Print
محمد جميل خضر

هَسِيسُ النقوش.. شجُّ الزمان بأثرٍ لا يموت

18 أبريل 2020
آثار
في بحثه الموسوم "النقوش ودورها في تطوير مناهج البحث الأدبي"، يرى الكاتب والأكاديمي الأردني أ. د. سلطان المعاني، أن على الباحث الحقيقي عدم التصالح مع النقش في سياق دراسته له وتفكيك حروفه وتحليل مضامينه، بل لا بد من "تناوله ديكارتياً خلال تفريغه وترجمة معانيه واستنطاق مدلولاته وصوغ خطابه" (المعاني/ الجمعية الأردنية للبحث العلمي/ المجلد 2014، العدد 6 (31 يناير/كانون الثاني 2014)، ص: 31-39).

المعاني يبرّر مطالبته تلك بأننا "لا نتعامل مع نصٍّ تاريخيٍّ أو وثيقة تاريخية كُتبت على نحو واعٍ بالحدث، وعلى نحوٍ توثيقيٍّ نَشَدَ صاحبُه تعاقبَ تناولِه جيلاً بجيل. وهو، كما نعي، نَصٌّ شخصانيٌّ بحت، دوافعه ذاتية، وأفقه لا يحتمي بمصلحة الجماعة والمحيط بالضرورة. ما يعني أن الباحث لا يملك في كثير من النقوش، تعميم أطروحات الخطاب التحليلي" (المصدر السابق).
معظم النقوش، بالتالي، على اختلاف أماكن اكتشافها عربياً (نقوش جنوبية حميرية وثمودية ومعينية وسبأية وغيرها بحروف المسند وغيره، وشمالية نبطية وآرامية وصفوية وغيرها)، وأجنبية (نقشتها شعوب أميركا وكندا وأستراليا وأوروبا (السويد وغيرها) وآسيا وشعوب أخرى)، تجوس بمشاغل شخصية، وتعبّر عن تطلعات ذاتية، وتبوح بمشاعر على اختلاف هذه المشاعر من خوفٍ وإيمانٍ وحاجةٍ وهوى وتثبيتِ وجودٍ وتباهٍ بصيدٍ ورغبةٍ بانتقامٍ أو تكريسٍ لطاغيةٍ أو زعيمٍ أو ملكٍ أو قائدٍ أو حتى إشارةٍ لعابرِ سبيل.

نقوش هندية أميركية 


















ما هو النقش؟
قبل أن نخوض بدوافعه، وهسيس نبضه، وقصص حفره، وروايات أصله، نشير إلى مقولات ترى أنه مرتبط بالجن والغموض وكائنات غير معروفة، كما يشير الباحث الأميركي جيمس كايزر: "هناك العديد من النظريات لتفسير وجود هذه النقوش، طبقاً لمكان هذه الرسوم وزمانها ونوعها. بعض تلك النقوش اعتقد أنها رسمت بواسطة كائنات فضائية، حيث غلب الظن على أنها رموز أو خرائط أو وسائل للاتصال بكائنات فضائية. تُظهر هذه النقوش رسوما لقوافل أو تضاريس جغرافية كالأنهار، كما تظهر أحياناً أجهزة موسيقية كالأجاس الحجرية التي وجدت بالهند. بعض النقوش تحتوي على معان حضارية ودينية عميقة للمجتمعات التي نقشتها، ولمن خلفهم من سلالاتهم في أغلب الأحوال. كما أن بعض تلك النقوش تحتوي أشكالاً وكُتبت بلغات غير مفهومة حتى الآن" (كايزر، "فن النقوش عند الهنود الحمر في هضبة كولومبيا").
يعرَف موقع (ويكيبيديا) النقوش الحجرية petroglyph‏ بأنها الرسوم التي نُفذّت بإزالة أجزاء من سطح الصخور بالحزِّ أو الثقب أو البَرْيِّ أو الحفر، وهي منتشرة في أماكن كثيرة من العالم.

 رقمة من ديرعلا 


















أما الباحث الفلسطيني/ الأردني/ الأميركي أحمد الجلاد فيقول، في حوار أجراه معه الكاتب الفلسطيني حكمت درباس ونشرته "ضفة ثالثة" بتاريخ 14 أيلول (سبتمبر) 2014، إن: "النقوش العربية القديمة هي تلك اللغة المدونة بخطوط مختلفة (الخط الصفائي والحسمائي واليوناني والنبطي والعربي القديم)".

الجلاد يميز بين الخط واللغة، قائلاً في الحوار إياه، إن "التنقيبات الأثرية تدل على وجود حضارات عريقة في الجزيرة العربية كانت لها علاقات جدلية مع العالم الخارجي (الرافدي والسوري والمصري والأفريقي). لم يقتصر الأمر على اللغة العربية فقط، فثمة لغات سامية أخرى (غير اليمنيات) كانت مجهولة إلى حين. أما الفصحى، فلا يمكننا عدها النموذج القياسي الصرف للعربية، فلغة النقوش القديمة تعكس مظاهر لغوية مختلفة بعضها أكثر أصالة من منظور الساميات المقارنة. وكل ما تقدم ينفي المقولة التقليدية حول انعزال الجزيرة وجاهلية العرب وأمّيتهم" (الجلاد/ درباس/ ضفة ثالثة).

 لوحة الصحراء 


















أمّا الباحث الأردني د. زياد طلافحة فيستعرض في حديث معه أسباب ومبررات وحيثيات حفر بدويٍّ ما أو شخصٍ ما لنقش من النقوش، قائلاً: إن أبناء القبائل العربية بشمالها وجنوبها كانت لديهم "نزعة شديدة، ورغبة جامحة بتخليد أنفسهم، وتسجيل ذكرياتهم، فدوّنوا آلاف النقوش، تضمنت الحنين لمن يحبون، والتضرع والدعاء إلى الآلهة لشفاء مرضاهم وقضاء حاجاتهم بِصِيَغٍ مدوّنةٍ على الصخور، وعلى الأحجار البركانية في المواقع التي استوطنوها".

فهل هي هسيس جنٍّ أرادوا أن يدلوا بدلوهم في شؤون حضارات علت ثم بادت؟ أم هواجس بشر عند أطراف بادية الشام أو قريباً من تلول الصفا والحَرّة وجبل أسيس وسهول حوران واللجاة وأم الجمال والمفرق والسماوة وغيرها، أو هناك عند الحجاز والحدود الجنوبية لبلاد الشام وما بين النهرين قرب حائل وجُبّة وتبوك وطربان (موقع الأخدود) ولحيان ودادان، أو نقش جاب الريام الذي يُعَد، بحسب الباحث في جامعة الملك سعود د. محمد علي عبد الحاج في محاضرة ألقاها بالمتحف الوطني بالرياض، من "أهم النقوش المسندية، لأنه يرسم خارطة جغرافية لتمركز القبائل العربية في وسط الجزيرة العربية وشرقها وشمالها" (وكالة الأنباء السعودية، 30 آذار/مارس 2017)؟

نقش في أريزونا الأميركية 


















إن قراءة د. سلطان المعاني للنقوش تستحضر، كما يورد في بحثه، في كل مرة ميشيل فوكو (ميشيل فوكو: جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي/ عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1988)، "فهو لا يرى في الجنيالوجيا إعادة دراسة للتاريخ، بل على العكس هي شيء مختلف عنه وموازٍ له، وهذا طرحٌ يمكننا الركون إليه في دراسة النقوش وتتبع الظواهر منفصلة عن حيزها المكاني ونسقها الزمني، والاتكاء على كل هذا الركام الناجم عن التاريخ من حركية المنافحة والصراع والاستقواء والخضوع. إن تحليل النقوش وفق نظرة فوكو في الحفر المعرفي والتفكيكية يضعنا أمام وحدات معرفية تشكل رؤانا عن السلطة والقوى التي تنتسب إليها هذه الوحدات، وهي في منحى بنى معرفية يركن إليها في درس الواقع والحقيقة، وفي منحى آخر تمنحنا رحابة الحوم حول الحقيقة في تحميل المفردات والنص تأويلات تسهم في نسج خيوط صورة الخطاب المجتمعي لأصحاب النقوش" (المعاني/ بحثه المشار إليه سابقاً).


النقوش النسوية
وبسؤالنا د. سلطان المعاني عن النقوش المحفورة من نساء عربيات، سواء نبطيات أو بدويات أو كنعانيات، وهل وقعت الاكتشافات على نقوش من هذا القبيل تبوح بأشواق تلك النساء أو تهجس بهمومهنّ وشوارد فكرهنّ؟ أجاب قائلاً: "النقوش النسوية التي اشتغلتُ عليها أنا شخصياً كانت نبطية وليست صفوية أو ثمودية أو غير ذلك، والمرأة النبطية وحتى المرأة التدمرية وباقي النساء في الحواضر التي سبقت الإسلام (في البتراء أو تدمر أو حواضر العراق)، تميزت بحضور واضح لا يختلف عن حضور الرجل. وفي كثير من النقوش النبطية توّجت المرأة بوضعها على أحد وجهيّ العملة، وكانت ترث وتورث، وتسمّي من تورثهم. لها حضورها في مفاصل الحياة المختلفة، ولها أدوار مهمة على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. أما بالنسبة للنقوش التي وجدت في البوادي، فإن حضور المرأة كان من خلال الرسومات الموجودة على تلك النقوش، وهي رسومات صورتها أحياناً بتحفظ، وفي نقوش أخرى في حالة رقص فرديٍّ أو جماعيٍّ، إضافة إلى حضورها بوصفها إلهة كما في النقوش التي ذُكر فيها اسم (اللات). لم نجد نصوصاً في البادية العربية باحت به نساء بمكنون أنفسهن وصبوات أشواقهن وأسرار قلوبهنّ أو عقولهنّ أو عموم مشاعرهن، اللهم إلا أن هناك بعض الرسومات ظهرت فيها نساء بحالة رقص اختلف حول تفسيره؛ هل هو طقسية دينية أم احتفالية معينة".

نقش في تبوك بلكنة نبطية شمالية 


















المعاني أكمل يقول: "في ظنّي أن العربي في بيدائه هو العربي، لم يختلف كثيراً عما هي أحواله اليوم، لا أقول ذلك سبّةً أو مدحاً، فهو يمتاز بالمحافظة العجيبة التي تصل إلى درجة الجمود وعدم التحرك في بعض القضايا، ومنها النظرة إلى أن المرأة تأتي ثانياً، وعليه لم نجد في آلاف النصوص النقشية التي وجدت في البادية الأردنية الجنوبية الشرقية أو الشمالية الشرقية، أي عموماً الصفوية التي كتبها عرب في فترة ما قبل الإسلام، حضوراً للمرأة يجعلها في موازاة الرجل أو

حتى اقتربت منه في حفر نقوش معينة إلا ما ندر، أي القليل القليل الذي لا يشكل نسبة أو ظاهرة، فالمرأة تكاد تكون مغيبة في كتابات البادية النقشية فوق ملاسة البازلت وباقي أنواع الصخور، مقابل حضورها وبقوة عند عرب الحواضر (البتراء وتدمر والحيرة). بقي أن أقول إنه فعلاً كان لها حضور في النصوص النقشية الجنوبية (جنوب الجزيرة العربية) السبأية والمعيننية وغيرها، تقدم للآلهة القرابين وتستغفر، وعموماً كان لها حضورها اللافت في نقوش جنوب الجزيرة العربية".

ماذا بخصوص الهسيس؟
إجابة المعاني وافية، ولكن ماذا بخصوص الهسيس الذي لا يكاد يسمع؟ أين أنّات الناس في تلك الأزمنة؟ أفلم يكن الذاهب نحو صخرة بازلت سوداء، أو نحو حجر كلسي فاتح الألوان، أو بقايا شهب نازل من السماء، الحامل بيده صوّاناً أكثر حِدَّةً من الصوان المراد الحفر فوقه، أو سكيناً، أو حديدة أياً كان أصلُها وشكلُها وَحِدَّةُ نصلِها، ينشد أن يهمس في قلوبنا ومفردات وجودنا وأدواتنا المعرفية التي أهلّتنا لأن نفك طلاسم نقشه، قائلاً لنا إنه كان ذات يوم هنا؟

يستعرض الباحثان في الجامعة الهاشمية/ معهد الملكة رانيا للسياحة والتراث إياد المصري ومهدي عبد العزيز، في بحث أنجزاه لصالح بيت الأنباط، غايات النقوش النبطية (عموماً ما يصح على غايات نص نقشي ينسحب على النقوش الأخرى في أربع جهات الأرض)، مُلخِّصين أنواعها بناء على دوافعها إلى نقوش: تذكارية، جنائزية، نذرية، تكريسية، قانونية إضافة لنقوش تثبيت الملكية.
فهل نقع على هسيسٍ ما هنا؟ أليس نَدْبُ مكلومٍ على راحلٍ عزيزٍ هو أنَّةً يوثِّقها فوق الحجرِ الصامتِ والصامدِ في آن؟ أليس التذكارُ ترنيمةً يموسقها الوجود، ويرفعها الناقشُ حروفَه فوقَ صخرةٍ منسيةٍ إلى مصاف القدسيةِ المشتاقةِ إلى الخلود؟
في نقوش الثموديين المكتشفة في حائل والجفة وغيرهما، يستجير أبناء تلك البوادي بإلهين: رضي (إله العون والسعادة) ونهي (إله الكرب والغضب واللعنات). وهم، في جل نقوشهم هناك، إما يتضرعون إلى رضي سائلين إياه العون والفرج والوفرة، أو طالبين من نهي صب لعناته على فلان بعينه أو شرذمة بعينها.

لعل أكثر هسيس يرتقي إلى لغة الأدب هو ما يرد في نقش ديرعلا الذي اكتشفه في عام 1967، العالم الهولندي هنك فرانكِن خلال بحثه في منطقة غور الأردن (الوادي الأخضر) رفقة الباحث معاوية إبراهيم من دائرة الآثار العامة في الأردن، ونشره بعد ذلك بزهاء عشرة أعوام الهولندي الآخر هوفتايزر فان در كوي، وثبته في كتاب إدوارد لبنسكي حين أفرد له فصلاً كاملاً داخل فصول كتابه: "دراسات في النقوش والأسماء الآرامية" Edward Lipinski, Studies in Aramaic Inscriptions and Onomastics II, Leuven, 4991، وترجمه الباحث عمر الغول، فهذا النص النقشي هو بحسب د. سلطان المعاني أقدم نص أدبي أردني، إذا اعتبرنا أن مسلة ميشع هي أقدم نص إخباري توثيقي يتحدث عن هزيمة ميشع لعدوّه عمري اليهودي.

في نقش ديرعلا يتجلى عند حدود 800 عام قبل الميلاد، البوح، وتصعد النبوءة بوصفها طالعاً يتهجّى حروف الكون، ويقيم مع الكائنات حوله علاقةً جدليةً قائمة على الخوف مرّة والتنعم في أخرى، يروي أدق تفاصيل اللحظة.. النأمة القائمة، ويعكس، بحسب المعاني، "ظلامية النظرة ووحشية المآل في سردية تستحق النظر والدرس في أول نص أدبي أردني يعود إلى قرابة ثلاث آلاف سنة. فإذا كان نقش ميشع مسلة تأريخية تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، فإن نقش دير علا رؤيا أحادية الحكاية، مسرودة بنفس القص الأسطوري الشرقي القديم في أوغاريت وبلاد ما بين النهرين وبعض مقاطع النقوش الكنعانية" (المعاني/ من أدب الشرق القديم في الأردن، جريدة الدستور، 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009).
المعاني يخلص إلى القول إن "نص عرّاف الآلهة المؤابي بلعام بن بعور، رغم ما انتابه من تلف ورغم ما اعتور بعض المفردات والجمل من غموض، يبقى نصاً أدبياً مثيولوجياً يستحق التناول والتوظيف في نصوصنا الإبداعية، وذلك بعثاً لنصٍّ أدبيٍّ أردنيٍّ قديم" (المصدر السابق).

نقش اللهم ارفع الوباء 



















يمرّ النص مرّتين على الخفاش (الوطواط) بوصفه كائناً بشعاً يتطفل على نبيذ البلاد، فما أشبه اليوم بالبارحة: "ترتشف الوطاويط خمرا؟ أيرتوي الخفاش من الشراب المخمّر.. وحوش البرية سمعت.. استحالت شياطين نفثت كل احتراقها فوق المدينة.. فانزلي يا بروق وراوغي الأرض باشتعال الحرائق" (لبنسكي/ الغول/ نقش ديرعلا).

فماذا يمكن أن يكتب إنسان هذه الأيام فوق وجع البراري وحزن السناسل لو ذابت الحواسيب، واحترقت الأجهزة الذكية، وجفّ الحبر، وتلاشى الورق، وثارت الغابات، ونسيت البردى أن تعود؟
شجَّ الأقدمون عرباً وعجماً وجه الزمان، ناشدين الخلود، مؤمّلين أن نَمُرَّ خلال تقلّبات الوقت وتحولات المساحات، ذات بحث وتنقيب، على أثرهم، فالبعر يدل، بحسب الأعراب، على البعير، والأثر يدل على المسير، والسيرورة لا تتوقف، والأسئلة كذلك، فهل استطاع علماء الآثار والحفريات والحضارات فك طلاسم النقوش جميعها؟ أم بقيت كثيرٌ من نقوش السابقين عَصِيّةً مثل السِّر ورموز السِّحر؟
أسئلة سنفرد لها كتابات أخرى في مقبل الأيام، فالنقوش العربية تبوح بأكثر ثروات العرب تحققاً: الحرف واللغة، ولا بد من عودة لهذا الكنز ودلالاته وفضاءاته الشاسعة.

نقش سبأي بخط المسند الجنوبي