الملاحظ على الرواية، التي تحظى بمكانة لافتة في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، وبخاصة من ناحية "تخليق المتخيّل" ومن ناحية ما تمثلّه هذه الرواية من هوية ما بعد كولونيالية باعتبارها "هوية متصدّعة" (Fissurée)، أنها لم تحظ في النقد المعاصر بالمغرب بقراءات تفيد من النظرية الأخيرة. فما يمكن التوقّف عنده لا يعدو أن يكون دراسات متناثرة ساهم بها باحثون أجانب. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى دراسة مايكل هول (من جامعة ملبورن في أستراليا) "عام الفيل ــ قراءة بنظرية ما بعد الاستعمار"، وهي متضمنة في الكتاب الجماعي "الكتابة النسائية ــ التخييل والتلقي" (2006).
ولا يبدو غريبا أن يطرح نص "عام الفيل" (1983) الذي كتبته صاحبته ليلي أبو زيد بدافع مخاطبة القارئ الأجنبي (الأميركي تحديدا) أكثر من سؤال حول إمكانية الانتساب إلى "أدب ما بعد الاستعمار"، خصوصا من ناحية اللغة التي هي قرينة "النص الثالث" أو "أنطولوجيا النص ما بعد الكولونيالي". وعلى هذا المستوى تجيب الدراسة، وبالاتكاء الكلي على كتاب "الإمبراطورية ترد كتابة"، بأن "عام الفيل" كتبت بالعربية ولم تكتب بالفرنسية أو الإنكليزية، ومع ذلك يوجد فيها الكثير ممّا يوجد في أدب ما بعد الاستعمار المكتوب بهاتين اللغتين سواء من ناحية التيمات أو من ناحية مشكلات الثقافة الإجمالية. وفي هذا الصدد ربما توجّبت الإشارة إلى أن الكاتبة كانت قد قاومت من أجل أن تقرأ ـــ وتكتب بالتالي ــ باللغة العربية بدلا من الإنكليزية بالنظر لإقامتها لفترة من أجل الدراسة بالولايات المتحدة الأميركية وبدلا من اللغة الفرنسية التي كانت متاحة على نطاق واسع في الفضاء التعليمي بالمغرب الكولونيالي. وقد حكت عن ذلك في نصها الرحلي "بضع سنبلات خضر" (1978).
والحقيقة، كما يواصل صاحب الدراسة، أنه لولا استعمال اللغة الأجنبية لكان بالإمكان التعامل مع "عام الفيل" باعتبارها نصا من أدب ما بعد الاستعمار بجميع اشتراطاته الأدبية والثقافية والتاريخية. وهذا ما يجعل العمل حجة دامغة على حاجة نظرية أدب ما بعد الاستعمار إلى توسيع آفاقها والشروع في البحث في نصوص كتبت بلغات أخرى غير اللغات الأوروبية. والأدب العربي بصفة عامة، كما يلخص صاحب الدراسة، موضوع هام جدا للباحثين في هذا الميدان. وهي الفكرة ذاتها التي أشار إليها مصطفى حميل (Mustapha Hamil) في مختتم دراسته لرواية "المرأة والوردة"، وسنتحدث عنها.
ومعنى ما سلف أنه بالرغم من أنّ "الردّ كتابة" يشكّـل معظم النقد والأدب ما بعد الكولونياليين، فإن الأدب ما بعد الكولونيالي لا يقتصر على الكتابة باللغات الأجنبية ومنها بوجه خاص الانكليزية وبعدها الفرنسية، أي ما يعرف بـ"الكتابة ضد الكتابة" أو "الرد على الكتابة بواسطة الكتابة" (Writting Back). أجل إنه لا يمكن تلافي ثقل اللغة الإنكليزية في هذه النظرية، بل تحدُّر أغلب مؤسّسي نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي من الأنكلوفونية، إلا أن ذلك لا يحول دون الالتفات إلى ما يحدث خارج هذه الأخيرة. لقد انطبع الأدب العربي بدوره، في عالم ما بعد الاستعمار، بخطاب ما بعد الاستعمار... وبالقدر نفسه سعى هذا الأدب إلى تمثيل الذات وفك الاستعمار في عالم الخطاب.
غير أن الرواية التي تفرض ذاتها، أكثر، في سياق الحديث عن نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي بالمغرب، هي رواية "الماضي البسيط" (Le Passé Simple)، (1954)، لصاحبها الكاتب المغربي إدريس الشرايبي (1926 ــ 2007). وهي الرواية التي درسها دارسون كثيرون (غربيون في الأغلب الأعم) من زوايا مختلفة، مثل الهوية المتصدّعة وسياسة الرواية وأسطرة التاريخ... دون التغافل عن الدراسات التي سعت، من منظور الرطان البنيوي، إلى دراسة أشكال التلفظ وبنية السرد في النص.
وقد أثارت الرواية في أثناء صدورها نقاشا حادّا، بل قوبلت برفض متشنّـج من قبل "النقد الوطني" بدليل أن صاحبها مضى بعيدا في الإساءة إلى حضارة بلده. ولا يبدو غريبا أن تتمّ العودة إلى هذا النص من قبل واحد من المنخرطين في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي. ونقصد، هنا، نيكولاس هاريسون (Nicolas Harrison) في كتابه "النقد ما بعد الكولونيالي" (Postcolonial Criticism)، (2003)، الذي يحظى بمكانة في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي. وقد خصّ الباحث لرواية "الماضي البسيط" ورواية الشرايبي اللاحقة على الأولى "تيوس" (The Butts, Les Boucs)، (1955)، فصلا كاملا ضمن كتابه؛ لكن مع ميل واضح للرواية الأولى. ومن الجلي أن تكون قراءته للنص مغايرة للقراءات السابقة، ومصدر ذلك المستندات النظرية والمفاهيم الإجرائية لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي.
وقد درس النص في ضوء مفهوم يعدّ قاعديا في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي وهو مفهوم "التمثيل" (Representation) جنبا إلى جنبٍ مع مفهوم "التمثيلية" (Representavity) وفي الحدود التي تتيحها الكتابة الأدبية (الروائية بخاصة). وذلك كلّه أيضا في إطار ممّا سمّاه الدارس تبعا لجيل دولوز وفيليكس غاتري بـ"أدب الأقليات". ويفيد المفهوم الأخير، في سياق الكتاب ومن حيث هو سياق موسّع، أولئك الكتاب الذين يكتبون بغير لغات البلدان التي تحدّروا منها، وذلك مثل فرانز كافكا وجيمس جويس وصمويل بكيت. وهو ما يفضي، في حال إدريس الشرايبي، إلى "الفرانكفونية" التي يرادف الدارس بينها وبين "ما بعد الكولونيالية" في مستوى من مستويات التحليل.
وعنصر الجدّة، في المقاربة، هو الربط الذي يقيمه الدارس بين "الماضي البسيط" وبين روايات مكرَّسة بقوة في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي كرواية "الغريب" (1942)، لألبير كامو، ورواية "قلب الظلام" (1889)، لجوزيف كونراد، التي كان إدوارد سعيد قد افتتح مساره النقدي من خلال عمل نقدي حولها صدر العام 1966 تحت عنوان "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية". ويظهر أن ما يهمّ دارس الرواية المغربية السابق، وعلاوة على "السياق السياسي" اللاهب الذي ظهرت فيه الرواية الذي هو سياق المغرب العربي ككل، هو تلقي "الماضي البسيط" في الغرب ذاته الذي سعت الرواية إلى الارتماء في أحضانه من خلال ما يعرف بـ"التغريب" (Westernization).
ومن هذه الناحية فقد استقبل الشرايبي وكاتب ياسين ومحمد ديب في الغرب كـ"مغاربيين" وليس كـ"كونيين" يكتبون بلغة عالمية هي الفرنسية. وبالرغم من أن المغرب كان يتوّفر على العديد من عناصر "الشرقنة" ("الشرق المشرقن" لا "الشرق الأصيل") كالشمس والكسكس والظلام والحمار ورقصات البطن والأسواق... فإن الرواية استطاعت أن تنأى عن "الغرائبية" التي ساهمت في تكرّيسها كتابات أجنبية أيضا. الرواية تنخرط في "التعبير الشامل" عن شمال أفريقيا، أو "ألم شمال أفريقيا"، وبعيدا عن "الفرنكفونية المبكّـرة" التي هي ــ على صعيد الرواية ــ رديفة "الرواية الإثنوغرافية الفلكلورية" حسب تصوّر عبد الكبير الخطيبي الذي يشير إليه الدارس.
إجمالا إن رواية "الماضي البسيط"، وحسب هاريسون دائما، "تفجير" [ثقافي، إذا جاز توصيف الأنثروبولوجي المغربي عبد الله الحمودي] لـ"دينامية التمثيلية" التي هي قرينة "كتابة الهوية" اعتمادا على مرتكزات الشخص والصوت أو المكان.
وفي السياق نفسه ثمة دراسة سعت بدورها للانخراط في المنحى نفسه المتمثل في ربط العمل الروائي المغربي بسياق ما بعد الاستعمار. ونقصد، هنا، الدراسة التي أنجزها باللغة الانكليزية مصطفى حميل حول رواية محمد زفزاف "المرأة والوردة". والدارس، المقيم بأميركا، له اهتمام بنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، وكان قد نشر دراسة حول الهوية في سيرة عبد الكبير الخطيبي "الذاكرة الموشومة" (1971)، (مجلة "ألف"، العدد 22، 2002).
ويتصوّر الدارس أن "تجربة ما بعد الكولونيالية" أوجدت لها صيغا جديدة ومغايرة لعلاقات الأنا بـﺍﻵﺧﺮ، وذلك كلّه في المدار الذي لا يفارق "فخ الهوية" الذي يصرُّ على التقابل الضدي بين الأنا ﻭﺍﻵﺧﺮ. فلا مجال لهذا النوع من الهوية المنغلقة على ذاتها أو "الهوية الكبسولية"، كما يصفها باحثون آخرون، لا مجال لـ"جنون النقاء" أو "أسطورة الأصل". ومن ثم منشأ التعدّد الذي يضمن تكوين ذات ما بعد كولونيالية تأخذ بـ"امتيازات" ما بعد الكولونيالية وتنأى عن التموقع في التقابلات الحدّية وﺍﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺎﺕ الضدية. هذا بالإضافة إلى دعوى الدارس إلى الأخذ بالتفكير الذي يقاوم هيمنة الإيديولوجيا ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ وﺍﻟﺨﻄﺎﺏ العربي القومي المتعصّب معا... مسايرا في ذلك الخطيبي نفسه في دعوى "النقد المزدوج".
وأهم ما يلفت الانتباه في دراسة الدارس نفسه لرواية "المرأة والوردة" (1972)، والمنشورة تحت عنوان "الهجرة إلى الشمال في عصر ما بعد الاستعمار" بالمجلة العالمية للدراسات الشرق الأوسطية، تصنيفها للرواية ضمن سياق الروايات العربية المكرّسة التي عنيت بموضوعة الغرب مثل "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم (1939)، و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي (1944)، و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس (1954)، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح (1967)، و"الغربة" لعبد الله العروي (1972)... دون أن نتغافل عن رواية شكيب الجابري التأسيسية في المجال نفسه، ونقصد روايته "نهج" (1937)، التي عادة ما يتم التغافل عنها.
ويبقى أن نختم بأن الدارس، بالرغم من إحالته على إدوارد سعيد وفرانز فانون وأصحاب "الإمبراطورية تردّ كتابة"، لم يرق إلى تشغيل نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي في دراسته؛ لأنه يأخذ النظرية في منحاها التصوّري العام لا التفصيلي التجزيئي.