Print
مها حسن

"على يمين القلب": رصد العالم بفطرة الأطفال

14 سبتمبر 2024
عروض


كتاب لا تود إنهاءه

من الكتب النادرة التي لم أرغب بإنهائها، خشية خسارة المتعة. حصل معي هذا لمرتين من قبل، مع كتاب "الكاتب وكوابيسه" لأرنستو ساباتو، ورواية "شريد المنازل" لجبور الدويهي، وحصل مؤخرًا مع رواية "على يمين القلب" لليالي بدر. حاولت البحث عن العناصر المشتركة بين الكتب الثلاثة للأرجنتيني واللبناني والفلسطينية، فوجدت أنها العمق والبساطة معًا. مع أن كتاب ساباتو لا يندرج تحت بند الرواية، لكنه ومع ميله ليكون بحثًا في عوالم الذات الإبداعية، إلا أنه يتقاسم مع الكتابين الآخرين هذه السمة النادرة: الحيوية وعدم الملل. هذا ما استوقفني في كتاب ليالي بدر: الحيوية مع البساطة العميقة. مع أنه الكتاب الأول للمخرجة الفلسطينية المقيمة في مصر، والتي اعتادت على اللغة البصرية خلال سنوات عملها الطويل، لكنها تشتغل بمهارة على اللغة المكتوبة، محاولةً التخلص من أثر السينما، بل لا تبدو لغتها بصرية كما أراها في هذه الرواية، إنما تفصل بدقة ومهارة بين تاريخ الصورة وحاضر الكلمة. تتدفق كتابة ليالي بعذوبة وهي تقص حياة عائلتها الفلسطينية على لسان إحدى بناتها "غرام" التي تشبه ليالي، والتي رغم ما كُتب عن الرواية بأنها سيرة ليالي الحقيقية، لكنها، بلعبة فنية، لاجئة دومًا إلى الفن، تعطي اسمًا آخر لبطلتها: غرام! في ردها على بعض أسئلتي، تفسّر ليالي سبب استعمال اسم غرام بدلًا من اسمها: "ومع هذا كنت خائفة، لأن هناك أشياء خاصة في الرواية، لهذا دعوت البطلة غرام".

العالم بعيني الطفولة النقية

منذ العبارة الافتتاحية: "نادتني أمي وأعطتني إبرة بخيط ملوّن"، وتظهر قوة الكتابة: المباشرة، الذاتية، التنوع، الجانب النسوي عبر مفردات: الأم، الإبرة والخيط ملوّن.
بكثير من العذوبة والسلاسة السردية تأخذنا ليالي بدر إلى عالمها السحري في أريحا، وتتنقل بنا في فلسطين والأردن، بخجل ورقة العارفات المتواضعات، لتدخل القارئ في عوالمها المحببة، عوالم الأنوثة، الحب، الصداقة، الوطن، الأمومة، الفن... وترصدها بعين طفلة. يبدو أن ليالي بدر تسقي عوالمها الفنية من بئر الطفولة الغني، العالم ذاته الذي عملت فيه سينمائيًا، لا تزال تستمد الإلهام والقصص الخصبة من عالم الأطفال. بطلتها غرام في رواية... ترصد العالم بتفاصيل صغيرة وبفطرة الأطفال الذين يفاجئوننا بذكائهم وبقدرتهم على التقاط صور نراها جميعًا لكننا لا ننتبه إليها. هذا الطفل الفضولي الذكي الذي يسم صورًا مبهرة للكبار، حيث الإبداع هو عالم الطفل. بذكاء شديد تستطيع ليالي بدر المرأة الناضجة أن تتصل بالطفلة التي في داخلها وتستمد منها المعرفة والصور والحكايات. هذه الطفلة التي كبرت وأصبحت أمًّا بدون أن تتخلى عن طفولتها فراحت تلعب مع ابنتها وتتساءل إذا كانت فعلًا أمًّا على مستوى الأمومة، "كثيرًا ما سألت ابنتي بعد أن أصبحت أمًّا: "هل كنت أمًّا جيدة"، فتجيبني بحب: "هل تذكرين كيف كنا نطوي الملاءات؟ أنت تمسكين بجانب وتجعلينني أمسك الطرف الآخر، وتقولين: يا جارتنا كيفك؟، فأرد: بخير"، ونبدأ بلعب حكاية الجارات ونطوي الملاءات معًا. (صفحة 134 من الرواية). في الصفحة 119 تتحدث غرام "أو ليالي" عن زواجها، في فصل تدعوه "عرس مبكر جدًا"، حيث وافقت إدارة المدرسة على دوام الطالبة مع زميلاتها حتى نهاية العام، وكان خطيبها يأتي ليأخذها في فسحة الخميس بعد المدرسة ويعيدها مساءً إلى البيت، لتقول عن أبيها في الصفحة 150: تزوج طفلة أصغر منه بكثير، وزوّجني وأنا طفلة.




هذه الطفلة بدأت بالتفكير في كتابة الرواية، حين كانت في مؤتمر تشارك فيه في الأردن، وهي جالسة في الشرفة تقرأ، رأت طفولتها قبالتها في أريحا. هكذا حدثتني ليالي بدر عن ولادة فكرة الرواية وظروف كتابتها: كنتُ مدعوة إلى ندوة نظمها الاتحاد الأوروبي عن السينما في البحر الميت في الأردن، وكنت أصطحب رواية عاموس عوز: "قصة عن الحب والظلام"، كان عوز يتحدث في روايته عن كيفية وصوله إلى فلسطين، قادمًا من ألاسكا التابعة لروسيا، وعن هجرته إلى فلسطين وعن إسرائيل والطريقة التي بُنيت فيها، بينما أنا الفلسطينية، أقرأ روايته على البحر الميت من ناحية الأردن، حيث من الناحية الأخرى مدينة أريحا التي كنت أراها من بعيد. كنت جالسة على الشرفة وهناك غروب الشمس ومن بعد أرى أضواء أريحا. انتابني شعور قوي بأنني يجب أن أكتب لعاموس وأرد عليه برسالة بأنه جاء من ألاسكا إلى فلسطين وهو يعيش فيها، بينما أنا المولودة في فلسطين في أريحا، ممنوع عليّ الذهاب إليها. وهكذا بدأت الرواية، على شكل رسالة.
عن مدة استغراق كتابة الرواية وسبب تأخرها، تقول ليالي: استغرقت طويلًا في الكتابة، قرابة خمس سنوات، كنت خائفة من المتابعة والنشر، أحد الأصدقاء الفلسطينيين اعتبر أنها كارثة أن أذكر عاموس عوز وكأنني أقيم له اعتبارًا. لهذا شعرت "ببلوك"، وباستعصاء متابعة الكتابة، إلى أن تحدثت يومًا مع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، الذي اقترح عليّ حذف كل ما يتعلق بعاموس عوز، وإلغاء فكرة الرسالة، ثم كتابة العمل على شكل رواية، ولكن بعد وفاة إسماعيل، توقفت مجددًا عن الكتابة، ثم تلقيت تشجيعًا من علي المقري، فعدت لكتابة الرواية، لكنني أيضًا كنت خائفة من نشرها، لأنني أتحدث فيها عن تفاصيل شخصية وعن عوالمي وعن عائلتي وأهلي.
سألتُ ليالي إن لم تخف بعد سيرتها الطويلة في السينما من الدخول كمبتدئة في عالم الرواية أم أنها اعتمدت على مسيرتها السينمائية لتنشر روايتها؟ أقرأ ليالي بخوفها، لكن الحدث الذي حررها من الخوف كان يوم 7 أكتوبر، هذا اليوم: "جعلني أشعر أنه من الواجب عليّ نشر هذه الرواية والتخلص من مخاوفي، سواء كمبتدئة في عالم الرواية، معروفة كمخرجة وحاصلة على جوائز عن أفلامي وأكتب سيناريو الآن، أو من الرواية ذاتها التي أتحدث فيها بشكل حقيقي وصادق. السابع من أكتوبر حررني من الخوف تمامًا لأنهي الرواية وأنشرها". هذا كتابك الأول، هل تنوين المتابعة، وهل هناك مشاريع سردية أخرى؟ سألتها مجددًا لتقول: كل من حولي يقولون لي أن أتابع الكتابة، وأشعر أنه لدي أشياء كثيرة لأكتبها، لكن في داخلي إحساس لا أستطيع تسميته، يسبب لي حيرة شديدة. أريد أن أكتب لأن الكتابة شفتني من أشياء كثيرة كانت تتعبني، لكن ما يحصل في غزة الآن يربكني فكريًا. أعتقد أنني سأكتب لاحقًا، حين أتخلص من حال الحزن التي في داخلي الآن، بسبب ما يحدث حولنا، واستعادة الصفاء. أشعر أن روايتي ساعدت الكثير من الناس وأن لدي تجربة وأنني أستطيع مساعدة الناس، كما ساعدتني كتب كثيرة في حياتي.

 ليالي بدر


كروائية، كنت مهتمة بمعرفة الفارق عن الرضى الذي يحصل عليه أحدنا أثناء كتابة الرواية، أو عن الرضى، الذي لا أعرفه، أثناء إنجاز العمل السينمائي، لتقول ليالي: الرضى الذي حققته الرواية مختلف. أنا بوعي مختلف الآن، كتبت الرواية في سن مختلف، بعد تجارب طويلة في الحياة. أفلامي كانت ترضي عالمي الطفولي. لكن الرواية عالجت أشياء في وعيي، بعد أن عملت على نفسي ودرست في علوم النفس لشفاء جروحي ومعاناتي، كأي امرأة فلسطينية أخرى. الرضى هنا له علاقة بالشفاء. وعن قدرتها في الفصل بين الرواية كسرد وبين تاريخها السينمائي واشتغالها على الصورة، وكذلك توظيف خبرتها السينمائية في الرواية، قالت بدر: بالتأكيد وظفت خبرتي السينمائية لكن بطريقة غير مباشرة. هذه طريقتي في التفكير، كمخرجة، أفكر بكل ما حولي في الحياة، عين المخرج هي عين المراقب، مثل الكاتب. هذا تكويني، الصورة أساسية، الرائحة، كل حواسي موجودة دائمًا.
إنها الرواية الأولى لليالي بدر، التي تسحر القارئ منذ السطور الأولى، لما تتسم به من شفافية ولغة خاصة جدًا لا يمكن تقليدها، فهي مثلًا تقول: "كنت أتخيل الفدائيين ملائكة بأجنحة مضيئة يواجهون الدبابات الإسرائيلية بصدور عارية ويصدونها عن مسارها. كان حلمي أن أصبح فدائية". أو تقول: "في دار الطفل العربي كانت لي أول أم لي غير أمي. إذ ستتوالى سلسلة أمهات كثر في حياتي. سأبحث عن أم في كل بلد أرومها"، أو "كتبت أول مرة عن رائحة المطر الذي نادرًا ما نراه في الكويت، كتبتُ عن عائلتي ووصفت الناس من حولي وهم يؤدون أدوارهم في مسرحية"... رواية ليالي بدر، وهي تتحدث عن النساء بطريقة هادئة، تحمل احتجاجًا رقيقًا، هي رواية أنثوية رقيقة، مليئة بالنقد لمجتمع الرجال القاسي، للأب الذي لم تفهم كيف احتملت زوجته، أم غرام - ليالي، رجلًا بتلك القسوة، عن زواج البنات الصغيرات، عن الحرمان من البحث والبحث عنه طيلة العمر، عن الحرمان من الأبناء، لتأتي الكتابة، "نار مضرمة، على يمين القلب، أعلى الحجاب الحاجز مباشرة. إما تطفئها على الورق، أو تحرقك...".
يُذكر أن ليالي بدر مولودة في أريحا في فلسطين، بدأت ككاتبة أطفال ثم مخرجة وكاتبة سيناريو. درست الإخراج في ألمانيا، والسيناريو في نيويورك. نالت العديد من الجوائز في المهرجانات العربية والدولية، وقد صدر لها كتابان للأطفال.