Print
عماد الدين موسى

"النعي الأخير": شِعريّة الأرض البكر

28 أغسطس 2024
عروض


بلغةٍ سرديّةٍ شفيفة، وغايةٍ في البساطةِ والإدهاش؛ يواصل الشاعر العُماني إسحاق العجمي (من مواليد محافظة شمال الباطنة) تدوينَ يوميّاته/ يوميّاتنا، بتفاصيلها الحكائيّة الحميمة، حتى تلك المهملة والمتناهية في الصغر.

في مجموعته الشِعريّة الأحدث "النعي الأخير"، الصادرة عن الدار الأهليّة في عَمّان (2024)، يكتفي الشاعر إسحاق العجمي بالتقاط مشاهد بصريّة آسرة، لكأنّ الكاميرا وحدها تدور وتدور، كاميرا البصيرة لا البصر، إذْ ثمّة وصفٌ/ تصوير على طول الصفحات. كما في قصيدة بعنوان "آخر دروس الصحراء"، وفيها يقول: "اللّيل المحلّق في البعيد يلتقط من عمرك/ بطريقته المدهشة/ الوجود الّذي كنته/ اللّحظة الّتي تفقد خلودها/ وأوجاعك القادمة بعد أن تتمّ عملها/ يطيرُ بها إلىَّ النّسيانُ/ يرتحل إلى اللّا نهايات/ وفوق صدره غبارٌ لذكرياتٍ لم تستطع تجاوزها".

السلاسة في المقطع السابق، عدا عن تلك الصور الشِعريّة المتتابعة، أضفت المزيد من المرونة إلى أجواء القصيدة، وهو ما ينسحب على معظم قصائد المجموعة، الواقعة في مائة وأربعة وأربعين صفحة من القطع المتوسط.

حياة أبديّة

على الرغم من النَفَس الملحميّ الذي نجده لدى الشاعر العجمي في هذه المجموعة، إلا إنها تزخر بتلك اللمعات الشِعريّة الوامضة والمكثّفة في الآنِ معًا، والتي تشبه إلى حدٍّ ما قصيدة "الهايكو" اليابانيّة في تناولها لتلك المساحة الجماليّة من الطبيعة وما وراءها أيضًا، يقول: "الموجة/ تصعد تهبط/ بلا سترة نجاة/ كأنّ في داخلها/ حياة أبديّة". وفي مقطع آخر يأتي في ذات الاتجاه، نجده يقول: "ينمو ببطء/ إشارة خافتة/ الهلال/ ينزلق كمركبٍ بعيد/ يبدو في الليلة الأولى غير واقعيّ/ إلى جانب خيمةٍ هائلةٍ تحترق".

ثمّة جُملٌ مبتورة وأخرى غير مكتملة في النماذج السابقة، أشبه بألاعيب خفّةٍ داخل اللغةِ؛ جنبًا إلى جنب مع تلك العبارات المختزلة في بناء بؤر توتّر للشِعريّة داخل نصوص المجموعة.

أرض البراءة الأولى

في قصيدة بعنوان "الأرض البكر" يُعيدنا الشاعر إلى الحكاية الأولى/ أرض البراءة حيثُ "قصّة الخلق"... إذْ "ثمّة رواية لا بدّ أن تُحكى/ رحلة القادمين الأوائل"، حيثُ "خطوات أقدامنا الأولى"، وحيثُ "كانت الأرض بلا اسم"؛ حكايةٌ يرسمها الشاعر بمنتهى الحرفيّة والإتقان، في اسكتشات مسرحيّة متتاليّة.

هي مدينة فاضلة إذًا، ولكنها ليست ككل المدن، إذْ أنها من صنع الخيال لا أكثر، وما مكانها سوى في القلب وحده: "لا شأن للقلب بهذه البلاد/ وهذه البلاد حبيبة كلّ الأجداد".

حكاية داخل كل قصيدة

لعلّ ما وجدناه في القصيدة السابقة، خير مثالٍ على ما تذهبُ إليها قصائد هذه المجموعة، إذ ثمّة حكاية دراميّة داخل كلّ قصيدة، تشتبك وتتداخل مع عوالمها الشعريّة بشدّة؛ هنا تكمن مغامرة الشاعر في تأسيس جماليّات جديدةٍ لقصيدته؛ يقول: "بعد آلاف الأميال ثمّة ثورة مضادة/ حياتهم تدور في مراهنة/ ينظرون إلى عيون بعضهم/ ما من رمية نرد أخرى/ تعود بهم إلى حيث كانوا/ تركوا خلفهم الحقل وموائد الشراب/ وفي السراب القادم أوّل الفجر/ كانت رؤوس عائمة على وشك الغرق/ ونهر يشعر بالتعب".

"أوّل الفجر" في المقطع السابق بجانب "على وشك الغرق"، ليس سوى الأمل الذي طالما يسعى إليه الشاعر عبر نصوص "النعي الأخير"، عدا عن خصوصيته في تدوير عوالم سوداويّة إلى لوحات جماليّةٍ مذهلةٍ تشي بالمزيد من التفاؤل في غدٍ لا بدّ من أن يكون أفضل.

وهو ما يؤكّد أنّ "الشِعر" سيبقى الفنَّ الأكثر قدرةً واستيعابًا للبوح عن مكنونات الذات وكل ما يحيط بنا؛ سيما تلك الهموم والتفاصيل الآنيّة وغير الآنيّة، التي قد تصادفنا في حياتنا أو لا تصادفنا أيضًا.

جديرٌ بالذكّر أنّ الشاعر العجمي سبق أن أصدر مجموعتين شعريتين، هما: "ليل قصير" (دمشق- 2022) عن دار التكوين، و"صورة عكسية للفاو" (عمّان- 2023) عن دار أزمنة.