Print
أحمد عبد اللطيف

مدينة الزاهرة: كشف أثري جديد وعودة لإنقاذ المدينة الأندلسية

3 أبريل 2018
آثار

لا تكف الكشوفات الأثرية في إسبانيا عن إدهاشنا من آن لآخر، خاصةً الكشوفات الخاصة بالتاريخ الأندلسي العظيم، الذي لا يزال يخفي أكثر مما يظهر، ولا يسلّم نفسه بسهولة للأثريين. آخر هذه الكشوفات التي أعلنت عنها الصحف الإسبانية هو العثور على المدينة الزاهرة التي كانت قلعة مبهرة أسسها المنصور في شرق قرطبة لتحل محل مدينة الزهراء الأموية. الكشف الأولي يحتاج إلى كثير من الجهود والدعم لاستكمال العملية، بحسب ما تشير الصحف ومنها "الباييس" و"لا بانجوارديا" الإسبانية، التي تستند في وصف المدينة لمصادر عربية تشير إلى أن المدينة تتمتع بأعمدة شفافة مثل الماء ومتناسقة مثل أعناق الصبايا، وأن مقاعدها من المرمر الأبيض والباهي مثل الكافور العطري وكانت نوافيرها في شكل أسود. مدينة بهذه الجمال باتت مدفونة، منذ قرون، وشُيدت بجوارها 6 ملاعب كرة قدم وطاحونة مهجورة ومخرج يؤدي إلى طريق سريع (A-4) يطل على نهر الوادي الكبير.

يشير الكشف الأثري إلى أنه منذ أكثر من ألف عام أمر المنصور ابن أبي عامر بتشييد المدينة الزاهرة بضواحي قرطبة لتكون بديلًا لمدينة الزهراء التي كانت رمزًا للسلطة الأموية وشيدها الخليفة عبد الرحمن الثالث، وهي مرشحة هذا العام لتكون "إرثًا للإنسانية" من قبل اليونسكو، فيما لا يزال البحث جاريًا عن بقايا المدينة الزاهرة  المدفونة، بحث بدأ منذ عقدين وآتى ثماره مؤخرًا، بعد قرون من الاختفاء عقب تدمير لحق بها فيما سُمي باسم "فتنة الأندلس"، وهي الصراع الداخلي الذي أدى لسقوط الخلافة في قرطبة ثم ظهور ملوك الطوائف الأولى.

وجود المدينة     

المدينة الزاهرة كانت موجودة بحسب المؤرخين، ورد ذكرها وأوصافها وأهميتها في العديد من المصادر العربية والإسبانية التي ترجع للقرون الوسطى، وجاء في وصفها أنها من العجائب المبهرة لقمة جمالها. وفي المتحف الأركيولوجي الوطني بمدريد يُعرض عمودان كانا في مكان الوضوء بأحد الجوامع بنفس المدينة، في تاجيهما نسران متواجهان وجدارية صغيرة تشير إلى "قلعة الزاهرة" وتم الانتهاء منها عام 376 هجريًا، أي 987 أو 988 ميلاديًا. في تلك الفترة كان المنصور هو الحاكم الفعلي للأندلس، بعد سنوات من سلطة متهورة، وكان يرى ضرورة إقامة مدينة/حصن.

يقول إدواردو مانثانو، أحد الباحثين المتخصصين في الأندلس الأموية، لجريدة الباييس: "كان المنصور مشغولًا بفعل ما يفعله الخليفة من دون أن يكون خليفة". ولد المنصور في توروكس (مالقة) في عائلة من أصول يمنية، واجتهد حتى وصل إلى قرطبة وتدرج في الوظائف حتى وصل لوظائف عليا في الإدارة الأموية. ومع وفاة الحكم المستنصر بالله عام 976، جاءته اللحظة الذهبية، إذ كان وريث الحكم هو هشام المؤيد بالله وكان في الحادية عشرة، ما أثار أزمة في الخلافة. في هذه الأجواء أقصى المنصور منافسيه (وأعد لقتل المغيرة بن عبد الرحمن حتى لا يتولى السلطة بدلًا من الصبي هشام) وبدأ الصعود في السلطة بمساعدة أم هشام وربما عشيقته صبح البكشنجية، المعروفة في النصوص المسيحية باسم أورورا، وتمكن من السيطرة على المقاليد المدنية والعسكرية والقضائية، وأمر بقتل حلفائه القدامى بل وحتى أحد أبنائه، وذاع صيته في المملكة بفضل حملة غارات عنيفة في الممالك المسيحية وصلت حتى برشلونة وسانتياجو دي كومبوستلا، وأسس "الدولة العامرية" وهي دولة داخل دولة، بدون أن يهدم الدولة الأولى.

 لقد كان المنصور أحد أكثر الشخصيات التاريخية تعقيدًا وجاذبية، ويؤكد أستاذ تاريخ العصور الوسطى إتشبيريا أرسواجا، في كتابه "المنصور: خليفة في الظل"، أن كُتّاب سيرته يؤكدون أنه "كان وحشيًا ومكيافيليًا وصديقًا للمؤامرة، لكنه كان أيضًا عادلًا وشريفًا"، ويضيف: "قدموه كرجل متطلع، لكن سلوكه لم يكن إلا ردًا على صراعات السلطة داخل القصر الأموي. أما هالته الأسطورية فتأتي من أنه آخر المحاربين المسلمين العظام في القرون الوسطى، بجانب صلاح الدين".


 في هذا السياق أمر المنصور بإنشاء المدينة الزاهرة، وبحسب تصريح المؤرخ خابيير بايستين للباييس، كان يبحث عن السلطة بكل تأمين ممكن، ولم يكن ذلك بارانويا، فالمخاطر كانت واقعية. وقبل توليه الخلافة، كان المنصور خليفة يستقبل الوفود الأجنبية ويرسل الهدايا الشرفية وينظم الاجتماعات الأدبية ويتبع كل قواعد البروتوكول الخاصة بالخلفاء. وفي "سيرة المنصور"، وهو الكتاب الذي ألفته لاورا بارياني، تتحدث عن مدينة صغيرة، قلعة حقيقية من الأبراج والشبابيك التي لا يمكن الدخول إليها إلا من خلال السور المواجه لقرطبة لتقوية صورتها كمدينة لا يمكن اختراقها. هذا السور كان يضم "باب النصر" الذي علق عليه المنصور رأس غالب الناصري، أحد القادة الذين تحالفوا مع القشتاليين ضد حليفه.

مدينة= مركزية السلطة

لماذا أقام بكل سرعة ومن العدم مدينة/ قلعة عندما لم تكن توجد مدينة مسورة أخرى في الأندلس؟ يقول بايستين إن مدينة الزهراء كانت شديدة الارتباط بالأمويين، فيما كان المنصور يتطلع لمدينة يسيطر فيها على من يدخل للخليفة، حينها كان هشام مجرد صورة رمزية محبوسة في المدينة الزاهرة ويظهر اسمه على العملة، لا شيء أكثر من ذلك. وكانت خطة المنصور الاستراتيجية الأكثر صوابًا هي مركزية السلطة بدون الاستسلام لغواية الإحلال محل الملك، لاعتبارات منها أنها من النسل النبوي. وبالفعل قامت حرب أهلية في الأندلس عقب موته عندما أجبر عبد الرحمن، ابنه، الخليفة على تعيينه خليفة له. حينها ثار أهل قرطبة المحمّلين بالضرائب والظلم الاجتماعي.

لقد كان اختيار مكان الزاهرة خاضعًا لنبوءات قديمة تقول إن الخلافة الأموية ستبلغ قوتها هناك ثم ستفقد كل شيء في نفس المكان. وبعد ألف عام لم يستطع أحد أن يتحقق من موقعها الصحيح، كانت هناك محاولات تراوحت ما بين الجدية وقلة الحمّاس، وفي النهاية تمكنت من تحديد الموقع في مدينة quemadas (الحرائق) وكان من أسباب الاكتشاف أن الاسم نفسه منحدر من حريق أدى لدمارها، أو تحت سوبر ماركت بالقرب منها. ونشير إلى مساحة 300 متر مربع بجانب ضفة نهر الوادي الكبير، على بعد كيلومترات قليلة شرق جامع قرطبة الشهير. ومن مرتفع بالجانب الآخر للنهر يمكن مشاهدة تنوع الألوان: رمادي السفن الصناعية ومستودعاتها، أخضر المدينة الرياضية حيث يتدرب فريق قرطبة لكرة القدم، وأصفر الأراضي المزروعة بالحبوب. رئيس اللجنة الأثرية يشير إلى دلائل قادتهم للمدينة القديمة: أولًا، شبكات طرق من الزمن القديم تفضي إلى المنطقة. ثانيًا، وجود بقايا عربية في هذه الطرق، ما يفسر القرب من مركز آخر من مراكز السلطة. كذلك العثور على ثلاثة جسور من الفترة الإسلامية في جانب نهر الوادي الكبير.

بالطبع يمكن مواصلة الحفر لاكتشاف المدينة كاملة، لكن رئيس اللجنة الأثرية يرى أنها ليست اللحظة المناسبة، في إشارة إلى الوضع الاقتصادي.

كانت نهاية المدينة الزاهرة عام 1009. وبحسب أحد المصادر التاريخية، قام الثائر الأموي محمد المهدي، وهو مدرك لرمزية مركز السلطة، وأمر بتدمير المدينة وتقويض أسوارها وخلع أبوابها وتعرية قصورها ومحو آثارها. لكن رغم ذلك تبقت آثار من المدينة لا تزال لغزًا يبحث عن كشفه.