Print
ليندا نصار

فلسفة الكتابة وغابات الشعر في"حيوان عمودي"

20 سبتمبر 2024
عروض




ما الذي يدفع شاعرًا إلى تفجير اللغة من داخل غابات قصيدة النثر الحارقة والمحرقة؟ هل هو البحث عن استعارة كلية تعبر عن فلسفته في الكتابة وإمعانه في التجريب الذي يتخذ من المعنى الملتبس أفقًا لمحاورة الثقافات والديانات والنصوص والحيوات التي يعيشها الإنسان المعاصر بارتباكاته المتعدّدة داخل توحّشه المطلق وارتهانه إلى شكل بدائي من التفكير والموت الرمزي؟ أليس هذا هو ما يؤسّس لشعرية الرفض التي تكون أجزاء هذا الكتاب الشعري الصادر مؤخرًا عن دار مسكلياني التونسية.

يُفتتح كتاب "حيوان عمودي" للشاعر أشرف القرقني بتوطئة تسعى إلى بناء حدود اللغة باعتبارها عتبة لبناء فكرة الشعر بحثًا عن المعنى المحجوب الذي يحتاج إلى التأويل خصوصًا وأن الجرح قديم... أوليس الشعر في نهاية المطاف مورفين مضاد للألم. يقول الشاعر: "هنا/ في هذا الخيط الغامض الذي/ يمتد بين الكلمات/ أنزفُ/ وفيها/ أدل القُروش عليّ/ أنا جرحٌ قديمٌ/ لا يلتئمُ/ إذا قرأتَني بقلب طفلٍ وحيدٍ/عرفْتَني/ أما إذا/ فلستَ/ ودمعتي لا تعنيك/ أفقي/ لا/ يعنيك/ ووردتي التي/ سوف تشرقُ حمراءَ/ بعد غدٍ/ ترابٌ/ في يديْك"، وبالتالي يتعزز فهم المسافة النقدية التي يعمد الشاعر إلى تمريرها عبر المتخيل الشعري الذي يدفعه إلى العيش مع الكلمات حتى وإن كان النزيف مدويًا؛ ذلك أن أسماء القرش لا تبحث سوى عن اللون الأحمر المعادل للدم؛ فجرح الشاعر يربك المحيطات، ولهذا هو قديم لا يمكن أن يلتئم ما دام البعث لا يمكن أن يأتي من غد موحش لا تسعفه الورود الحمراء مهما كان الأمل قويًا. إن الطفل هنا هو الشاعر القارئ الباحث عن حياة أخرى في الكلمات على الرغم من قلقه الدائم تجاه صوره أمام المرآة في نهاية هذا الكتاب الشعري. يقول الشاعر: " أفضلُ ألّا/ أقولَ شيئًا للنُّدبة الصّغيرة المخفيّة في صورة المرآةٍ تحت شفتيْ وجهٍ/ كنتُ أظنُّه لبعض الوقت/ وجهي/ أجدَ القصيدة التي تقولُ جُمْلَتي كلَّها/ تلك التي طالما تعثّرتْ في لساني/ منذُ كنتُ طفلًا عاريًا/ بخيطٍ صغيرٍ رهيفٍ بين الفخذيْن/ يرفع رأسهُ في ليالي الصيف/ إلى نجمة هاربةٍ/ ويُتأتئُ لها/ بغمغمةٍ حارقة"...

إن هذه المحاورة الرفيعة بين صوت محتجب يداري غرابته وصوت رغبة دفينة في قول أي شيء لما هو مخفي في الصورة تحوّلها إلى قلق مصاحب للقصيدة بوصفها فضاء للإقامة على نحو ينشد الاقتصاد في اللغة، طالما أن الشعر همس وترميز وعدم قول كل شيء في الجملة الشعرية التي تروّض ذاكرة طفل تتعثر في لسانه الكلمات بخيط الكتابة الغامض. يرمّم الشاعر هذا الأفق العمودي الذي يسقطه في فخ الوقوف أمام مراياه الداخلية. يقول الشاعر: "غدًا يأتي الصّيفُ عاريًا يا صاحبي/ غدًا/ لن يعرفَ أحدُنا الآخر/ حقًّا/ حتّى يُسمَع في داخله/ عند التفاتة الوداع/ صوتُ طفلٍ يهتفُ/ بالعلامة".

ولعل غنى معجم عالم الحيوان في الديوان يشير إلى هروب رمزي ما نحو لغة تحمل الكثير من المعاني المؤولة، أو التي تم تجسيمها بحكمة العارف، بالتكثيف الشعري الذي يظهر بصورة واضحة في القصائد، كما هو ماثل في نصوص "حيوان عمودي" و"الحشرة النائمة في قصيدة النثر" و"حلم أم قصيدة". وبعودتنا إلى هذه القصائد نجد أن فلسفة الكتابة حاضرة في وعيها النصوصي من خلال التشكيل البصري للنطفة في طريقها نحو التواجد عبر الحب، كأننا أمام مشهد مجهري يختزل فكرة الرغبة والحب والجسد الذي ينمو وفق قانون الطبيعة. يقول الشاعر: "من جلدهِ يخرجُ. ثمّ يدخلُ في حجره/ الذّئبُ: أنيابهُ من جرحٍ طريٍّ/ لكنّها.../ قلبهُ في فريسته. والفريسةُ هو، حالـمًا بما ليس يقترحهُ العالمُ: مخالبهُ الحبُّ، ضعيفًا ومنهكًا/ الحبُّ وحيدًا ويتيمًا/ قويًّا وهائجًا/ الحبُّ/ ولا شيء يتبعهُ غير نفسه الوحيدة...". هكذا جاء التجريد الفني لفكرة الحب المتجسّدة عبر الفعل الذي لا يأويه سوى مخالب الحب بحدّ ذاته في لحظات الضعف والقوة، كأن هذه الثنائيات التي تجعل جرحًا طريًا حين يصبح القلب فريسة للذئب وفي الوقت نفسه هو قلب الفريسة طالما أن البحث عن المجهول هو الذي يغري هذا الحيوان العمودي بالحفر حيث لا خيط يسحبه إلى ذلك الأفق المنشود. يقول الشاعر: "طبعًا، لا أعرفُ اسمي. أو كيف تُسمّيني موسوعةُ الحيوان أو الشّيخُ غوغل. الأسماءُ في العالم الذي كنتُ فيه قبل أن أصل إلى هنا، زائدةٌ عن الحاجة. هنا اللّاوصولُ، اكتمالُ الرّحلة...". كما يمكن أن نتمثل جيدًا تلك الحدود التي أشرنا إليها في علاقة الشاعر باللغة حين يراودها عن نفسها فتنصاع له وهو يجعلها تعزف من دون حاجة إلى الإيقاع "الكلمات تغني في الحائط/ فأين إيقاعُها؟" (ص34)؛ لأنها تكتب بالعروق. وهنا يفصح الشاعر عن موقف نقدي بعيدًا عن التخييل الشعري قريبًا من التخييل الذاتي بصورة مطلقة ينتصر فيها الشاعر لقصيدة محمود البريكان المعنونة بـ"قصيدة ذات مركز متحول" من مختاراته الشعرية "متاهة الفراشة"؛ وهو ما يبدو واضحًا في هذا المقطع الشعري من قصيدة "الحشرة النائمة في قصيدة النثر". يقول الشاعر: "أن يقرأني أشرف القرقني محشورة "بين المجرات"، ويعدّ قوائمي في فضول كلبٍ كسولٍ يُسرّح الوقت كيفما شاء، ثمّ يُسمّيني ذات القوائم السّتّ أو قملة الكتاب، ثم ينسى من أكون أصلًا./ مضحكٌ/ حتّى إنّه يُبكي روحي المعلّقة في عليائها/ هذا الرقادُ الأبديّ في قصيدةٍ تنتهي بهذا السّقوط: أكتب حتّى تجفّ العروق. وأبصر هاويةً/ الصفحاتُ الأخيرة فارغةٌ. وأمامي/ يمتدُّ البياض السّحيق".



هذا التحول في بناء المعنى عبر الإفادة من جغرافيات شعرية وثقافية يجعل منطق الكتابة يقابله الحفر عن المعنى المخاتل الذي لا يمنح نفسه للشاعر فما بالك بالقارئ. هل يعني هذا أن أشرف القرقني يكتب، لا ليمجّد صوته وحسب، وإنما يكتب ليقول مع صوته إن الشعر يكتب مع تلك الأصوات التي لم ينصفها تاريخ الشعر، بل يبقى جوهره وروحه معلقة في هذا البكاء التراجيدي حول فكرة السقوط نفسها التي تتخذ أشكالًا متعددة في هذا الكتاب؛ حتى وإن اعترف الشاعر أن المسخ لا يخيفه أبدًا في غابة الشعر ما دام حالمًا بالمجرّات، وهذا ما يعزّز حضور النفس الكافكاوي في شعرية أشرف القرقني. يقول الشاعر: "عادةٌ سرّيّةٌ يأكلُ من ثمارها دون أن ينفذُوا إلى حُجُبِها البعيدة، هذا ما وجدتُه في تعريف الكتابة في قاموسي الشّخصيّ، ثمّ رميتُه داخلي. أكلتُه. وفتحتُ الباب عليّ: ماذا يفعلُ أناسٌ مُتعبُون في سوقٍ ببغدادَ في القرن الثّاني الهجريّ؟ ما دخلُهم بقصيدتي التي تُحاول أن تفرَش مجلسًا لأبي الميّت؟ كيف سقط وجهُ المتنبّي من سقفٍ باردٍ في رواقٍ مُظلمٍ بعيد؟ كيف انْعقد هذا الرّباطُ بصوتٍ يهتفُ في خشوعٍ: "قرّبَا مربط النّعامة منّي"؟ ولماذا أتنزّهُ متاهةٍ من آخرينَ يتحرّكُون مثل كُريّاتٍ حمراءَ بيضاءَ في دمي، وحين أُدركُ حافّةَ السّياجِ أسمعُ قصيدةٌ لأشرف القرقني؟".

إننا أمام تجريب شعري من داخل فلسفة الكتابة الشعرية، تجريب يقوم على محاورة الأصوات، لا استعارتها بصورة ما داخل الكون الشعري، انطلاقًا من فهم دقيق لقصيدة النثر وإيقاعها الداخلي؛ إذ لا كتابة تعلو فوق وعي يلغي علاقتها بتلك التشابكات التي تشبه كرياتنا الحمراء والبيضاء وضرورة الفصل فيما بينها حيث يقيم الشعر من دون شك لطبيعة الألم الداخلي الذي يجعل الشاعر حزينًا على مآلات الذات والوطن والحياة الطبيعية، في سياق غابة أصر الشاعر على تلوينها بحيوانات لا نجدها في الطبيعة المتوحشة ولكنها حيوانات تتوحش بفعل خروج الإنسان من إنسانيته، وتحوّله إلى حشرات لا تشبه حشرات كافكا، التي تعلّمنا منها كيف لا تموت الدموع في داخلنا مهما تغيّر شكل الجسد ومهما تغيّرت قوانين الطبيعة وجاذبيتها... إننا أمام شاعر يسيج عالمه الشعري بلغة شرسة غير مهادنة، تقول ما لا يقال عادة، عبر بلاغة الانزياح الكثيرة في هذا الكتاب الشعري. يكتب الشاعر في مكان آخر: "دون أن يعرف أحدٌ/ أنّ التي كنتَ تبكي داخلها/ تُسمى بلادي/ أنّ التي تضحكُ فيها/ تسمّى عبثًا أو خيالًا/ التي تنزفُ فيها/ تسمّى بيتي أو عائلتي/ أو بعبارة أدقَّ/ حياتي التي تتكسّرُ/ منذ الأبد/ بين الصفحات".