Print
منذر مصري

قراءة شخصيّة متأخّرة لاعترافات القديس أغوسطينوس

13 سبتمبر 2024
قراءات



"اكتشف كم أعطاك الربّ وخذ منه ما تحتاجه، أمّا الباقي فيحتاجه الآخرون"... (أغوسطينوس).

من يريد معرفة من هو القديس أغوسطينوس؟ متى ولد وأين؟ ومتى مات وكيف؟ فالمواقع على شبكة الإنترنت لن تبخل عليه بشيء، لا عن نشأته ولا عن ضلاله قبل إيمانه وتوبته ولا عن علاقته مع أمه وأبيه وابنه من المرأة التي كان يعاشرها دون زواج! ولا عن مؤلفاته التي ليست كثيرة، لهذا لا أجد داعيًا لإيراد أي معلومة عنه سوى أنّه ولد سنة 354 وتوفي سنة 420 م، أي أنه عاش وكتب كل هذا قبل ما يزيد عن 1600 سنة، لأنّها يجب أن تكون ماثلة في ذهن القارئ عند محاولته فهم وتقويم أيّ من أفكار الكتاب.
ولكن، في الوقت ذاته، يجب عليّ التنبيه إلى أنّ ما سأخطّه هنا هو مجرّد قراءة شخصيّة، إذا سمحت لنفسي بهذا التعبير غير المحدّد، لكتاب يعدّ، من منظور الحضارة الغربيّة على الأقل، من العشرة الكتب الأشدّ تأثيرًا في تاريخ الإنسانيّة، ألا وهو (اعترافات القديس أغوسطينوس). وذلك من قبل إنسان غير متخصّص، وليست له أيّ صفة معتبرة بهذا المجال، وغير مسيحي! لا أدري إن كان هذا يعني شيئًا. لكنّه اهتمّ خلال حقبة من حياته اهتمامًا زائدًا بالكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، وكان وما يزال يعود إليه من آن لآخر، كما إنّه قرأ يومًا (تاريخ كنيسة أنطاكية) واتبعه بكتاب مرجعي مهمّ، أبحث عنه الآن في مكتبتي ولا أجده بعنوان: (بولس الرسول)، حدث بعد قراءته أنّي كتبت قصيدة مطلعها: "يكفيني ما قرأت عن بولس الطرسوسي" ضاعت بدورها! كما أنّ لديه في مكتبته الأبعد ما تكون عن الأديان والمذاهب، (فهرس الكتاب المقدّس)، للدكتور جورج بوست، الذي يعرف بموسوعة ويكيبيديا بأنّه عالم نبات واستاذ جامعي أميركي، ولا يذكر فيها أنّ من بين مؤلفاته مثل هذا الكتاب، الذي يتطلّب، عدا معرفة موسعة بالكتاب المقدّس، معرفة أوسع باللغة العربيّة. والمجلد الضخم (قاموس الكتاب المقدس) ذا /1930/ صفحة من القطع الكبير، وكلاهما من منشورات رابطة الكنائس الانجيليّة في الشرق الأوسط، كنت قد اقتنيتهما واحتفظت بهما لأسباب أدبيّة بحتة.

قلت قراءة شخصيّة غير محدّدة، ذلك لأنّها تتضمّن انطباعاتي غير المحدّدة بدورها، كجميع ما يطلق عليه صفة انطباعات، التي أوحت لي بها هذه الفكرة أو تلك من أفكار أغوسطينوس، والتساؤلات الطليقة التي تثيرها، وإن كان عدم معرفتي بأجوبتها لا يعني أنّه لا يعرفها آخرون أعلم مني، ثم أخيرًا وليس آخرًا، الاكتشافات، التي سأشرح بعضها؛ لماذا هي اكتشافات بالنسبة إلي؟ وسأكتفي بأن أورد بعضها الآخر بدون الحاجة لتعليق، والتي بالتأكيد لست أوّل ولا آخر مكتشفيها، ولكنّ بعضها ربّما كذلك، من يدري؟
الغلاف: التراث الروحي. اعترافات القديس أغوسطينوس. نقلها إلى العربيّة الخوري يوحنّا الحلو. دار المشرق بيروت.
- عادتي عندما أعمد لقراءة كتاب ما، أصنع له غلافًا آخر، بغرض حماية غلافه الأصلي، وربما إخفاء غلافه الأصلي إن كنت غير معجب به. وكما ترون في الصورة (أعلاه)، فإن الغلاف الأصلي أجمل وأكثر ملاءمة لمضمون الكتاب بما لا يقاس.

قاموس الكتاب المقدس وفهرس الكتاب المقدس


- كتبت أعلى الصفحة الأولى غير المرقّمة: "1986. من كتب تصفية مكتبة (فكر وفن)". ولكنّ هذا ليس صحيحًا، فقد قمت بإغلاق المكتبة وتحويلها لمحل بيع أحذية أطفال، بعد اعتقالنا أنا وأخي رفعت، أيامَا معدودة، نهاية أيلول/ سبتمبر 1987، بتهمة توزيع وتداول منشورات رابطة العمل الشيوعي التي كانت تدسّ لنا من تحت الباب!
- 18/5/2024. برنامج قراءة 10 صفحات في كلّ مجيء إلى المرسم.
- عمرك 75 سنة، ولديك هذا الكتاب منذ 38 سنة، ولم تقرأ بعد (اعترافات القديس أوغسطينوس). وتقول عن نفسك: مثقّف!
ص6 غير المرقّمة- (طبع بإذن الرؤساء). فهناك رؤساء يتوجّب أخذ الإذن منهم! استوقفني هذا.
- الكتاب من القطع المتوسط. 330 صفحة، يتوزع على /13/ قسمًا، يطلق عليها بدورها اسم كتاب، الكتاب الأوّل، الكتاب التاسع، المطبعة الكاثوليكيّة 1988. طبعة ثالثة.
ص2- ولمّا سئل عن رأيه، لم يتورّع من أن يجيب: "نجاح المرء في فن المحاماة رهين بكذبه ونفاقه". ذكرني هذا بما يقوله جون لينون بعده بقرن ونصف القرن، في أغنيته (أنا اكتشفت)، يقول فيها: "لا أريد أن أكون محاميًا يا أمي، لا أريد أن أكذب". بالنسبة إلي، لا أوافق على هذا بالطبع، وأرى فيه فهمًا مغلوطًا وسيّئًا لفكرة المحاماة وغايتها!
ص7- اليوم الأوّل. الكتاب الأوّل. (الحداثة) استغربت العنوان أوّل ما قرأته، ما علاقة الاعترافات بقضيّة (الحداثة) فإذا به يقصد حداثة سنّه. كما استغربت كيف أنّه يبدأ كلّ شيء بوصف الإنسان: "وهو الجزء الحقير من مخلوقاتك" وحاولت فهمه بأنّه يقول ذلك عن نفسه لا عن سواه، مع أنّ هذا لا يثبته سياق الكلام. حيث أنّ الأشد أهميّة فيه هو إقرار أغوسطينوس منذ البداية بأنّ غاية الله في خلق البشر: "خلقتنا لأجلك".
ص9- "أي موضع يتّسع في ما يتسع له؟ هل تتسع لك السماوات أم الأرض التي خلقتها؟... أنا لم أصل إلى الجحيم، أمّا أنت فموجود فيها. ولو قدّر لي أن أهبط إلى الجحيم لوجدتك فيها". أظنني إذا تابعت قراءة اعترافات أغوسطينوس سأعود لكتابة الشعر بتأثيرات أنسي الحاج (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) وجيروم شاهين (عمدوني فأعطى اسمًا) ولكنّي أقلب الآن صفحات هذين الكتابين ولا أجد مثالًا واضحًا عن فكرتي هذه، غير أنّي أجدها في شعري:
      [تقولُ كُلُّ مَحطَّاتِ الرَصد
إنَّ أُمَّنا الأرض
لن تتَّسِعَ لكِ بعدَ سنتَين
أو أكثرَ أو أقلّ
فكيفَ عندَ ذاكَ ستنامينَ
أو ترقُدينَ مُتظاهِرةً
بالنَوم.] (آمال شاقة)
ص9- أحببت: "تحبّ ولا تلتهم، تغار ولا تهتم". مع أنّي أفضل لو قال: "تشتهي ولا تلتهم...". أمّا "تغار ولا تهتم" فلقد قلتها لثلاثة أشخاص على الأقل في اليوم الذي قرأتها فيه. كما يذكرني قوله: "تدفع ما عليك بدون أن تكون مديونًا لأحد"، بقولي في قصيدتي (على وجهك علامات براءتي):
     [واجِبُكَ أن تُعطي
وواجبي أن آخُذَ
وعِندَما أستعيرُ شيئًا ولا أعيدُهُ
أو أشتري بالدينِ ما لا حاجةَ لي بهِ
كعادتي
وبعدَ أن يُمهِلوني فَترةً
تطولُ أو تقصُر
يهرَعون إليكَ
ويطالِبونَكَ بتسديدِ دُيوني] (الصدى الذي أخطأ)
السطر الأخير- "من أنا في عينيك حتّى تأمرني بأن أحبّك؟" يتساءل أغوسطينوس عن أهميته، عن أهمّية الإنسان عند الله، حتّى يخصّه بأمره أن يحبه! ما هي غاية الله؟ ما هي حاجته؟ إلى هذا الحب من كائن وضيع، حقير، مثله! أم ترى فيه، في الإنسان، أهمّية هو نفسه لا يعرفها؟
ص10- "قل لي، بحقّ مراحمك: "أنا خلاصك". حينها سأعدو في أثر كلمتك، فلا تحجب وجهك عني". هنا بات واضحًا لي أنّي كنت أكتب بتأثيرات الشعراء الذي كانوا متأثّرين باعترافات أغوسطينوس، وأنا لم أكن قد قرأتها بعد. ففي قصيدتي (كنت ظلامًا فأضأتني بنظرة) مناجاة أغوسطينيّة صافية، منها:
[يا مَن أنظُرُ فيتوارى
يا مَن أفتَحُ أُذُنَيَّ وأُصغي
فيُبطِلُ هَمهمتَه
يا مَن أصيحُ بتِسعةٍ وتِسعينَ من أسمائهِ
فلا يُجيب
يا مَن أقِفُ عِندَ مَفرقِهِ
حائرًا
فيمحو طريقَه.] (الصدى الذي أخطأ) أعدكم هذه آخر مرة أستشهد بقصيدة لي!
ص12- يتساءل أغوسطينوس أين كان قبل ولادته، في أيّ محلّ؟ فهو لا يتذكر ولم ينبئه أحد. لكنّه يشعر بسذاجة تساؤلاته: "أتهزأ مني حين أبحث عنه؟"
ص13- "لا أحد يخلو من الخطيئة أمام عينيك، ولا ابن يوم واحد"! يصدمنا أغوسطينوس بهذا الحكم، أقصد الجزء الثاني منه. لكنّه ببساطة يعني بعرف أغوسطينوس، أنّ الإنسان يخرج من بطن أمه خاطئًا. أي أنّ كلّ إنسان يحمل الخطيئة بمجرد ولادته.
ص26- "حسد باطني تأجّج في صدري ضدّ من لم يجارني في ارتكاب الهفوات". وهذه طبيعة إنسانيّة معروفة، رغبة الإنسان أن يجاريه الآخرون بأخطائه، يؤكّدها هذا الغطّاس في الروح البشريّة.
ص29- "كلّ ما كان يطيب لي تلك الأيّام هو أن أعشق وأعشق... ولما بلغت أشدّي تصاعدت من أتون شهوتي الجسديّة أبخرة غمرت قلبي وأعمت بصيرتي، فما عدت أقوى على التمييز بين الحبّ الطاهر والحبّ الدنس الحالك السواد".  لكنّه يبطن لومًا لإلهه: "ابتعدت عنك ولم تزجرني... ملت مع تيّار فحشي ولم تقل لي كلمة، وفي أثناء سكوتك العميق...".
ص34- "منّي انبثقت المعاصي... سرقت ما كنت أملك أفضل وأوفر منه، لا طمعًا بالمسروق، بل حبًّا بالسرقة والإثم... إلى جانب كرمنا شجرة أجاص مثقلة بثمار لا شكل لها ولا طعم.، قصدتها تحت جنح الظلام مع زمرة من الفتيان الجهّال... وعدنا منها بأحمال لا لنتلذّذ بها، بل لنرميها للخنازير..."!

المعلقة - المدار المغلق- الأرض اليباب 


10/6/2024- خاطرة: "القليل من الأشياء الضارّة مفيد، والكثير من الأشياء النافعة ضارّ".
ص41- "وصلت إلى قرطاجة فراحت مراجل الهوى الأثيم تهدر حولي، لم أكن عاشقًا، بيد أنّي كنت أصبو إلى الحب... وبحثت، وأنا المتيم، عمّن أحب وأهوى...". يا إلهي، إنّه كلام يصلح أن أجعل منه، بحذف بعض كلماته، وتبديل مكان بعضها الآخر، مطلعًا لإحدى قصائدي. ولكن مهلًا مهلًا، أشعر أنّي قرأت مثل هذا الكلام سابقًا! أين؟ إنّه:
     [وأتيتُ إلى قرطاجة
مُحترقًا مُحترقًا مُحترقًا مُحترقًا
يا ربُّ أنتَ مَن ينتشلني
يا ربُّ أنتَ مَن ينتشل
مُحترقًا.]
آخر مقطع من القسم الثالث لقصيدة ت. إس. إليوت (الأرض اليباب)، ذي العنوان (موعظة النار). بترجمة الشاعر العراقي فاضل السلطاني. جيّد أنّي انتبهت. غير إنّ السلطاني في هوامشه يورد صياغة مختلفة لذلك المقطع: " ثم، أتيت إلى قرطاجة، حيث مرجل من غراميات فاحشة يئزّ في أذنيّ". فيرينا هذا إنّنا مع كلّ مترجم ربما نقرأ كتابًا آخر. كما بالرجوع إلى ترجمات قصيدة اليباب من قبل مترجمين سابقين، كلويس عوض مثلا، أو عبد الواحد لؤلؤة، فإنّك ستجد كلّ ترجمة في واد!
السطر الأخير- "برغم شناعتي وسفهي، فقد كنت أتوق، إشباعًا لأنانيتي، إلى أن أتظارف على مثال سكّان المدن"!. ذلك أنّ طبيعة أهل الريف الخشونة والصدق والعفويّة.
ص42- "امتلك المسرح عليّ حواسّي لما فيه من صور لشقاوتي ومن وقود لناري... شاطرت العشاق ملذّاتهم – تمثيلًا وتخيّلًا – بادلتهم فرحهم الأثيم وحزنهم يوم تفرّقوا، وفي كلا الحالين وجدت لذّة".
ص46- "وهذا الاسم، اسم ابنك... فكلّ كتاب يخلو من اسم يسوع لا يحلو لي، أيًّا كان أدبه وظرفه ونسقه وفلسفته". قارئ هوميروس وأسخيلوس وسوفوكليس، ودارس شيشرون وأفلاطون، ووريثه أفلوطونين، ومعلم البيان الخطابة، يتنكر لكلّ ذلك بدون تردّد. إلّا أنّه يستدرك وينتبه إلى أنّ هناك من بينه وبينهم معارك وخصومات: "نصبوا فخاخ الشيطان على ألسنتهم ووضعوا على شفاههم دبقًا جمعوا فيه مقاطع اتخذوها من اسمك واسم سيدنا يسوع المسيح".
نهاية الكتاب الثالث ص56- ألحت (أمه) عليه بأن يجتمع إلي ويحدثني بأمري، فضاق ذرع المطران ونفد صبره وقال لها: "اذهبي عني يا امرأة وثقي أنّ ابن هذه الدموع لن يهلك أبدًا". إذن من هنا جاءت تسمية أغوسطينوس بابن الدموع.
ص58- "اتّخذت لي زوجة غير شرعيّة، إشباعًا لشهوتي الجامحة".
ص59- "حين عزمت على الاشتراك في مباراة شعريّة، سألني أحد المنجّمين مبلغًا من المال ثمن فوزي على أقراني"! من هذا السطر نكتشف، أوّلًا، أنّ أغوسطينوس كان شاعرًا، فالشعر إذن، إحدى معاصيه أيام ضلاله! وثانيًا، أنّه منذ تلك الأيّام، وأظنّ قبلها بكثير، كان هناك من يفوز بالغشّ والرشوة.
ص62- "يا من تسيّرنا إليك على سبل غريبة!"
ص63- "سرّ الدموع". كتب محمد دريوس يومًا، بأنّي من سوغ له استخدام مفردة (الدموع) رغم ما تتصف به من عاطفيّة زائدة. غير أنّه يجدر السؤال من هم الذين وضعوا العناوين الداخليّة في الكتاب، كهذا العنوان أو مثلًا.
ص97- "كان في قرطاجة أسقف مانوي اسمه فوستوس وكان أحبولة شيطانيّة". إنّك تعرف أحابيل الشيطان جيّدًا يا سيد أغوسطينوس!
ــــــــــــــــــــ
وأحسب أنّه عملًا بقول القديس أغوسطينوس أعلاه: "اكتشف كم أعطاك الرب وخذ منه ما تحتاجه، أمّا الباقي فيحتاجه الآخرون". فإنّي سأكتفي الآن بأخذ هذا القدر من الاعترافات، آملًا أن يتيح لي الوقت لأكمل قراءتي المضجرة هذه وأتحفكم بحلقة ثانية وأخيرة في أقرب وقت.