Print
محمد جميل خضر

مشارق الأذكار البهائية.. هندسة نقاء أم تجميل وجود؟

14 أبريل 2020
عمارة
تتجلى النزعة التوفيقية المرتكزة إلى فكرة وحدة الوجود، بوصفها الملمحَ الأول، ولعلّه الأهم، الذي تبوح به مفردات العمارة في المعابد البهائية.
محمّلين بتلك النزعة، حرص البهائيون أتباع بهاء الله (ميرزا حسين علي النوري المازندراني (1817-1892)) ومن قبله حضرة الباب (علي محمد رضا الشيرازي المُلقب بالباب (1819 - 1850) المُبشِّر بحسب الوعي البهائي)، على توظيف جماليات كونية جامعة في أماكن عبادتهم المسمّاة مشارق الأذكار.
ورغم الحضور القوي للعمارة الإسلامية وفلسفتها المرتبطة بالحق والحقيقة والاشتياق للسماء، في معظم المعالم البهائية، سواء تلك المشعة في عكا حيث حديقة البهجة مكان سكنى بهاء الله في أعوامه الأخيرة، أو تلك الساطعة في حيفا حيث حدائق البهائيين الممتدة عند أطراف جبل الكرمل كتحفة نادرة من الجمال والبهاء، أو في باقي مشارق الأذكار في أربع جهات الأرض، إلا أن لفلسفات البناء والعمارة الغربية (أوروبا وأميركا) والشرقية (الهند وإيران)، تأثيراتها المشهودة في تلك المشارق المصممة جميعها من مهندسي عمارة بهائيين.
نحن، إذاً، أمام رؤى تصميمية تريد أن تحشد الكون كلّه بأديانه وسماته وفلسفاته وأنواع حجارته وطرزه المعمارية وقيمه الجمالية، في كل مبنى شيّده البهائيون ليهتفوا هذا هو (نحن)، أو بصيغة أخرى: نحن هنا في الفضاء الوحيد داخل كل مشرق/ معبد/ محفل، صلاتنا هي لحظات التأمّل التي يمكن أن يقضيها زائر مبهور بجماليات المبنى، وسلاسة انسيابه، ونقاء هندسته، وأمانة انشغاله بالجودة والإخلاص والسموّ.
وإن كانت الكتب التي تركها بهاء الله لأتباعه قليلة (أهمها الكتاب الأقدس)، فإنهم يريدون، على ما يبدو، من مشارق الأذكار التسعة، أن تشمخ بوصفها كتاباً مفتوحاً على المطلق.
 قبة عباس ومقام حضرة الباب (علي محمد رضا الشيرازي) المُلقب بالباب في حيفا

















ورغم تشعّب (الديانة) البهائية بعد رحيل بهاء الله إلى ثلاث فرق على الأقل (مصادر بهائية متعددة منها الجامعة البهائية العالمية)، إلا أنها جميعها تلتقي في مسألة فلسفة العمارة وضرورة إشراقها بوصفها علامة مسجلة لهم؛ هذا ما يلتقطه الزائر لحدائق البهائيين في حيفا حيث صرخة (الله) عالية انطلقت فور وصولنا لها صيف عام 2008 رفقة المخرج الهولندي من أصل عراقي هافال أمين. وجاء وصولنا إلى الحدائق التي تضم مقاميّ حضرة الباب وابن بهاء الله (قبة عباس) إضافة لمقر الجامعة البهائية العالمية (بيت العدل الأعظم)، من الأعلى، من جهة متنزه لويس غولدشميت الممتد، تقريباً، على طول جبل الكرمل وعرضه، ما يعني أن الحدائق المعلقة البالغ عددها 18 حديقة، وباقي مفردات المكان وممراته وزهوره وتنسيقه الساحر، وتناظره الفتّان، بدت بالنسبة لنا كما لو أنها شلال ضوء نازل من الأعلى نحو بداية الساحل الحيفاوي، أما الناظر للحدائق من جهة البحر وحيفا التحتا فسوف يراها بوصفها صلاةً ترنو إلى السماء.
هذا أيضاً ما يلتقطه الزائر لحديقة البهجة قرب عكا، المكان الذي توفي فيه بهاء الله عام 1892 ويقع الضريح مباشرة خلف القصر. تسمى المنطقة كلها البهجة بعد تجميل المنطقة بحدائق الجنة المسماة الحرم الأقدس. ويعد الضريح والحدائق من أقدس الأماكن عند البهائيين، وأحد مواقع الحج الخاصة بهم (ويكيبيديا وأصدقاء بهائيون).

  مشارق الأذكار 


















وهي القيم نفسها التي يحرص المهندسون المعماريون البهائيون على تمثلها عند بنائهم أي مشرق أذكار خاص بشعائرهم ورؤيتهم للكون والوجود، والأمر يتعلق هنا بمعبد اللوتس في العاصمة الهندية نيودلهي وباقي المشارق في ألمانيا والأميركتيْن الشمالية والجنوبية (تشيلي وكولومبيا وبنما وشيكاغو) وفي أفريقيا (أوغندا) وفي أستراليا وكمبوديا وغيرها: هندسة نقاء تحدث عنها أكثر من مهندس معماري بهائي، محاولةٌ مُخْلِصَةٌ لتمثل فكرة وحدة الوجود، المشتقة من وحدات تَخُلُصُ إليها كنتيجة منطقية (حتمية): وحدة الخالق، وحدة الكون (الخلق) ووحدة الإنسان (وحدة البشرية).
في ظل اللبس القائم حول (دين) البهائيين، وفي ظل الانشقاقات التي صدّعت البنيان و(البيان) بعد رحيل (بهاء الله)، فإن حرصهم على تجميل معمارهم الهندسي، يذهب في أغراضه بعيداً إلى ما يمكن النظر إليه بوصفه تجميلاً لحوحاً لمعنى وجودهم وتكريس صورتهم من خلال مبانيهم المصممة بأناقة لا تخفى على عين.
رؤى معمارية لا تنحاز لجهة بعينها، اجتهد المعماريون البهائيون المحصنون بتعاليم كتبهم وأدبياتهم وسردياتهم، أن تأتي مُرْضِيَة للأذواق على اختلاف أمزجتها ودياناتها، فهل تحقق لهم ذلك؟
يذهب د. منور المهيد، أستاذ العمارة الإسلامية، في سياق إجابته عن هذا السؤال، إلى غير ذلك، رائياً أن فلسفة العمارة البهائية هي: "تجميع لصور وأفكار غير مُتَّسِقة مع بعضها البعض". د. المهيد يدعو إلى التفريق بين الإبهار وبين العمارة المستجيبة لفلسفة الحق والحقيقة، أي تلك المستقاة من الجانب البصري في الطبيعة من الإنسان والزهر والنبات والحيوان والبلورات والجزيئات وصولاً إلى المجرات، كلها متعلقة، يقول، بهندسة كان المسلمون يسمونها الهندسة الفاضلة، وفي الغرب: الهندسة المقدسة.
المهيد صاحب الرؤية المعمارية التي أعادت ترميم منبر صلاح الدين في قبة الصخرة، يصف فلسفة العمارة البهائية بـ(الكولاجية)، رائياً أن الحق والحقيقة ليسا حكراً على فلسفة العمارة الإسلامية، بل هما، بالضرورة، مرجعية جمالية جوهرية في مختلف وجوه العمارة (التقليدية) المتزينة بألوان الوجود وسمات المعنى الجوهري له.

مشرق أذكار تشيلي

















د. منور المهيد المتمسك بالنِّسب المستعملة في العمارة الإسلامية على صعيد الارتفاعات والمساقط والأقواس وغيرها، بحيث تكون تلك النسب قريبة من الطبيعة البشرية أو ما يسميها "الموسيقى البشرية"، يستشهد ببعض آيات الكتاب لتعزيز رؤيته حول فلسفة العمارة الإسلامية، والعمارة المقدسة/ الفاضلة على وجه العموم: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات، آية 47)، ويورد آية أخرى من سورة الدخان: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ" (آية 17).
هنا وعند هذه النقطة تحديداً يهتف المهيد المقيم في الأردن وصاحب نظرية النِّسب الذهبية، قائلاً: "إن الوجود هو أعظم لوحة فنية".
على وجه العموم، يَحْمِلُ المهيد على كثير من منجزات هندسة العمارة الحديثة المستجيرة، برأيه، بالحواسيب والعقول الصناعية. إنها، بمجملها، هندسة ضيّعت الجوهر الذي تستند إليه معظم الصروح المقدسة للديانات الحقة المعبّرة عن رسالة شاملة لمختلف نواحي الحياة، مستشهداً، هنا، بموقف الأمير تشارلز (ولي عهد التاج البريطاني) المتحامل، بدوره، على هندسة العمارة الفوضوية غير المستندة إلى مرجعيات قيّمة، وبما أدى، برأيه، إلى تشويه وجه لندن وإرثها القديم. ويذكر د. المهيد، في السياق نفسه، أن الأمير تشارلز أسَّسَ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كلية جامعية تعنى بفنون الهندسة التقليدية المتمسكة بالدين والحق.
أي انحراف عن الفكرة الجوهرية المتعلقة بالحق والحقيقة في أي معمار هندسي هو من صنيع الناس، بحسب المهيد، وليس من صنيع الخالق "كما هو حاصل عند المسلمين هذه الأيام"، عقّب المهيد معلقاً.

اختار المهندس المعماري الإيراني فاريبورز صهبا زهرة اللوتس عند تفتحها كمفتاح للفكرة المعمارية التي صمم المعبد/ المشرق/ المحفل على أساسها


















لو افترضنا، بناء على رؤى الدكتور المهيد، أن العمارة البهائية لم تنجح بتمثل فكرة الحق والحقيقة، فهل استطاعت، من ناحية أخرى، أن تتجلى بوصفها عمارة الفقراء بحسب منهج المهندس المعماري المصري حسن فتحي (1900-1989) صاحب نظرية "انظر تحت قدميك وابنِ" (كتابه "عمارة الفقراء")؟
بالعودة إلى مشارق الأذكار المنتشرة صورها على صفحات الشبكة العنكبوتية، يتجلى بشكل واضح أن من صممها لم يكن حافي القدمين، كما هي حال حسن فتحي الذي وصفه بهذا الوصف الكاتب أحمد الجندي في مقال نشره له موقع "موهوبون" (موقع المخترعين العرب). صحيح أن معبد اللوتس الذي شيّده البهائيون في العاصمة الهندية نيودلهي، يتضمّن رسومات لشعوب سكنت الهند مثل الأوروفيل، ولكن الإطار العام للبناء، وشكله الخارجي، وفخامة مختلف تفاصيله، بدءاً من انسيابات الزهرة الأوروستقراطية، وصولاً لباقي مكوناته، لا يشبه الفقراء في شيء، دون أن ننسى أن المهندس المعماري الذي صممه إيراني وليس هندياً.
كما أن مشرق أذكار شيكاغو يفتقر إلى هارمونية مقنعة بالنظر إلى طبيعة المكونات الديموغرافية والعمرانية المحيطة به. وبالعودة إلى البهائيين أنفسهم، فإنهم لا ينكرون سعيهم لتحقيق عمارة لا شرقية ولا غربية، أي بمعنى عمارة جامعة (توفيقية) أو (كولاجية) كما يصفها د. منور المهيد. فها هو مصمم مشرق أذكار شيكاغو (مدينة إلينوي) المهندس المعماري الفرنسي/ الكندي لويس برجواه يذكر في حديث معه أن أبراج المشرق تحتوي على "زخارف متشابكة لرموز جميع الأديان" (صفحة سعد سلوم على فيسبوك)، رائياً أن هذا التداخل ما هو إلا دليل على "الأخوة العالمية".
في حين يستند حسن فتحي في فلسفته المعمارية إلى طوب الأرض التي عاش فيها أهلها:  "خطر لي أنه ما دام لدي طوب اللبن ولا شيء آخر، فلست بأسوأ حالاً من أجدادي الأقدمين. إن مصر لم تكن تستورد دائماً حديد الصلب من بلجيكا والخشب من رومانيا، ولكنها كانت دائما ًتبني البيوت، لكن كيف كانوا يبنونها؟ الجدران… نعم. أستطيع أيضاً أن أبني الجدران، ولكن ليس لدي شيء أسقفها به، ألا يمكن أن أسقف بيوتي بالطوب اللبن؟ وأخذت أبحث عن وسائل للتكيف مع المادة المتاحة" (حسن فتحي/ عمارة الفقراء). وفي حين يتبنى د. منور المهيد فلسفة الحق والحقيقة في إعادة الاعتبار للعمارة الإسلامية، فإن العين لا تقع لا على هذه ولا على تلك في العمارة البهائية.
فما الذي يمسك به الناظر إلى مشارق أذكار البهائيين في مشارق الأرض ومغاربها؟ بداية، وبسبب الرغبة التوفيقية (الوحدوية) الجامحة عند البهائيين، فمن الصعب التقاط مفردات متشابهة (تماماً) تشترك فيها مشارق أذكارهم، ففي حين نلمح القبة الضخمة في مشرق شيكاغو، فإن الأمر ليس نفسه بالنسبة لزهرة نيودلهي العجيبة (المقصود مشرق أذكار الهند أو بحسب تسميته: معبد اللوتس). وعلى وجه العموم، ورغم أن القُبَّة هي في نهاية المطاف، مفردة أساسية في جل مشارق أذكارهم، إلا أن شكل هذه القُبَّة وانسيابيتها وحجمها وتناسقها يختلف من مشرق إلى آخر (أنظر الصور المرفقة)، وبما يمس، حتماً، بالنسب الذهبية التي تحدث عنها د. منور المهيد، وبما يؤكد غياب الاتساق الوجداني الحقيقي النابع من مرجعيات عميقة الاتصال بالسماء من جهة، والأرض تحتها من جهة ثانية.
كل ما تقدم لا ينفي بأي شكل، حجم الإبهار البصري الذي سعى المعماريون البهائيون إلى تحقيقه في مشارق أذكارهم. إبهار مرتفع الكلفة بدون أدنى شك، تحيطه الأسرار من نواحيه جميعها، ويبدأ من الطريق إلى مشرق الأذكار، فهم على ما يبدو لم يقرأوا بيت شعر محمود درويش: "أيها الشهداء قد كنتم على حق، لأن البيت أجمل من طريق البيت" (من قصيدة "مأساة النرجس ملهاة الفضة")، جاعلين من الأرض المحيطة بالمعمار ومختلف مفردات الأسطح (اللاند سكيب) Landscape مشهداً تناظرياً تناسقياً بديع اللون والمعطى والدلالة، وبما يفوق أحياناً جماليات المشرق نفسه.
ولا ينفي مدى الصفاء الذهني النفسي المتحقق لمن يتأمّل بحيادية وإحساس عميق، روعة مشارقهم وطرزهم المعمارية عموماً.
ويبقى السؤال هو السؤال: هل تعكس مشارق أذكار البهائيين نقاءً هندسياً غير مسبوق التصاميم، أم أنها تعبّر عن رغبة عارمة عندهم، تكاد ترتقي إلى الشغف، بأن يجمّلوا وجودهم حتى ولو من باب الإبهار مختلط المرجعيات؟

 

 فيديو يستعرض بالصور مشارق الأذكار البهائية حول العالم: