Print
دارين حوماني

"البعد الخامس": إعادة إنتاج مفردة من مفردات بيروت المطوية

24 سبتمبر 2024
عروض

في خطوة جريئة وشجاعة، صدر العدد الأول من مجلة "البعد الخامس" في بيروت عن "دار زمكان"، بصيغتيها المطبوعة والإلكترونيّة، موقّعة من أبرز الشعراء والكتّاب اللبنانيين والعرب. ومجلّة "البُعد الخامس" هي مجلة شهرية ثقافية شاملة لموضوعات في الفكر والفلسفة والأدب والفن وعلم النفس وغير ذلك، انطلقت بحلم جمع الكاتبين شادي منصور وعبد الحليم حمود اللذين آمنا بقدرة بيروت على إعادة إنتاج جو ثقافي بعد الركود النفسي والاقتصادي الذي تسبّب فيه سياسيوها على مدى عقود أوصلوا بيروت لما وصلت إليه من الحزن والانكماش على نفسها.

في الصفحة الأولى من المجلة نقرأ أنها "مجلة تؤمن بمزج الإبداعات الشابّة بالأقلام المخضرمة، ضمن فضاء من الحريّة، والابتكار المُغاير، مُستفيدة من جلّ التجارب التي سبقتها في مجالات الأدب، والفنّ، والفكر".

ويُطالعنا غلاف المجلة بلوحة للفنان اللبناني حسن الجوني؛ وألوان الجوني تدفعك إلى عالم مضاء، إلى بيروت مضاءة، على الرغم من كل ما تحمل لوحاته من معانٍ دفينة مرتبطة بحزن ما، إلا أن شيئًا ما في ألوانه يحوّلك مباشرة إلى مكان آخر تتصالح فيه مع نفسك، ومع الوجود. ويمكن القول إن اختيار حسن الجوني كان البداية الجميلة التي ربما كتب عنها قبل آلاف السنين أفلاطون: "البداية في أهم جزء في العمل".

يكتب شادي منصور في كلمة العدد الأول ما يعيدنا إلى أنفسنا، طفولتنا التي كانت تفتش عن الصحف والمجلات والكتب بين أزقة بيروت، تحت سقف حرب أهلية قد توقفك عن السير عند حدود الشارع المقابل لك:

"في زمن الحرب الأهلية، كان ذلك الطفل يتجول في شوارع بيروت القديمة، باحثًا عن مجلة هنا وكتاب هناك. كانت الفرحة تملأ قلبه عندما يجد ضالّته في تلك المكتبات التي تستعرض أغلفة الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية وتلك الدورية. أن يصبح ذلك الفتى، الذي كنته، مراسلًا ويكتب بضعة أسطر في صفحات تلك المجلات، لهو حدث عظيم في هاتيك الأيام، لكنني كنتُ أفعلها، وأنتظر بشغف مواعيد الصدور لأقرأ اسمي. أحلامي كانت بسيطة جدًا... بعد خمسة وثلاثين عامًا يتحقق الحلم بضخّ الحياة في أوردة ذلك الطفل البعيد الذي كدتُ أن أنساه، لكنه تجسّد أمامي ليحمل بين أصابعه مجلة من ورق وحبر وحب وشغف". 

ويكتب عبد الحليم حمود:

"هو جسد العدد الأول من مجلة البعد الخامس لكن روحه ليست الأولى، حيث كنا ‘أبولو‘ ذات مرة، و‘شعر‘ ذات ثورة، و‘مواقف‘ و‘الكرمل‘ و‘الناقد‘... أجل نحن سلسلة من حلقة تؤمن بهذه الأمة، أو ببعض طاقاتها المشرقة و‘المشرقية‘ ففتحت بابًا لهؤلاء ليقولوا بحريّة بلا سقف وجدّية بلا قعر".

في المجلة أسماء وموضوعات ولوحات، كل ما فيها يشدّك إلى بيروت ذات يوم، كأن بيروت كانت تحتاج إلى هذه المجلة بدون أن تخبرنا هي عن ذلك، نقرأ عن "الصراع العالمي الجديد" للمفكر الفلسطيني منير شفيق، و"الصالونات والجماعات الأدبية ما زالت صالحة" للروائي المصري ممدوح عبد الستار، و"قمصلة أبي الخاكيّة" للكاتب العراقي كريم عبد الله، و"الإعلام سلاح نووي... فماذا فعلنا" للإعلامي جمال فيّاض، و"ماري أنطوانيت الشقية أو حين يشيطن الثوار حكامهم" للباحث فيصل جلول، و"الاغتصاب الوحيد الذي يبدو مشروعًا" للكاتبة لين نجم، و"فلاديمير ماياكوفسكي ولغز الانتحار" للكاتبة هبة قطيش، و"جلالة اللون" للفنانة خيرات الزين، و"النطفة الناطقة" للشاعر زاهي وهبي، و"مارسيل خليفة... الذاكرة حين تصبح بطابقين" للشاعر عبد الغني طليس، و"المسرح بين الطقوس والترفيه" للمخرج جو قديح، والحوار مع حسن الجوني الذي أجرته الرسامة باسمة عطوي، وغيرها من الأسماء والموضوعات.

نسأل الفنان والكاتب عبد الحليم حمود عن هذه الخطوة الشجاعة في وقت يمرّ على بيروت يفضّل فيه حتى المثقفون منها شراء رغيف خبز على شراء كتاب.

انطلقت مجلة "البعد الخامس" بحلم جمع الكاتبين شادي منصور (يسار) وعبد الحليم حمود


عن الفكرة والبداية يقول حمود:

"ولدت مجلة البعد الخامس من ‘رحم دار زمكان‘. وزمكان هي مزيج من الزمان، ومن المكان أي 3 D ثلاثة أبعاد، وجاء أينشتاين وقال إن الزمان هو البُعد الرابع. فالزمكان هو فعليًا أيضًا دار الأبعاد الأربعة. عندما قررنا أن نُطلق مجلة أنا وشريكي شادي منصور، قررنا بما أنها ولدت من رحم الدار، فليكن اسمها متقاطعًا معه، لذلك كانت هي البعد الخامس، والمخيلة التي نتقاطع معها في هذه المجلة".

ويضيف حمود:

"بدأت الفكرة بنقاش حول ما إذا كانت شهرية أو فصلية، لضمان استمرارها بسبب التكلفة، وخصوصًا أن أبرز المجلات الأدبية العريقة كانت فصلية، لكن بهذه الإيقاعية سنكون بطيئين بالإطلالة على الناس. ووجدنا أن صدورها شهريًا هو الأكثر منطقية. درسنا التكلفة والكتّاب الذين سنتعامل معهم، وخصوصًا أن المقالات ستكون غير مدفوعة، التكلفة ستكون في الورق والتصميم، وبهذا فإن المشروع غير إعجازي إذا كانت النية جدّية، خاصة أن المشروع لا يبتغي الربح، ولكن نستقبل الإعلانات من باب المساهمة. أهم نقطة، هي أن لا تضعف المجلة بعد عددين أو ثلاثة. نطمح بأن نكمل المشروع ولو لسنوات نقول فيه إننا صنعنا بصمة".

وعن الكتّاب في المجلة، يذكر حمود:

"كانت مساهمة الكتّاب في العدد الأول دعمًا لهذا المشروع، المناضل الفلسطيني الصديق منير الشفيق قدّم لنا مقالًا، الشاعر زاهي وهبي أعطانا قصيدة، الناقد جو قديح كتب مقالًا عن المسرح، الفنانة خيرات الزين، الشاعر عبد الغني طليس، الدكتور فيصل جلول أيضًا كتبوا مقالات للمجلة، والكثير من الأقلام الشابة. وتعمّدنا أن نمزج الجيل المخضرم مع الجيل الشاب، هذا الخلط مقصود، لا يمكننا الاعتماد على الشباب فقط ولا يمكننا فقط أن نعتمد على المكرّسين، لذلك شعر الشباب بهيبة الفكرة عندما وجدوا أنهم ينشرون في مجلة ورقية، وفي نفس الوقت، الصفحة السابقة لمقالهم هي لمفكر أو لشاعر مكرّس، فشعروا بالمسؤولية".

عن المساهمين في انطلاق العدد، يقول حمود:

"يوجد فريق جدّي، وكما نقول تطوّعي، مديرة التحرير رنا يتيم، قسم الفن التشكيلي باسمة عطوي، القسم الفكري هيام فرج، قسم القراءات عبير عربيد، قسم التربية شربل محفوظ، هلا حداد في الشؤون الفنية والدرامية والسينمائية، القسم الأدبي هبة قطيش، وقسم علم النفس بإشراف المعالج علي الحمود".

كانت انطلاقة المجلة في منتدى خيرات الزين، في حفل شارك فيه العديد من أدباء وفناني بيروت، ويعلّق حمود على ذلك:

"أن ننطلق من هذا المكان، منتدى خيرات الزين، ليس عفويًا، لأنه المكان حيث يجلس فيه بشكل يومي مثقفو بيروت، هو مقهى للنقاش والسجال البيروتي في رأس بيروت تحديدًا، هذه المجلة ما كانت صدرت لولا هذه الشرعية، والشرعية التي أضفاها علينا الأشخاص الذين كتبوا فيها، ولولا جدّيتنا في هذا العالم الأدبي والفني منذ فترة طويلة. أيضًا الإعلام تلقى الأمر وتمت استضافتنا في عدّة قنوات وإذاعات. الحقيقة أن الكل شعر بأن هذه المجلة هي مجلته، والكل تكلم عنها بصيغة الـ ‘نحن‘، كأننا نطلق هذه المجلة باسم بيروت، وباسم المشهد الثقافي ببيروت. تخطت الفكرة أنه يوجد شابان أحبا أن يقوما بمشروع أو بإضافة ما، تحوّلنا بلحظة من أفراد إلى ممثلي جماعة. هذه الجماعة تشعر بغبن أو بأزمة، أو ثمة وطأة لتحولات ما في بيروت. علمًا أن مجلتنا ليست فقط ورقية، لدينا الموقع الإلكتروني للمجلة ولا ننافي التحولات في العالم، نقول إنه بالموازاة نستطيع أن نكون ورقيين".

يضيف حمود:

"بدأت المشروعية من الحوار مع الفنان التشكيلي حسن الجوني وصورته على الغلاف، منذ أن رأى الجميع الجوني على الغلاف أدركوا أن هذا الرجل لا يضع اسمه إلا في المكان الذي يثق فيه. الحوار الذي أجرته باسمة عطوي معه كان رافدًا قويًا في الواجهة، قبل أن تعبّر عن مكنونك، الناس تعطي انطباعًا، فالانطباع أعطى المناخ الجيد من الغلاف. الدور الفني للتصميم الداخلي له مكانته، فالمصمّم حسان يوسف أدخل فلسفة الفراغ إلى المجلة من خلال تصميم مبني على البياض وإعطاء مساحات واسعة للّوحة. سيجد القارئ أن أي مقال في أي مجال ترافقه لوحة، أنا أشتغل أغلب هذه اللوحات، أو نختار أعمالًا لفنانين من لبنان والعالم العربي، لدينا لوحة للفنان السوري سعد يكن ولوحة للفنان الفلسطيني ماهر الحاج".  

ويختم حمود: "نحن كدار نشر زمكان، صار لدينا مكتب في مبنى العازارية في ساحة الشهداء وسط بيروت، لنقول إننا نطلّ من قلب البلد".

والحقيقة أنه لا بدّ من حاضنة لمثل هذه المشروعات، في زمن هو زمن رغيف الخبز في بيروت، حيث نقاشات المثقفين انسحبت من آخر الإصدارات الأدبية والأعمال الفنية في بيروت وباريس ولندن ونيويورك والعالم العربي، إلى نقاش آخر حول إمكانية الاستمرار في العيش... "البعد الخامس" تحرّك فينا نوستالجيا عميقة لوقت ما مضى، هي استعادة لمفردة من مفردات بيروت التي طواها الحزن إلى أقصاه.