Print
محمود شريح

قصص وروايات من فلسطين والمنفى: الذاكرة كمحرّك سرد

18 سبتمبر 2024
عروض


د. لمى سخنيني في جديدها "الأعمال السرديّة الناجزة: قصص وروايات من فلسطين والمنفى" (عمّان: العائدون للنشر، 2024، في 344 صفحة من القطع الوسط، وغلافٌ أنيق من تصميم المؤلِّفة) ترتدُّ إلى ذكرى ماضيها لترسمَ تضاريس حاضرها، آخذةً بالتفاصيل الحياتيّة اليوميّة على أنّها علامات فارقة في تكوينها، فتضفي عليها بُعدًا سياسيًّا – اجتماعيًّا مطعّمًا بإقليم الحنين إلى فلسطين، فتزخرُ قصصها ورواياتها ويوميّاتها بالغياب والوحدة والعذاب، منطلقةً من روح الفلسطيني، في وطنه وفي منفاه القسري، ففي قصّتها القصيرة 1971 المُشبعة بالإيحاء، عودٌ على بدء:

هذه السنة الأُولى التي يواجه بها العربُ العالم من غير جمال عبد الناصر، وهذه السنة الأُولى للوجود الفعلي للمقاومة الفلسطينية في بيروت، والسنة الأُولى التي رأت بها النور مجلة شؤون فلسطينيّة من مركز الأبحاث الفلسطيني.

تعودُ إلى الماضي عبر شخوصها وتقرّر أن تبتعدَ عن كلّ من عرفها، فتهاجر من نفسها إلى داخل نفسها، وعلى لسان مهاجر من غربة إلى غربة، ومن مدينة إلى مدينة، هو الوافد إليها من مخيم عين الحلوة في صيدا – لبنان، غادرَ إلى كندا والتحقَ بجامعة تورنتو ودرس الفيزياء، ثم عاد إلى المدينة التي غادرَها إستجابةً لإلحاح أمّه، فأقامَ عند أهله، يُنصت إلى أحاديثهم عن فلسطين التي لم يرَها، ومنها استشهاد جدّه في معركة تل نابليون، فما أن كان السادس عشر من أيّار/ مايو 1948 حتى نزح أهله إلى جنوبي لبنان واتّقدت ذاكرة والده لتتنقّل بين وطن يشبه في أوصافه الجنّة وبين منفى يغلّفه الذلّ والعلقم.

هي الذاكرةُ محرّكُ سردِ سخنيني، فهي تكتب للذكرى، والذكرى في عُرفها ملكٌ مشاع، وقلبها دليلُها في تلبية نداء الأعماق، حيث تضاريس الأجداد ورائحة الغابات وعطر الصعتر، فترتدُّ إليها وتهجرُ ذكرى الآلات وقرقعة الوحوش المعدنيّة، في سبيل طمأنينة النفس: 

وفي بستانِ الورد، وقبل الفجر

بقليل اقتربتُ من وردة، بتلاتُها

المخمليّة تُطأطىء رأسها إجلالًا لسموّ

ندى الصباح. قلتُ لها كوني رفيقتي، كوني

مرآة لروحي...

ومع وافر الطمأنينة هذه إلّا أنّ الكاتبة محتارة وقلقة. تتأرجح بين عالميْن، أحدهما قد يكون سجنها، وثانيهما قد يكون حريّتها، فهي في زاوية من دنيا تمقتُها، وتجدها على وشك الانهيار، فلا عجب من تحليقها أحيانًا في أجواء سوريالية درءًا لواقع صلد وشظف.

مفرداتها حميمة تترقّب الفرجَ وأسلوبها ذاتي يعبق بالحنين إلى فردوس غائب، إلّا انها تحسبه قائمًا، فلا تغيب عنها جرأة نادرة في قصّها خطراتِ نفسِها على صفحة وجدانها. معاناتها معاناة أيّ فلسطينية ضاقَت بها الدنيا واتسع لها المنفى. من عمّان إلى مرتفعات مدينة أم قيس رحلتها ذات صباح خريفي تحت سماء صافية لتطلّ على مدينة طبريّة على الساحل الغربي لبحيرتها، بوّابة الحنين إلى الوطن الأوسع. تُدرك سخنيني أنّها في هذه الزاوية من العالم، إلا أنّها لا تدري أهو سجنها أو حرّيتها، ومع ذلك فهي فراشةٌ، خُلقت من قطرات النُّور، تحلّقُ، تفردُ جناحيها بعيدًا عن عالمٍ تمقته، وكأنّه على حافة الانهيار. لكنّها تعترف أنها التفاصيل اليوميّة للحياة هي ما يشدّها إلى الدنيا، واعية أن الرحيل إلى عالم مجهول، لو عرفَ الناسُ مدى نقائه، لما تردّدوا في العبور إليه.

واضحٌ من سردها قصصها ورواياتها وتتبع سيرتها أنّ لمى سخنيني تفردُ مساحة واسعة في أعمالها الناجزة هذه لتطوّر حياتها الخاصّة، من تربيتها ودراستها في عمّان وبيروت، إلى محجّتها العلمية في الغرب، وإن بقيت فلسطين، مسقط أهلها، في البال والذاكرة، مصدر وحي وإلهام. ومن هنا عودة دائمة في حوارياتها إلى تفاصيل الوطن وناسه، وحوارياتها هواجس متجذّرةٌ في خوفها على مصير الوطن وهو في أحلك أزمانه منذ نكبة 1948. 

تخصّصتْ في الفيزياء (دكتوراه من جامعة شمال ويلز في إنكلترا، 1994)، إلا أنها جمعتْ إليها الرواية والقصّة والترجمة، وهي مصوِّرة محترفة، وأسّست منذ عام 2019 مع شريكها الكاتب والشاعر عمر شبانة دار "العائدون للنشر والتوزيع" في عمّان، متخصّصة بالأدب والنقد وتاريخ فلسطين، قديمه وحديثه، وكلُّ ذلك، اختصاصًا وإبداعًا، جليٌّ في طيّاتِ سردها، لذا تلجأُ إلى الخطفِ خَلفًا فترتدُّ في أثناء التسلسل الزمني لمنطق سردها إلى ذكر أحداث ماضية لها وقع على حاضرها، فيما تحافظ في آن على ثبات عذاب روحها في الوطن والشتات، فتؤسسُ نثرًا يخلو من الزخرف والتنميق لإيصال رسالة تجنح إلى رسم تضاريس مأساة شعب عانى فصمدَ وكافح فانتصرَ، وإنْ كانت بلواه تنقلبُ عزيمةً تدحرُ روح المحتلّ وتنفي كيانَه بقهر غطرسته وتتحدّى أُممًا شرسة، رغم سلاحه الضئيل ودنياه الضيِّقة، كما هو سرد لمى سخنيني أداة تأريخية تقصُّ رواية شعب على صورة اعترافات وشبه سيرة ذاتية إطارُها التحليل النفسي والعنصر الشاعري، فتكمل مسيرةَ الرواية الفلسطينية الحديثة التي شرّع أبوابَها في أعقاب 1967 جبرا وحبيبي وكنفاني، إذ دفع هؤلاء بالرواية إلى آفاق جديدة تجلّى فيها ديالكتيك الفنّي والسياسي. حوّل حبيبي المأساة ملهاة والملهاة جرحًا لا يلتئم ما دام الوطن باقيًا تحت الاحتلال، فيما أشادَ جبرا بنيانًا روائيًا شامخًا مسكونًا بالوطن والفرد، ورسّخ كنفاني مسارَ أدب نضالي موغلٍ في الإبداع، وها هي رواية سخنيني تكملة لخطاب بسيط ومباشر في بيت توفيق زيّاد إذ خلّد فيه سجلّ شعب على جذع زيتونة: 

سأبقى قائمًا أحفر

جميعَ فصول مأساتي

وكلّ مراحل النكبة

من الحبّة

إلى القبّة

على زيتونة

في ساحة الدّار... 

وهي زيتونة دائمة الخضرة على مدى مئة عام – من عبد الكريم الكرمي، أبو سلمى، إلى محمود درويش – وها هي اليوم ملتهبة بفيض عطائها.