Print
يوسف الشايب

"استراحة بين شوطين": عن حرب كرة القدم الطائفية بلبنان!

29 أغسطس 2024
عروض

 

عام 1908 تظهر كرة القدم في لبنان، الذي كان حينذاك إحدى المقاطعات العثمانية، وتنتشر هذه اللعبة، بشكل خاص لدى طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، وفي عام 1933 يتأسّس الاتحاد اللبناني لكرة القدم.

قد يبدو ما سبق معلومات عامة مكرورة، لكنها في حال كتاب "استراحة بين شوطين" عن "كرة القدم أثناء الحرب اللبنانية (1975 - 1990)"، ظهرت كتوطئة متأخرة، في واحدة من القصص القصيرة التي شكلت هذه اليوميات للشاعر والمترجم اللبناني فوزي يمين، والصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، والذي كان لاعبًا في صفوف المنتخب الوطني اللبناني في تصفيات كأس العالم عام 1993، استعدادًا لـ"مونديال 1994".

تحت عنوان "قبل الحرب بعد الحرب"، تحدّث يمين عمّا يمكن وصفه بكرة القدم الطائفية، ففي الجهة الشرقية لبيروت يتواجد ملعب، يحمل اسم الحيّ الذي يعجّ بالطائفتين الأرمنية والمسيحية، ملعب برج حمّود، المقر الدائم لنادييّ "الهومنتمن" و"الهومنمن"، وملتقى لأندية "الرايسينغ" و"الحكمة" و"الاستقلال"، ويصفه بأنه "لا يهدأ على مدار الحقبة التاريخية تلك".

التقسيم الذي تفرضه الميول والغايات هنا وهناك، يتحوّل طائفيًا بشكل بحت، ورغم أن الأمر كان لا يعني للأندية في البداية، إلا أنه بات يشمل، مع الوقت، جزءًا من التركيبة الطائفيّة الكروية، ويؤجج التوزيع الديمغرافي للجماهير، فيغدو كلّ نادٍ ممثلًا لشريحة واسعة من الناس.

لم يكن أحد، حسب يمين، يعلم أن النفوس تحمل هذا الكمّ من الكره والتعصب الذي لا يمتّ للرياضة بصلة، ففي سبعينيات القرن الماضي كانت جماهير "نادي النجمة"، مثلًا، تخرج من "النبعة"، الحيّ الملاصق لملعب "برج حمود"، والذي ارتبط اسمه بالحرب، وكان يقطنه عشرات الآلاف من الطبقة الشيعية على وجه الخصوص، جنبًا إلى جنب مع الجمهور البيروتي، وآخر من الضاحية الجنوبية، ليقفوا جميعهم خلف فريق نادي "النجمة" في أحلك الظروف، وهذه الفئة، بحد ذاتها، نسيج من الفقراء والناس البسطاء الذين كانوا يرون في هذا الفريق هويّتهم، ويجدون فيه مكانًا للتعبير عن بؤسهم، رغم البعد الجغرافي، الذي يفصل بينهم وبين أحياء بيروت الأخرى.

ولعله يعبّر عن فكرة الكتاب بوضوح حين يكتب دون مواربة: ثم تنغلق المدرّجات على نفسها، فيقف الجمهور المسيحي ويتسلح بفرقته، ويتخذ من سيطرة نادية "الرايسينغ" التاريخية سببًا لوقوفه هذا، ويخرج جمهور من الأرمن خلف "الهومنتمن" و"الهومنمن"، ليُترجم توجهّات حزببي "الطاشناق" و"الهانشاق" المتناقضين فكريًا وسياسيًّا... في الجهة الأخرى: "النجمة"، و"الأنصار"، و"التضامن"، وهي أندية تمثّل التوجهات الأخرى التي تلوح على خطّ مناوئ للأندية المسيحية... الغرائز الكامنة تخرج دفعة واحدة بعد تتويج "النجمة" بطلًا عام 1972، وهيمنته على البطولة، وتفوّقه في كل شيء، وكان قبله "الرايسينغ"، "الهومنتمن" و"الهومنمن".

وذهب يمين إلى أن الخصم هو نفسه في الملعب وخارجه، سواء بالتشجيع أو بالكلام أو بغيره، فلا أحد يُنكر أن "كرة القدم عندنا امتداد لتراكمات تاريخيّة كانت قبل الحرب، ثم انتقلت إلى ما بعدها، حيث تغيّرت الكثير من المكوّنات التي حملت بُعدًا سياسيًّا وطائفيًّا وتحوّلات في البنية والعقيدة".

تتأثر اللعبة بالحرب، حسب صاحب كتاب "استراحة بين شوطين"، فقبلها كانت النار تحت الرماد، والأندية التي اعتادت أن تجمع لاعبين مسلمين ومسيحيّين على مدى سنوات طويلة، تخرج مكنوناتها، وتبدأ فرزًا ديموغرافيًا، يتناسب مع ميول إداراتها، فيصبح كلّ نادٍ يُعبّر عن فئة، تديرها الزعامات والتيّارات السياسيّة.

كانت اللعبة قبل الحرب عبارة عن أندية مقسّمة حسب المناطق، إذ أن الاختلاط بين الطوائف يومها لم يمنع اللاعبين من اللعب في بعض الأندية التي هي بطبيعتها إسلاميّة ومسيحيّة، لذلك كانت التشكيلات خليطًا من كل الطوائف، دون التفكير بالخلفيّات وتوابعها، فالمهم هو اللاعب في نادٍ للدرجة الممتازة، لتسليط الضوء عليه دون حواجز أو عوائق، كما حدث بعد ذلك، فيما يُساهم الشارع الكروي بفرز الأندية التي كانت منتشرة في بيروت قبل أن تندلع الحرب، وتنقسم إلى "شرقية" و"غربية".

تتبدّل قيادة اللعبة منذ عام 1985، فبعد هيمنة الطائفة المسيحيّة على رئاسة الاتحاد منذ عام 1976، حيث ترأس مسيحي اللجنة العليا، وتبوّأ مسيحي أرمني منصب الأمين العام، يحصل "التغيير الكبير" في المنظومة الرئيسة، "بسبب التحيّز الفاضح والغُبْن الذي يلحق ببعض الأندية" لصالح أخرى، بحسب "الفرز الطائفي"، ليستعيد يمين القرار الشهير في عام 1974، الذي أوقفت به اللجنة العليا الموسم لأسباب غير مقنعة في نهاية مرحلة الذهاب من الدوري العام، ما مثّل "قمّة الغُبْن، خصوصًا أن نادي النجمة كان مُتصدّرًا وذاهبًا للاحتفاظ باللقب، ليؤدي هذا القرار إلى إلغاء الموسم دون أيّ داعٍ".

ويواصل يمين تحليل انعكاسات الحرب الأهلية اللبنانية على كرة القدم في اللااستراحة بين الأشواط القاتلة، لافتًا إلى أنه، عند نشوب الحرب، تُترجم التوجّهات إلى تقسيم واقعي، تتوزّع فيه الأندية على البيروتيْن، حيث قرّر الاتحاد إقامة البطولة من أندية المنطقة الشرقية فقط، ما كان بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير"، فيستقيل عدد من أعضاء اللجنة العليا، وينبثق بعد ذلك بسنوات اتحاد 2 أيار/ مايو 1985، فيحدث التغيير الطائفي في التكوينة الرئيسة للعبة، حيث يصبح الرئيس من الطائفة الشيعيّة والأمين العام من الدروز، ويتم توزيع باقي الأعضاء على طريقة "الكوتا المذهبية"، ويمتد الأمر إلى الأندية.

ويسرد يمين أحداثًا مفصلية في قصّة "فريقنا" وهو "السلام"، كانت تداعياتها كبيرة أمنيًا، وسياسيًّا، جمعيًا، وشخصيًا، ففي شباط/ فبراير 1975 يُغتال معروف سعد، وبعدها بشهرين "بوسطة عين رمّانة"، وما بين عامي 1975 و1976 تندلع "حرب السنتين، مسلمون ضد مسيحيّين، بحجّة فلسطينية"، وفي عام 1976 تدخل لبنان قواتُ الردع العربية بحجة الدفاع عن الأمن، وفي 1977 يُغتال كمال جنبلاط بسيّارة سورية ذات رقم عراقي، واصفًا: "يهرع أستاذنا إلى بلكون الصف، ويُفرغ مشطًا من مسدّسه في الهواء"، وفي عام 1978 تُرتكب "مجزرة إِهدن"، التي يصفها بـ"منطقتنا"، بحجة "توحيد البندقية، فينقسم الصف الواحد"، وفي حزيران/ يونيو 1982 تجتاح إسرائيل بيروت، ويتردّد في الجوّ اسم "حرب الفنادق"، وأنا، والحديث ليمين، "ابن الخمسة عشر عامًا، آنذاك، أجتاح ملعب بلدتنا الكبير، أصول وأجول، خصري النحيل يميل ويمرّر التمريرات القاتلة، ساقاي الرفيعتان تكتبان في الهواء كلمة "نصر"... سنة، سنتان، أفرض نفسي، وأقود الفريق".

أيلول/ سبتمبر 1982 مجزرة صبرا وشاتيلا... 1982 انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس... 1982 – 1985 احتلال إسرائيل جنوب لبنان، وتناحر الأحزاب اللبنانية... 1985 بداية انقسام الاتحاد، لكنّ، تبقى مصلحتنا في اللعب في "الشرقية"، لما في ذلك من تسهيل كبير لنا نفسيًّا وجغرافيًّا وأمنيًّا... 1987 نفوز بكأس لبنان على نادي "الهومنتمن" بهدف لصالحنا... 1989 حرب التحرير... 1990 حرب الإلغاء، على حدّ وصفه.

وفي الكتاب الذي يمزج الشخصي بالرياضي وبالتأريخي، ما بين شغف الأدب وهوس كرة القدم، وما يجمعهما باعتبار الموهبة هي الأساس في النجاح هنا وهناك، يواصل يمين التحليل، متحدثًا عن انتهاء الحرب مبدئيًا.

يشير يمين إلى الفرق السياسية المتحاربة خلال هذه السنوات، أي من عام 1975 حتى عام 1990: الجبهة اللبنانية، وجيش لبنان الحرّ، وإسرائيل، ونمور الأحرار، والكتلة الوطنية اللبنانية، وحرّاس الأرز، والاتحاد الثوري الأرمني في لبنان، وحزب الرمغافار الديمقراطي اللبناني الأرمني، وحزب الطاشناق، وحزب الهمنشاك، والحزب الديمقراطي الاشتراكي، والحزب التقدمي الاشتراكي، والحزب السوري القومي الاجتماعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب العربي الديمقراطي، وحركة الناصرّيين المستقلين (المرابطون)، والحزب الشيوعي اللبناني، وحركة الوحدويّين الناصريّين، والتنظيم الشعبي الناصري، والحركة الوطنية اللبنانية، وجبهة المقاومة الوطنية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وحزب الله، وإيران، وحركة التوحيد الإسلامي، وسورية، وحركة أمل، وحركة فتح، والقوات اللبنانية، وجبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني، والمردة، وحزب الكتائب، والجيش اللبناني، وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، والقوة متعددة الجنسيّات في لبنان: الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وقوّات الردع العربية: السعودية والسودان والإمارات وليبيا واليمن الجنوبي.

أما الفرق الرياضية المتحاربة خلال ذات السنوات فهي: الأنصار، والنجمة، والصفاء، والشبيبة المزرعة، وشباب الساحل، والتضامن بيروت، والرايسينغ، والحكمة، والاستقلال، والأهلي صربا، والسلام زغرتا، والرياضة والأدب طرابلس، والأهلي صيدا، والتضامن صور، والبرج، والمبرّة، والشباب الغازيّة، والأخاء الأهلي عالية، والهومنتمن، والهومنمن.

يمين في "استراحة بين شوطين"، تحدث عن عشقه للمنتخب الألماني، وبدايات كرة القدم في أميركا الجنوبية وآسيا والقطب الشمالي وأوروبا، وعن "مارادونا"، و"مونديال 1978"، و"مونديال 1982"، بدون أن يتجاهل رموزًا في كرة القدم اللبنانية، وظروف لعب كرة القدم بالنسبة له ولرفاقه اليافعين، في ظل القصف، والحواجز العسكرية، والكمائن، ورعب الأهل، خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، ما دفع الكثيرين من حولهم للتجمع حول عبارة "لعن الله هذه اللعبة"!

ويخلص الكاتب اللاعب إلى أنه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، "تذهب البلاد إلى انفراج، تُحلّ الميليشيات، تُفتح الطرق، تعود الحياة إلى مجراها، يتمُ التداول في كلمات من قبيل: ائتلاف أو اتفاق".

و"مثل نتيجة مباراة في كرة القدم، تخسر الشرقية وتربح الغربية، وتُطرح شرعية الاتحاد على بساط البحث، أي اتحاد هو الشرعي؟... اتحاد الشرقية أم اتحاد الغربية؟... يتدخل مكتب دستوري فرنسي لفضّ الخلاف، وبعد وجهات نظر متعددة، يعطي الأحقيّة للاثنين"!

على المستوى السياسي، يجري اتفاق اللبنانيّين في الطائف بالسعودية، وعلى الصعيد الرياضي، وبسعي من رئيس الاتحاد السوري لكرة القدم، تبدأ الوساطات الوفاقيّة، وتُطرح الصيغة الإجماعية، للمّ شمل الاتحادين، لكن "لا يمشي الحال، ينفرط العقد، ويعود كل واحد إلى بيته"، لكن "بعدها، ووفقًا للمعطيات على الأرض، تُحسم النتيجة لصالح القويّ، الثاني، فالذي يفوز في الحرب يفوز في الرياضة عندنا، وهكذا ينضم فريقنا إلى اتحاد الغربيّة مع فريقي الرايسينغ والحكمة، وفريقي الأرمن الهومنتمن والهومنمن من الشرقية... ويكون التمثيل الطائفي، على الصعيدين السياسي والرياضي هو سيّد الموقف، بلا منازع".

جدير بالذكر أن فوزي يمين، من مواليد زغرتا، شمال لبنان عام 1967، كاتب ومترجم، وهو أستاذ متفرّغ في الجامعية اللبنانية، يحمل درجة الدكتوراه، ويدرّس مادتي "الشعر الحديث" و"محترف الكتابة" في كلية الآداب والعلوم الإنسانية فيها، كما يكتب في الصحافة منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وله الكثير من المقالات والتحقيقات والترجمات في العديد من الصحف اللبنانية: "النهار"، و"المستقبل"، و"السفير"، و"الأخبار"، وشارك في تجارب مسرحيّة وسينمائية. وفوزي يمّين شاعر حيث أصدر العديد من الدواوين، وهو لاعب سابق في نادي السلام زغرتا ونادي الحكمة بيروت لكرة القدم، وانضمّ إلى صفوف المنتخب اللبناني في تصفيات كأس العام 1993، ولُقّب بـ"المايسترو".