنا يظهر أن الكاتب استفاد من الوثائق الألمانية، ولكن ليس هناك أسرار ذات قيمة كبيرة، فكل شيء تكشف بعد خسارة الطرفين الحرب العالمية الأولى. وكان يمكن اختصار السيرة إلى النصف تقريبًا من خلال المرور سريعًا على المحطات المعروفة مثل الحرب مع اليونان، مفاوضات لوزان، خطابات أتاتورك، لكن الكاتب أورد كل شيء يتعلق بأتاتورك، وكأنه الكاتب الأول لسيرته غير المكتوبة سابقًا.

من الأشياء الطريفة في الكتاب حول شخصية أتاتورك، أنه لم يركب طائرة طيلة حياته، وفضّل السفر بالقطار والسفينة والسيارة، ولم يعلم بخوفه إلا القليل ممن حوله، إذ لزم تركيا ولم يغادرها منذ عام 1918. وأثناء فترة علاجه في مدينة كارلسباد في ألمانيا، احتدم نقاش بين أتاتورك وطبيبه حول الخبز، إذ كان على النزلاء، باستثناء سكان المنطقة، أن يأتوا بالقدر الكافي من الطحين معهم حتى يوفر لهم الخبز. ورد أتاتورك، "إذا كان الأمر كذلك دكتور، فإنه يستحيل أن أواصل إقامتي هنا". وفي ختام الحوار، تعهد الطبيب بتوفير الخبز للنزيل بنفسه. ومن العلامات المبكرة على انهيار الدولة العثمانية أن وليّ العهد وحيد الدين وصل إلى فيينا في زيارة رسمية في 17 كانون الأول/ ديسمبر 1916، ولم يجد أحدًا في استقباله بسبب خطأ في الإبلاغ عن موعد الوصول، فأمضى ليلته في عربة القطار في المحطة.