Print
يوسف الشايب

"يوميّات قلعة المنفى": حياة السجن "الغنيّة"!

5 يوليه 2024
عروض

في كتابة "يوميّات قلعة المنفى: رسائل السجن 1972 ــ 1980"، والصادر عن دار الرافدين في بغداد، يقدّم الشاعر والمترجم المغربي عبد اللطيف اللعبي، عبر رسائله من سجن القلعة، أو معتقل "قلعة مكونة" في المغرب، مثالًا على فضيلة الحب، وقبلها على القدرة على نشر قيم الحب، ومشاركتها حتى مع من هم خارج السجن من داخله، عبر رسائل حب يشاركها ورفيقة دربه جوسلين وأطفاله ورفاقه، مخترفة الجدران إلى فضاء أرحب من الحريّة، لتشكل هذه اليوميّات اختبارًا للثقافة في محنة السجن السياسي، بحيث لم يقتصر سعي الشاعر المغربي الشهير على التأكيد النظري للقيم الإنسانية، بقدر ما وضع حياته مثالًا من أجل العيش في عالم حرّ وأكثر عدلًا.
حين تقرأ رسائل اللعبي المنشورة في إطار سلسلة "أدب السجون"، أي تلك التي كتبها من سجنه، تدرك أنه، ومنذ البداية، كان على معرفة تامة بالمعنى العميق لزمكان اسمه السجن، يتحول فيه الإنسان الداخل إليه تدريجيًّا باتجاه المحور.
لكّنه، ومن بين جدران الزنزانة، ومن داخل عالم معزول، "يهيئ لموت الحياة فيه"، وفق تعبير يمنى العيد، الناقدة اللبنانية في مقدمتها للكتاب، حيث كان "فكر الزائر الجديد يعمل، يقبض على سرّ لعبة الموت الخفيّة، لعبة الموت التي يُضمرها السجن، يرى أين يختبئ الموت، ويدرك أن الحياة ممكنة، حياة النمو والعطاء والتغيير".
وتتخذ الفصول عناوين كل عام قضاه اللعبي في المعتقل، بدءًا من 1972 وانتهاء في 1980، على مدار قرابة الأربعمئة صفحة، ترجمها إلى العربية، لأول مرّة في هذا الكتاب، وبعد عشرين عامًا على نشرها بالفرنسية عام 2004، كل من علي تيزلكاد، وعبد اللطيف اللعبي نفسه.
ويعترف اللعبي أنه، ومنذ نشر هذه الرسائل لأول مرة، قبل عقدين بالفرنسية، لم يقوَ على إعادة قراءتها، مع أنه استطاع، كما يشير، إلى حد ما، خلال الأعوام الماضية، الابتعاد، والبعد الذي رآه ضروريًّا عن تجربة الاعتقال، ليتمكن من مواجهة "وقائع أخرى"، والانخراط في "حيوات أخرى"، معزيًا ذلك، ربّما، إلى أن تلك الرسائل، لم تكن، على الأقل في قصدها الأول، نصوصًا أدبية يستطيع تذوقها والحكم عليها حسب المقاييس الخاصة بالإبداع.
ويشير اللعبي: "كتبتُ في الأصل إلى مخاطبين مُحدّدين، وأحاطت بمعيش مُحدّد في الزمان والمكان، لا يدين بشيء للمُتخيّل، بل ينتمي إلى الدائرة الحميمية الشخصية، وكونها أصبحت رائجة في المجال العام، لم يغيّر في الأمر شيئًا... قبلتُ بذلك في مرحلة ما، وعيًا منّي بأن نشرها سيكون بمثابة شهادة عن عهد التعسف ومصادرة الحريّات، وعن المحنة التي كنتُ أتقاسمها، آنذاك، مع مئاتٍ من الرجال والنساء".
ويضيف: لن أتردد اليوم في القول إن تلك الشهادة، بالإضافة إلى أخريات، ساهمت بقسطها في فضح جبروت النظام، وفرضت عليه أن يرخي قبضته الحديدية، مُهيّاة بذلك جو الانفتاح الذي تعرفه البلاد منذ بضع سنوات.
ومع ذلك، يبقى الإشكال قائمًا بالنسبة للعبي، في كل مرّة يحاول فيها إعادة قراءة الرسائل، كان كمن يفتح جرحًا قديمًا، حيث أن التأثر بالسنوات الصعبة في المعتقل القلعة، لم يكن يترك مجالًا للعقل، بل يذهب به إلى منزلق الرأفة بالذات، وهو ما كان يزعجه إلى أبعد حد، حيث كان يخلص إلى أن الوقت لم يحِن بعد لمراجعة هذا الجزء من تاريخه الشخصي بكل صفاء.




ولكن موافقته على إعادة نشر الرسائل بالعربية، بل ومشاركته في ترجمتها تتأتى باعتبار أن النضج بات سيّد الموقف، وأن التاريخ، وإن استعاد سلطته، لم يعد يضايقه في شيء، باعتبار أن "النظام الجائر" الذي كانت تفضحه هذه الرسائل تصدّع، والقيم التي دافع عنها بقوّة باتت معترفًا بها كحجر زاوية لأي مشروع يستهدف أنسنة مجتمع لم يعد يطيق أغلاله، ويعمل على استعادة أحلامه العادلة، رغم جلبة المتاجرين باليأس.
وفي رسالة مؤرخة بـ 28 آذار/ مارس 1972، يكتب اللعبي إلى ياسين وهند، طفليه، اللذين كانا ممنوعين من زيارته بعد انتقاله إلى سجن الدار البيضاء، حيث أعيد اعتقاله في 14 آذار/ مارس من العام نفسه، بتهمة المسّ بأمن الدولة، وكان عمر ياسين، حينذاك، سبع سنوات، بينما عمر هند خمس سنوات ونصف السنة. يخبرهما في الرسالة أن "السجن ليس أمرًا خطيرًا، فكثير من الناس مثلي، في كل البلدان، ومنذ زمن بعيد، دخلوا السجن... هؤلاء الناس مثلهم مثلي كانوا يعملون دائمًا ليتمكن كل الرجال والنساء والأطفال أن يأكلوا جيّدًا، وكي لا يرتدوا ملابس وسخة وممزقة، وحتى يجدوا منزلًا نظيفًا وصلبًا وفيه ضوء... عندما نعمل من أجل ذلك، يكون السجن نصيبنا أحيانًا، لأن الناس الأغنياء لا يقبلون ذلك، وإلا فإنهم سيصبحون أقل غنى... على كل حال، سوف تفهمان هذه الأمور شيئًا فشيئًا، كما ستفهمان أشياء أخرى أكثر تعقيدًا، وأنا متيقيّن من أنكما أنتما كذلك ستدافعان عن الناس الفقراء، لأنني أعرف فيكما قلبيكما الكبيرين".
وفي 2 شباط/ فبراير 1975، كتب لجوسلين: "لقد كان ذهني شاردًا منذ يومين... لم أفعل شيئًا، ما عدا غسل ثيابي وترتيب زنزانتي ونفض الغبار... يمكنكِ أن تتصوري الطاقة التي أبذلها في مثل هذه الحالات... تذكرين عندما كنت أقلّب المنزل على عقبه، لا أترك شيئًا في مكانه، خصوصًا الغبار والأوراق القديمة... كنّا نغيّر بغبطة كل شيء في المنزل، نبدّل الأثاث والتحف من أمكنتها... كنتُ شخصيًّا أشعر بنشوة حقيقية وأنا أقوم بذلك (...) عندما نعيش هذه التجربة، ندرك أحسن من ذي قبل حجم العمل المضاعف الذي تقوم به النساء، أي استغلالهن المضاعف، والاستنزاف المفروض عليهن، هذا مع العلم أن هذه الأشغال لا تشكل إلا جزءًا يسيرًا من الأعباء التي تثقل كاهلهن".
ولنفس المُخاطبة، كتب في كانون الأول/ ديسمبر 1978: "زوجتي الحبيبة، الأسر يمتد، ثلاث سنوات متبقية، قصيرة وطويلة في آن واحد، الحريّة أصبحت أقل تجريدًا، وبالتالي أكثر إغراءً... لا يمكن للمرء أن ينزع من ذهنه العد العكسي... لا يصل الأمر إلى الفكرة الثابتة بالطبع، ولكنّ الزمن يتأنسن، والمسيرة تصبح وئيدة... شيء وحيد أصبح أكيدًا، هو أنّي كلّما فكرتُ فيما بعد المنفى، لا يشغل بالي أبدًا ماذا سأصبح أنا، وإنما ماذا سنصبح نحن، وطننا، رجاله، عالمنا".
واللعبي، الذي أطلق سراحة في 18 يوليو/ تموز 1980، ضمّن كتابه هذا، ومن دون تقصّد بلا شك، تثمينًا نقديًا للشِعر والأدب، ومبدعيه، وإدراكًا لأهمية التفكير النقدي، واحترامًا كبيرًا للمرأة وقدراتها، ولمعنى الطفولة، وتفكيرًا إنساني الطابع، من دون إغفال حالات التدفق الشعوري التي اشتمل عليها، ما بين حب وضعف وقلق وألم وأمل، ليخرج القارئ بأن "حياة السجن"، إن جاز توصيف "حياة" هنا، لا تفتقر إلى الغنى على مستويات عدّة، وهو ما أراد أن يقوله اللعبي للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.