Print
محمود عبد الغني

الأمكنة التي كُتبت فيها وعنها رواية "مدام بوفاري"

25 يناير 2019
أمكنة
من وحي قصة واقعية

خصّصت المجلة الفرنسية "روح الأمكنة" حيزًا من عددها الأخير للأمكنة في الروايات الفرنسية، جاءت في مقدّمتها أمكنة رواية "مدام بوفاري" للروائي الفرنسي غوستاف فلوبير الذي خلّد بطلة روايته إيما بوفاري بقوله: "مدام بوفاري هي أنا".

في الخامسة والثلاثين بدأ فلوبير كتابة روايته الشهيرة التي ستصبح رائعة روائية خالدة من روائع الروايات الواقعية في القرن التاسع عشر. كان قد أنهى كتابة "محاولة سانت أنطوان" التي لم يقتنع بها أقرب أصدقائه في مجال الأدب، ماكسيم دي كامب، ولويس بويلييت. فاقترحا عليه اختيار حكاية واقعية كما كان يفعل بلزاك في زمنه. هكذا سيصبح حدث تافه شغل الصحافة اليومية لعدّة سنوات هو موضوع رواية فلوبير الأولى. والمتمثل في قصة زوج "دولامار" التي وقعت أحداثها في مدينة "ري" في بلاد "براي"، واللتين تماهت معهما أسرة بوفاري.

تزوج عامل الصحّة شارل بوفاري الفتاة الشابة "إيمّا"، ابنة فلاّح غني تلقّى، رغم أصوله الفقيرة، تربية جيّدة بين أحضان الراهبات. كانت "إيمّا" تقرأ بكثرة روايات المغامرات، وسجينة لشرطها كشابّة مدينية مميّزة، تحلم بحياة أكثر جمالا. كان الملل يلتهمها، لم تتأخر عن الاستسلام للجمال المثير لمالك قصر محلي، ثم بعد ذلك ارتمت في أحضان مثقف شاب يستقر في "روان". لم تكن تتردّد في العيش على اقتراض المال من أحد تجار الموضة، فكان سقوطها في الإفلاس فتمت مصادرة كل ما تملك. هجرها عُشّاقها، وضاعت ثروة زوجها، فقررت الانتحار بتناول الزرنيخ.

ثلاث مدن.. واحدة متخيّلة

تدور الرواية حول ثلاثة أقسام، لكل قسم مدينة تشكل مشهدها الأساسي: "توت" في منطقة "كو"، حيث قضت "إيمّا" طفولتها داخل مزرعة عائلية. ثم "يونفيل- لباي" في منطقة "براي" حيث شارل بوفاري يمارس مهنة الطب، وحيث "إيمّا" تربط فيها أول علاقاتها. وفي الأخير مدينة "روان" حيث ستلتقي عشيقها الثاني الذي سيقودها إلى الضياع.

هناك مدينتان واقعيتان، لكن البلدة الصغيرة حيث عاشت "إيمّا" وزوجها هو من ثمار خيال المؤلف. العديد من المتخصّصين في فلوبير اتفقوا على اعتبار أن نموذج هذه البلدة هو المدينة الصغيرة "ري" في وادي "كروفون". لكن فلوبير في الحقيقة استلهم عدّة مدن صغيرة كلها تقع في منطقة "براي"، على بعد مسافة من "روان".

 خمس سنوات هي المدة الزمنية التي استغرق فيها فلوبير كتابة رائعته "مدام بوفاري"، من سبتمبر 1851 إلى مايو 1856. تحدّث كثيرا عن عمله المضجر في رسائله إلى صديقته

"لويز كوليت": "يا له من عمل مرعب. يا له من سأم. أوه الفن".

الجزء الأعظم من الرواية كُتب في "كرواسي" في الضيعة العائلية الواقعة قرب "روان"، على ضفاف نهر "السين". كان يبقى منعزلا طيلة أيام بالكامل داخل مكتبه، مثل ناسك. ظل يختبر موسيقى جمله، إلى أن انتهى منها ذات يوم من فصل الربيع، حيث قرّر التخلص من هذه الكتابة المضطربة مثل حياة "إيمّا بوفاري".

أمكنة "مدام بوفاري"

"كرواسي" مكان الكتابة: في "كرواسي"، على نهر السين، اشترى والد غوستاف فلوبير بيتًا سيتخذه مكانًا للكتابة. هذا البيت الأبيض الأنيق الذي يتكون من طابق واحد على طراز لويس السادس عشر، اختفى اليوم. عاش فيه الروائي إلى آخر يوم من حياته. كانت تقيم معه والدته التي كانت ترعاه وتغار عليه، وبعد موتها اقتسمه مع الوريثة الشرعية "كارولين" ابنة أخيه. في هذا البيت كتب فلوبير الجزء الأعظم من أعماله، منعزلا داخل مكتبه الموجود في الطابق الأول، وهو عبارة عن غرفة شاسعةـ مضاءة بست نوافذ، ثلاث منها تطل على الحديقة، والاثنتان على النهر. كان هذا المكتب مجهّزًا بمكتبة كبيرة تفيض بالكتب، بأريكة مغطاة بقماش تركي وبمائدة عمل دائرية كبيرة، حيث وُضعت عليها ريشاته الشهيرة. لا يستطيع فلوبير الكتابة في مكان غير "كرواسي": "بعيدًا عن طاولتي، أنا شخص بليد. الحبر هو أداتي الطبيعية، سائل جميل...كم هو مثير". ونهر "السين"، الذي كان يحب السباحة فيه، كان ملهمه، كما لو أنه كان يغطس ريشته فيه.

"توت": هي بلدة "إيمّا". هذه البلدة الصغيرة في منطقة "كو" في مفترق طريقين، اشتهرت بنزلها "سيغن" الذي تحدث عنه غي دي موباسان في قصته "كرة الشحم". شكل هذا المكان فضاء القسم الأول من روايته، حيث ولدت "إيما" في إحدى مزارعه، واستقرت فيه مع زوجها "شارل". كما أن قرية "ري" هي مكان بوفاريٌّ بامتياز، مكان جميل يقع في وادي "كروفون".