لم يحظ أديب عُماني بما حظي به الشاعر سيف الرّحبي من اهتمام عربي بتجربته الشعرية، فقد ارتبط وجه الأدب العُماني باسمه، وبات أنموذجًا ناجحًا في مسلكه الأدبي. وأرى أن الأثر الحقيقي في مسيرته هو "الرحلة"، بالملمح الصوفي، فهو أثر أصيل يصقل التجربة الشعرية والأدبية، بما وصلت إليه، فلم تكن نزوة طارئة، بل "نزوى" فصلية.
يفتح سيف الرّحبي حبره في سطوره، كما أسماها "حياة على عجل"، منمنمات تأمله وفكره في شذرات كتابية تعبّر وتعبر به، كشريط ذاكرة مرئية في زمكانية الرحلة. يطرق السؤال الكبير: ماذا يستطيع كاتب جمل وكلمات، شعرًا أو نثرًا، أن يقول لقارئ سواء كان موجودًا في الواقع، أو في المجال الافتراضي لمخيلة الكاتب والكتابة؟ وفي هذا السياق أستذكر قول الله تعالى "نون والقلم وما يسطرون"، وهو قسم عظيم، لنحس بعظمة الكلمة وتأثيرها.
يتطرق سيف الرحبي لثنائية الكائن المغترب والتسويات الممكنة، حيث عبّر عن رأيه بأن "انقلبت معايير المنفى والوطن وتصدّعت حيث تبادلا الأدوار في عملية انقلاب ناعمة مخادعة، وفق الشروط السياسية والاجتماعية والتعبيرية في أكثر من بلد، وحيث أصبح الوطن هو ما دعي بالمنفى وكذلك العكس". الإشكالية التي تنبثق من هذا المعنى؛ هل الأمكنة الأولى هي أمكنة الحنين؟ أم أن الطمأنينة والدور المعيشي المريح والتفاعل الجيد مع المحيط هو المحدد للعلاقة بين الإنسان والمكان؟
سُئل أحدهم: ما هو طموحك؟ فأجاب: بيت وزوجة وسيارة ومشروع ووو... إلخ... من الأمنيات المعيشية، فرد عليه السائل: لم أسألك عن حقوقك، بل عن طموحك؟! وفي هذا نستدل على الإحساس الداخلي هو ما يدفع لتأطير العلاقة الحقيقية بين المغترب والمكان.
يطل سيف الرحبي عبر شرفته الفكرية على عالم السينما، معتبرًا أنها لم تعد ذاك الوهج المؤثر الذي يسرق اهتمام المُشاهد، حيث يقول: "لم تعد الخدعة مقتصرة على السينما، وعوالمها وشخصياتها، بحيث باتت توصم من قبل الوعي العام بالسلب، كونها قرينة "الكذب" حتى وصل ذلك الكذب إلى مسمى "الكذب الإبداعي"!
وهذا حديث يقترب بدرجة كبيرة للصواب، فنرى أن عالم السينما أصبح مجرد عالم للتسلية والترفيه عن النفس حتى يصل لأضيق حد من خلال تعبئة وقت فارغ فقط، بما جعل مسمى عالم السينما يختلف عن الماضي، حيث كان المُشاهد يذهب إلى مبنى خاص، وكثيرًا ما كان مقترنًا بالصحبة من باب "فسحة" وإن كان اهتمامًا بالمحتوى، أما في هذا الحاضر فإن المشاهد - إن أراد - قد لا يتجشّم عناء الذهاب إلى صالة السينما، فهناك قنوات فضائية متخصّصة في عرض جميع أنواع العروض المرئية، وهناك قنوات أخرى - بمقابل مادي - تعرض ما يود المشاهد رؤيته وفي الوقت الذي يريده، ورغم أن هذا يوفر الجهد والوقت إلا أنه ينتزع شيئا من النفس، تماما كالفرق بين القراءة الورقية والقراءة الإلكترونية.
تخرج عن هذا النطاق العروض الوثائقية والأعمال التوثيقة وغيرها من الأعمال التي تعد أرشيفًا لأشياء غير خيالية.
إن النقطة الفاصلة بين أن يرى أحدنا مشهدًا واقعيًا للشمس حين تسطع واستنشاق الهواء ورؤية الفراشات، وبين أن يرى نفس المشهد في قالب سينمائي هو الإحساس والمعايشة للحظة الفارقة، تمامًا كمن يصوّر بهاتفه المحمول مشهدًا احتفاليًا ينشغل بضبط الصوت والإضاءة وإعدادات التصوير، وآخر يشاهده مباشرة مع حاسة السمع ويحوز الاستمتاع به.
يطل سيف الرحبي على شطر الغياب في ذاته ويختصر ذلك في إمداده بحضور الشاعر الفلسطيني محمود درويش المتكرّر في إنتاجه الشعري رغم غيابه الجسدي، فيقول: "نقرأ محمود درويش الآن، محدّقين في ذواتنا الممزقة بالغيابات والجثث والأشلاء، وتلك الطفولة المضيئة ككوكب انفصل عن هذه الأرض الصدئة، ومن المستحيل استعادته إلا عبر الحلم والشعر... ما يجمعنا بمحمود درويش والفلسطينيين ليس بداهة مناصرة القضيّة في بعدها المباشر الذي تجمع عليه كل هذه الأكوام من ‘الذباب الموسمي‘، وإنما روح المتاهة التي طوّحت بنا إلى أقاصي العدم الباحث عن جماله المفتَقَد، المعذَّب والمستحيل".
أزعم أن وصف "ذواتنا الممزقة بالغيابات والجثث والأشلاء" هو وصف تعبيري عام لاشخصي، وإلا فمن أين تأتي الجثث والأشلاء - وهي حالة دموية- لبلد مسالم ووازن كعُمان!
إن هذا التعبير هو فكر الشاعر والأديب تجاه قضايا أمته، وليس تمثيلًا لحقيقة شخصية.
يبدو أن السياحة الرّوحية هي جرعة منشطة للكتابة عند الرحبي في ذات عنوان مقاله "السياحة الرّوحيّة والكتابة"، موضحًا أنها "ليس لذاتها، وإنما لاستفزاز مكامن الروح في الذات المترحّلة والعالم بحيواته المختلفة... لا لرغبة حفظها الأرشيفي والتاريخي، وذكر صفاتها ومعالمها... وإنما لما تضيئه وتكشفه من خفايا روحيّة ونفسيّة ووجوديّة في الذات المترحّلة في التخوم والآفاق... وتكون الكتابة تاريخا روحيّا للذوات والوقائع ينزع نحو الباطن والكشف لما يمور ويختبئ خلف الظواهر الحسيّة والعيانيّة".
ويضيف الرحبي: "الرحلة الواقعيّة تكون عاديّة ومضجرة حد القرف، إذا لم تقترن بأبعادها الرمزيّة والماورائية...".
وكوني أقيم في قطاع غزة، فإني أعلم أن هذه السياحة الروحيّة تعدّ مكوّنًا أساسيًا في الانفلات من الكوارث جرّاء الاحتلال وأعباء الحياة الثقيلة، التي يرزح تحتها القطاع المحاصر سابقًا والمحاصر والمحتل حاليًا.
السفر تغيّر للحال، إراحة للعين والسمع من روتين حياة ما، بشخوصها وأماكنها، واختلاف في التعبير اللفظي بلسان يمارس أحيانًا لهجة مختلفة ولغة أخرى، وبشكل يشذب السلوك كونه محصّلًا لتغيّر الحال وتغيير نمط ممارسة المشاهدة والسمع، حتى يمكن تشكل تأمل ينخرط في أحلام النوم!
"الظهيرة تستفز القيامة بشكل مبكر"، قول لسيف الرحبي كتبه تحت ضغط الصيف اللاهب، ومن هذا نتبيّن أن من الطبيعي أن يفضّل البرد على الحر حين يقول: "لكن رغم هذه النشأة البيئيّة أفضّل البرد على الحر وأتمنى وأحلم بالليالي الباردة وحتى الصّقيعيّة منها. ولا تختزن ذاكرتي أي سوء تجاه الحياة التي عشتها في كنف المدن التي تندرج في هذا السياق".
ربما كان هذا نابعًا من حال الدفء المتاح في الشتاءات خلافًا للصيف الذي وإن توفرت وسائل التّكييف في مكان مغلق، فإنها لا تتوفر في الأماكن المفتوحة اللّازمة الارتياد كالطرق وغيرها. لكن هذه الحال حال خاصة، فكثير من البشر يعافون الشتاء لتقلّباته المناخيّة والتي لا تتوفر فيها وسائل التّأقلم حيث الشتاءات القارصة والبنية الضعيفة لأحوال كثيرين.
يمارس الرحبي هواية التّنقل بقلمه للأماكن التي زارها أو مكث فيها، إما توثيقًا أو تذكرًا له بما مارسه أو تحفيزًا على إمداد حياته بما لم تصله كينونة بعد من أماكن، ومما يتشكّل خلال ذلك من إمداد بشري عبر صحبة ترتحل معه أو تتلاقى مواعدة أو مصادفة؛ كل هذا يجعلنا لا نُفاجأ بالإنتاج الشعري لسيف الرحبي، بل نعجب بالتنشئة الذّاتية لحبره وثقافته وفق مكنون أدبي خاص ذي بصمة واضحة، تعترف بشخصية إنسانية أدبية حجزت لها مكانًا واسعًا في المشهد العربي، ومبديًا عرض نفسه عالميًا من خلال التّواصل لأعماله بلغات عدة.
يهرب الكثير من رؤية المقابر أو الحديث عنها، كون الكينونة الإنسانية تحب الحياة وممارساتها، فما بالنا بشاعر كسيف الرّحبي، يضرب المواعيد مع أصدقائه الأدباء لزيارة المقابر، ومنها مقبرة بير لاشيز في باريس!
يذكر سيف الرحبي عددًا من أصدقائه ممن كانوا يتوافقون معه في زيارة المقابر، ومنهم عبد اللطيف اللعبي ورشيد الصباغي وغيرهما، وطريف الذكر أنه اقترح على هدى بركات مرافقته للمقبرة في أول أيام السنة، حينها قالت مازحة: "سيف أول أيام السنة، وفي مقبرة، شو هل التفاؤل الجميل؟".
أعتقد أن هذا لا يكون إلا لشخصية تريد الغَرف من الحياة قبل المغادرة، وإن كان غَرفًا من مقام الأموات، ويمكن من خلال ذلك التأمل في حيوات كانت، وباتت تمارس حيوات أخرى في مقابر!
ما دلالة زيارة المقابر لإنسان أولًا، وشاعر ثانيًا إلا استشعارًا ومراجعة للذّات، ومحاولة لغسل القلب من أدران المنغصات الحياتية، وتذكرة للفكر ضمن حدود أجساد أهل الأدب والفن، وفي هذا الإطار يتذكّر الرّحبي مقولة سيروان عن كون التّنزه في المقابر "يهدّد القلق العصف ويروّض روع الموت!".
يحفل كتاب سيف الرّحبي "حياة على عجل" بباقة من الأسماء التي يراها لامعة، وما كان منها مؤثرًا في حياة وفكر الرحبي أمثال: صموئيل شمعون، إنجمار برجمان، أنطونيوني، فيلليني، دوستويفسكي، نزار قباني، غالب هلسا، سركون بولص، عباس بيضون، أمين الزاوي، جواد الأسدي، بسام حجار، يوسف الخال، أدونيس، وغيرهم الكثير.
هذه الأسماء التي ضمّت كتّابًا لا تعبّر عن لقاءات عابرة أو التقاط صور للتوثيق أو مزاحمة لحضور مُستحق، وإنما تعبّر عن الاشتباك الحقيقي ضمن كينونة خاصة بسيف الرّحبي، فكما أن النشر في صحف ومجلات في أواخر العقود الأخيرة من الألفية الأولى لم يكن متاحًا سوى للجديرين بالنشر حبرًا وقيمة، كان التفاعل معها فكرة وطريقة دليلًا على علوّ كعب من يندرج بين هذه الأسماء، ولعل هذا الغمر حجز مكانًا لسيف الرّحبي في باقة كتّاب مجلة "شعر"، وهو ما جعل لاحقًا مجلة "نزوى" ولادة حقيقية ارتبط اسمها باسم سيف الرّحبي، فكانت كما عنون مقالة "احتفاءً بالثقافة... احتفاءً بالشعر"، وكأن هذا العنوان يُرجعنا إلى مجلة "شعر" التي كانت "نهوضًا بالثقافة... نهوضًا بالشعر".
ما من شاعر نال ما ناله المتنبي، ليس لأنه شاعر ملأ الآفاق في عصر كان فيه أفذاذ الشعراء، ففاقهم قوة وثراء شعريًا، يقول الرحبي: "يكمن سر المتنبي أولًا، في قوته الشعرية الاستثنائية، في طاقتها المدهشة وجموحها وتدفقها". وهذا قول صحيح، وهناك جانب آخر، ذكاء المتنبي واستغلاله لكل زمان ومكان وشخوص، يقتنص اللحظة المناسبة في ممارسة ذكائه، فيعلو كعبه ذكرًا وحالًا، حتى وصل الأمر إلى اختيار خصومه بشكل يعزّز حظوته في مسيرته، فهناك من مدحهم وما لبث أن هجاهم ككافور الإخشيدي مثلًا!
وعن عنوان آخر مقالة "الخطابة (علم) الدجل"، أرى أن الخطابة ليست علمًا بالدرجة الأولى، وإلا لأفردت الجامعات له تخصصًا مستقلًا باسمه، فالخطابة ليست مجرد ظاهرة صوتية، وإلا لرأينا من يمتلك صوتًا جهورًا هو الأكثر حظوة! الخطابة معرفة إنسانية وملكة ذاتية، يمكن إذكاؤها باكتساب مهارات معينة تزيد التأثير في الفئة المستهدفة، لكن العمود الأساسي للخطابة هو الإقناع، وبغيرها يسقط هدف الخطابة في بئر عبثي لا يؤدي الغرض المرجو منها (الاتصال)، وينتفي من خلال طاقة الإرسال وطاقة الاستقبال.
من خلال إضاءة بعض عناوين الكتاب، رأيت كيف يكتب سيف الرّحبي الأنا، موزّعًا حبره بين نتفات اليوميات المقتطفة وبين منمنمات السيرة الذاتية في كتابه "حياة على عجل"، وقد أتقن في جرّنا للبحث عن إنتاجه لنعرف ولنغرف مما كتبه وما لم نقرؤه بعد.