Print
عمر كوش

عن الحرب الباردة الجديدة وأطوارها

27 سبتمبر 2024
عروض

شهد تاريخ العالم الحديث صراعات دولية متعددة، وخاضت الأنظمة الحاكمة حروبًا مدمرة أودت بحياة ملايين البشر، وذلك في سياق الصراع على مناطق النفوذ والسيطرة، وعلى الثروات الطبيعية وطرق التجارة وسوى ذلك، وجرى التمييز بين أنواع الحروب، حيث ساد مصطلح الحرب الباردة على حالة الصراع والتوتر، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بعد عام 1947، وانقسم العالم خلالها إلى معسكرين متخاصمين، تقود أحدهما الولايات المتحدة، ودعي المعسكر الغربي، فيما قاد المعسكر الثاني الاتحاد السوفياتي السابق، وأطلق عليه اسم المعسكر الشرقي، واعتبر العديد من الساسة أن هذه الحرب الباردة انتهت مع سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي ومعه دول المنظومة الاشتراكية في عام 1991.
غير أن الحديث عاد منذ سنوات حول تجدّد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وذلك مع زيادة حدة التنافس بينها، إلى جانب تزايد حدة القطبية في العالم، والحروب التجارية. وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا كي يقدم دليلًا قويًا على أنه ثمة "حرب باردة جديدة" بين الشرق والغرب، فزادت كمية التحليلات حول عمق الانقسام الجيوسياسي بين الشرق والغرب، وبلوغ العداوة بين روسيا والغرب حدًا يماثل ما كان عليه خلال أشد فترات الحرب الباردة إثارة للتوتر. وعليه يؤكد جلبير الأشقر، في كتابه "الحرب الباردة الجديدة"، الذي صدر مؤخرًا (دار الساقي)، وترجمه كل من عمر الشافعي وعمر فتحي، أن الحرب الباردة لم تنته بانهيار الاتحاد السوفياتي، بل اتخذت أشكالًا جديدة مع القرن الحادي والعشرين، خاصة مع سعي الولايات المتحدة إلى ترسيخ هيمنتها العالمية في العقد الأخير من القرن العشرين الماضي، وذلك على حساب روسيا والصين، الأمر الذي دفع هاتين الدولتين إلى التقارب والتنسيق بينهما، وأفضى إلى عودة الحرب الباردة بصيغة جديدة.
يركز الكتاب على سعي الولايات المتحدة للهيمنة وتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعلى وضع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم تطورها على المستوى الدولي في ظل حكم فلاديمير بوتين، إضافة إلى صعود الصين، بوصفها لاعبًا كبيرًا على الساحة الدولية. ويجري تناول هذه القضايا من زاوية السياسات الخارجية لكل دولة وسعيها لتحقيق مصالحها على حساب الدول الأخرى، مع النظر في سياساتها وفق العوامل الداخلية، والكشف عن نزوعها إلى التسلح والعسكرة، وخاصة الإدمان الأميركي على الاقتصاد الحربي الدائم، الذي لا يستفيد منه سوى أصحاب المجتمع العسكري الصناعي الأميركي، ودوائر النظام في كل من روسيا والصين.



 
ووفق هذا التصور، يستعرض المؤلف الاستراتيجية الأميركية التي وضعها ساسة البيت الأبيض للسيطرة على العالم بعد تربع بلادهم كقطب وحيد على رأس النظام العالمي الجديد، والاعتراضات التي أبدتها روسيا والصين، محاولًا تلمس الأسباب الكامنة وراء هذا المسعى، الذي اقترن برفع مستوى الجاهزية العسكرية عبر تخصيص مليارات الدولارات للإنفاق عليها، وتجسد أهمها في انعدام الثقة بين الأقطاب الجديدة، حسبما أشار إليه التقييم الاستراتيجي الصادر عن معهد الدراسات القومية لعام 1997. وكان للمتغيرات السياسية التي شهدها العالم بعد عام 1990 الأثر الكبير في إعادة التوتر إلى العلاقات الدولية، حيث ساهم تدهور الأوضاع في روسيا وحرب كوسوفو في زيادة التوتر في العلاقات الروسية الأميركية، إضافة إلى تبني الولايات المتحدة سياسة توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) بوصفها خطوة استباقية في مواجهة احتمال ظهور قوة مهيمنة يمكن أن تواجه أوروبا، وذلك على خلفية اعتبارها أن ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا إلى جانب توغلاتها العسكرية ودعم الروس الانفصاليين في شرق أوكرانيا وتدخلها في جورجيا، هي مؤشرات على تغييرات في البيئة الأمنية في أوروبا، التي استدعت تعزيز حلف الناتو وجوده العسكري في الجزء الشرقي من أوروبا، وساهم مجيء أكثر الإدارات الأميركية هوسًا بالحرب مع جورج بوش الابن عام 2000 في توسيع دور الولايات المتحدة شرقًا، بينما وجدت روسيا في انضمام دول البلطيق للناتو تحديا كبيرًا لها. وقد استدعى كل ذلك عودة جديدة للحرب الباردة، ولم يكن العامل الأيديولوجي أساسها كما شاع. في المقابل، شعرت روسيا بخيبة كبيرة من عدم تدفق الدعم المالي الغربي عليها، ومن الضغط عليها للتسليم بتحييد دول البلطيق، ثم ضمها إلى حلف الناتو والمنظمات الغربية، إضافة إلى عدم رغبة الولايات المتحدة في دمج روسيا في المجتمع الدولي، ورفضت تقديم مساعدات لها، الأمر الذي أثر على علاقتهما سلبًا. في حين أن الصين الناهضة اقتصاديًا، والقوة الصاعدة على الساحة الدولية، واجهت حربًا تجارية، وفرضت قيود أميركية على منتجاتها، فضلًا عن التحالفات التي أقامتها الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادي. وقد أسهم انهيار الاتحاد السوفياتي في تغير استراتيجية الولايات المتحدة حيال الصين، إذ اتبعت الإدارات الأميركية المتعاقبة سياسات حاولت فيها منع التعاون الصيني مع الاتحاد السوفياتي، لكنها غيرت تلك السياسات، وراحت تدعم النزعة الاستقلالية لدى الساسة في تايوان، حيث شكلت أزمة تايوان في عام 1996 نقطة تحول في السياسة الصينية، التي أعلنت دخول الصين معترك الحرب الباردة الجديدة إلى جانب روسيا.
يعتبر المؤلف أن حرب كوسوفو لعبت دورًا أساسيًا في تسهيل وصول فلاديمير بوتين إلى حكم روسيا، لكن صعوده يعزوه إلى التزامن بين استيلائه على دفة رئاسة روسيا وعودة أسعار النفط إلى الارتفاع بعد عقد من الانخفاض، وتماشى ذلك مع تحول روسيا إلى نظام أطلق عليه العالم الروسي غليب بافوفسكي "الديمقراطية المدارة"، التي تخفي نظامًا سياسيًا شبه سلطوي، مموّه، كي يبدو كما لو أنه يمثل إرادة الشعب. ويمكن وصفه بنظام فاشي جديد. وكان طبيعيًا أن يلجأ بوتين إلى "العلاج بالصدمة" للواقع الذي خلفه بوريس يلتسين، سواء على مستوى الفشل الاقتصادي المريع، أم على مستوى السلطة التي استفرد في الإحكام عليها. وبعد فشل سعيه إلى الاندماج في العالم الغربي والشراكة مع حلف الناتو في تقاسم النفوذ والمصالح، تخلى بوتين عن هذه السياسة، ليكشف عن سياسة جديدة تنهض على السعي للعب دور مركزي، اعتمادًا على قوة روسيا العسكرية وما تمتلكه من ثروات طبيعية، حيث قام بالعمل على مركزة السلطة في شخصه، وتعيين المقربين منه في القطاعات والمراكز الحساسة في السلطة والدولة، وتولى عملية استيلاء نظامه على قطاع النفط والغاز. إضافة إلى تعزيز دور أجهزة الأمن الروسية، وزيادة الانفاق العسكري، وتحديث الصناعات العسكرية الروسية.
يستفيض المؤلف بالحديث عن طموحات بوتين، وعن تسارع مسار تحول نظامه إلى أقصى الحدود بعد إعادة انتخابه رئيسًا في عام 2012، ثم ضمه لشبه جزيرة القرم وعدوانه على شرق أوكرانيا في 2014، ثم وصل إلى منعطف نوعي مع الهجوم الروسي الشامل على أوكرانيا في عام 2022. ولعل الهدف الرئيسي من الكتاب هو تتبع التفاعل بين سياسات الولايات المتحدة ومسار روسيا تحت حكم بوتين، لذلك يركز على ما يفيد بتحول الحرب الباردة الجديدة إلى ساخنة خلال عقدين من الزمن، والتي تحكمت فيه خمسة أطوار، أولها يبدأ من عام 1999 وينتهي في عام 2003، حيث أشرفت إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون على المسار الخطر الذي أدى إلى حالة كارثية في العلاقات الدولية خلال حرب البلقان، والطور الثاني يمتد من عام 2004 إلى عام 2008، أي من الغزو الأميركي للعراق في مارس/ آذار عام 2003، الذي تجاهلت فيه الولايات المتحدة القانون الدولي، ثم تمدد حلف الناتو شرقًا، الأمر الذي عارضته موسكو بشدة. ويأتي الطور الرابع من عام 2008 إلى عام 2010، الذي بدأ بإعلان استقلال كوسوفو، وشهد الحرب الروسية على جورجيا، واعتراف روسيا باستقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتا الجنوبية وانفصالهما عن جورجيا. أما الطور الرابع فيمتد من عام 2011 إلى عام 2014، وشهدت الفترة من 2011 إلى 2013 احتجاجات ضد بوتين في موسكو وسان بطرسبرغ وسواهما، واتهم بوتين الولايات المتحدة ودول الغرب بالوقوف وراءها. ويأتي الطور الخامس من عام 2015 إلى عام 2022 الذي توجته المواجهة بين روسيا ودول الغرب بقيادة الولايات المتحدة بعد شن روسيا حربها على أوكرانيا التي ما تزال مستمرة إلى اليوم.
  يتوقف المؤلف عند التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، محاولًا فهم حسابات بوتين في هذا التدخل، ومعتبرًا أنه منح بوتين بعض الأوراق التي يمكنه أن يشهرها بوجه الغرب، لكنه لا يتطرق إلى التفاهم الروسي الأميركي على التدخل، الذي تمّ بما يشبه الضوء الأخضر من طرف إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. يكفي أن أذكر هنا ما قاله أندرو إكسوم"، نائب وزير الدفاع الأميركي لسياسات الشرق الأوسط، في شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس: "كنا قلقين من أن نظام الأسد قد ينهار أخيرًا، بطريقة تعرِّض مصالح الولايات المتحدة للخطر، بما في ذلك أمن دولة إسرائيل. وأدى هذا الخوف إلى إنشاء قناة مباشرة للمفاوضات مع الروس في سورية عام 2015، بما يرقى إلى مستوى التنسيق بين القوتين، بناءً على ما أصبح سريعًا مجال اهتمام مشترك، وهو تجنب انهيار نظام الأسد"!