Print
أسعد عرابي

التواصل بين الباوهاوس والعمارة العربية الإسلامية

25 أبريل 2020
عمارة
منذ أكثر من مئة عام (في عام 1919م) تأسس في أبرز مدينة ثقافية في ألمانيا في ذلك الحين وهي «فايمار»، أشهر معهد أو مدرسة تضع العمارة في مركز شتى أنواع الفنون البصرية والصناعية، وهي مدرسة «الباوهاوس» (أي دار التعمير). تأسست بادئ ذي بدء من دمج معهد الفنون التشكيلية ومعهد الفنون التطبيقية، أما مديروها الثلاثة الذين تعاقبوا على مسؤولية رئاستها فهم من المهندسين المعماريين المرموقين. وابتدأت الإدارة بأبرزهم، المؤسس غروبيوس (1883-1970م) ومعاونه الأميركي الأصل الحفار والطباعي ليونيل فيننغر، الذي صمم شعارها الأول، بعد أن صمم عمارتها العالمية غروبيوس نفسه، وافتتحها بخطاب رسم خطاها المستقبلية الشمولية خلال قرن من الزمان، يبشر فيه بوحدة أنواع الفنون البصرية من تشكيلية إلى صناعية، ومن حرفية تطبيقية إلى نخبوية (من نحت وتصوير وحفر). ويتمركز في مختبرات وأتيليهات صناعاتها التصميم المعماري، كما كانت وحدة الحال المتناغمة في كاتدرائيات ومدن العصور الوسطى في أوروبا.

هو بمثابة دعوة ثورية للخروج من التقسيم التعسّفي الحديث لأنواع الفنون والدعوة الأولى إلى مركزية التصميم المعماري. ولعلّه من الجدير بالذكر اليوم أنه لم يكن في بداية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر يحتكر هذه البشارة التوحيدية، وسبقه إليها معاصره المعماري الكاتالاني الكبير غاودي في برشلونة وطراز الآرنوفو في أوروبا وجماعة القطيعة في فيينا (النمسا) ودعوات بعض الفنانين من رواد الحداثة الذين دعاهم للتدريس في الباوهاوس على غرار الروسي واسيلي كاندينسكي والألماني بول كلي والهولندي بييت موندريان وسواهم كما سنرى.

عمارة تونسية- بريشة بول كلي  

















تحتفل دول ثلاث معنية بسيرة هذه المدرسة وصراعها مع النازية وهي: ألمانيا والولايات المتحدة وإسرائيل. وقامت بالاحتفاء بالذكرى المئوية على تأسيسها من خلال معارض وتظاهرات بالغة العناية والأهمية في العام الفائت 2019م، استمر أغلبها حتى مطالع 2020م، لم يوقفها سوى اجتياح جائحة الكورونا مؤخراً (منذ أوائل آذار/مارس الفائت).

صنفت الباوهاوس في عام 1955م ضمن التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم المتحدة. وتنتشر مكاتبها اليوم في أنحاء العالم، اثنان وعشرون في الولايات المتحدة وسبعة عشر في بريطانيا وثلاثة في ألمانيا ومثلها في فرنسا، تبعتهم إسرائيل فأسست واحداً عام 2000م في تل أبيب.
هناك مكتبة عمودية التوثيق ومختصة كاملة تحيط بكل صغيرة وكبيرة في سيرة الباوهاوس التربوية التبشيرية التي مثلت ثورة معمارية تتحلق حولها الصناعات والحرفيات والديزاينر (التصميم) وشتى الفنون النخبوية. لعلّ أبرز الكتب هي التي كشفت تفاصيل النظام الدراسي، المجزأ إلى حصص تجري ضمن أتيليهات (محترفات) عملية ترتبط بتعددية الأداءات الحرفية والتلقينات التقليدية المحدثة.

سجادة مستلهمة من البساط  


















وهنا لا بد من استدراك أن استدعاء أبرز المدرسين تأخر عن تاريخ التأسيس بعدة سنوات حتى بدأ ازدهار المنطلق النظري لغروبيوس. وتسلّم واسيلي كاندينسكي تدريس الفريسك (التصوير الجداري) وعُهدت إلى بول كلي مسؤولية إدارة النظري والعملي في قسم الزجاج المعشق ولعلّه من أبرز المدرسين،

وتناول كتاب (les cours du Bauhous) تفاصيل إحدى حصصه البالغة الأثر: يضع بجانب كل طالب جدولاً شطرنجياً وزهرة برية ثم يطلب إعادة توزيع ألوانها داخل نسق المربعات المتعامدة، هو ما يشير إلى توليفية ممارسته للتصوير والموسيقى باحتراف متين، وآخر كتاب لقائد الأوركسترا المعروف بيير بوليز (الأراضي الخصبة لبول كلي) أثبت فيه بصرياً كيف أن هذا الفنان كان يحول نوطاته الموسيقية إلى لوحات، يتفق كليّاً مع توأمه كاندينسكي إذ أنه كلما كان هناك تراشح بين الفنون البصرية والسمعية كلما ترسخ البعد الروحي في الفن المعاصر، ويبدو هذا التوافق من خلال كتابين صدرا لكل منهما عام 1910 بصيغة متزامنة، ويتفوق كتاب كاندينسكي (ما هو روحاني في الفن المعاصر) على توأمه حين يستشرف مستقبل اللوحة: «سيأتي يوم قرب أم بعد، ستتحول فيه اللوحة إلى تنويط قابل للتأويل من أكثر من فنان».

 محراب المسجد 


















علينا أن ننتظر ثمرات هذه الرؤيا من خلال الجيل التالي من الباوهاوس بأبرزهم في بودابست فكتور فازاريللي (تلميذ موهولي ناجي). وهو مؤسس فن الوهم البصري الأوبتيك - سينيتيك منذ الخمسينيات في باريس. ثم نكتشف بالتدريج أصالة بقية المدرسين مثل بييت موندريان وتصوفيته الاختزالية التي قادت إلى التوليف بين العمارة والأزياء والديزاينر. ثم أوسكار شلايمر، الذي تسلم تدريس مادة النحت وعرف بتصاميم ديكوراته وعرائسه المهندسة، ثم جوهانز إيتين، الذي كان نباتياً يمارس الرياضات المزدكية... إلخ.

استمر غروبيوس في منصبه في فايمار حتى عام 1928م فعزل بتهمة أفكاره الاشتراكية، وخلَفه فان ديير وانتقل مركز الباوهاوس إلى داسو، ثم عين الثالث ديزروش وانتقلت الباوهاوس بأوامر وتضييقات النازية إلى برلين قبل إغلاقها عام 1933م. ثم أُحرقت في ساحة عامة لوحات مدرسي الباوهاوس خاصة بول كلي (الذي كان يدين باليهودية) وكاندينسكي مكتشف التجريد عام 1908م بتهمة نشر «الفن الفاسد» (dégénéré)، وحل محله الفن النازي للبروباغندا الدهمائية والعنصرية الآرية. وهرب بول كلي إلى سويسرا طلباً للجوء والجنسية، وفر ليسلي موهولي ناجي الذي يدين باليهودية أيضاً إلى واشنطن ليعيد مع زميله ألبير تأسيساً جديداً للباوهاوس، ولجأ غروبيوس وفان فيلت إلى الولايات المتحدة ليتسلما إدارة المعاهد الفنية.


عناصر معمارية إسلامية
تتسرب إلى مختبر الباوهاوس 

لو راجعنا المعرض الأول للباوهاوس الذي أقامه غروبيوس في فايمار عام 1923م، لوجدنا أن أبرز المعروضات كانت متمثلة في عدد من الماكيتات المعمارية العملاقة المستلهمة من حلزونية «مئذنة الملوية» في المسجد الجامع في مدينة سامراء (سر من رأى) والتي بناها الخليفة المنصور على مسقط دائري (بعكس بغداد المبنية على مسقط مربع) وقد نقلها في حينها ابن طولون إلى مئذنة جامعه المعروف في القاهرة. إن هذا الطراز العباسي في العراق قد يكون استمراراً لتقاليد معابد الزيقورات الحلزونية (بمثالها المتأخر برج بابل).

  مئذنة الملوية في سامراء 

















ولعلّه يجدر ذكر أن مخطط سامراء التجديدي يناظر مخطط بقية المدن العربية الإسلامية، ومن أبرز خصائصها قبل بناء السور هو توزيع العمائر التنظيمية المتحلقة حول المسجد الجامع بأسماء مهن الأحياء والخطط من حي الوراقين إلى الصوف والحرير إلى الصاغة والخزافين ما خلا الدباغة والمسالخ والتربة، وتقع جميعها خارج السور حتى لا تلوث المدينة، وسنجد العديد من التفاصيل التي تتقاطع مع تصور غروبيوس لوحدة المدينة والعمارة والصناعة في كتاب الصديق الدكتور هشام جعيط «الكوفة أو بناء مدينة إسلامية».

إذا رجعنا من جديد إلى المؤسس غروبيوس وجدناه يستعير ابتداءً من عمارة الباوهاوس البكر القبة الزجاجية الشمولية التي شيدها الإمبراطور حيدر دوغلات في بلاطه (الإمبراطورية المغولية في الهند)، بحيث تجمع هذه القبة شتى الأديان والأعراق واللغات ومنها الآردية التوليفية بين العربية والهندية والفارسية والتركية، وتستخدم خاصة اليوم في الإنشاد الصوفي ومثاله نصرت فاتح علي خان. أما ما تحت القبة الزجاجية للباوهاوس فيمثل بوتقة لقاح شمولي حضاري خاصة وحدة التنظيم والعمارة والصناعات العربية الإسلامية.

تذكرنا هذه الصبوة الشمولية بتقاليد ثقافة مدينة فايمار وشهرتها القائمة على الانفتاح الحضاري متمثلة في رمزيها الشاعرين شيللر وغوته، الصديق المتحمس للحضارة العربية الإسلامية عبر كتابيه: ديوان شرقي غربي، وخاصة كتابه الرائد: «مبحث في الألوان»، متعقباً البعد الروحي في الألوان، بما فيه مفهوم التجلي لدى المتصوفة، هو الذي كان له تأثير بيّن على كتاب كاندينسكي المذكور، وكاندينسكي نفسه لم يكن بمعزل عن هذا الإقرار والاعتراف بشمولية الحضارة العربية من خلال مجموعته الشهيرة المعروفة بلوحات «عربيات»، ثم إن زوجته عازفة البيانو المحترفة ذات أصول بعيدة تصل أطراف آسيا المسلمة في روسيا.
يعتبر المعلم الأكبر في التصوير والموسيقي بول كلي (وأبرز أعضاء الهيئة التدريسية في الباوهاوس) أقربهم وأشدهم حساسية تجاه الحضارة العربية الإسلامية (خاصة المتوسطية) في موسيقية نسقه اللوني بعد صدمة الزيلليج التونسي. وخلال إقامته في سطوعها اللوني يعلق «في تونس أحسّ لأول مرة بأني أصبحت مصوراً».

لكن البادرة الأشد راديكالية تتمثل في دراسته النظرية لتفاصيل عنصر المحراب في المساجد الإسلامية، واعتباره ذروة في التطويع البصري الروحي، باعتباره بوصلة تقود إلى قدس الأقداس، عبر نورانية المواد المشكاتية، من أنواع الرخام والأبلق والزيلليج والفسيفساء والملصقات ولوحات التخطيط بالثلث وسواه مثل «كلما دخل عليها زكريا المحراب» (محفوظة بسبب قيمتها الاستثنائية في اليونسكو، وضمنتها في أطروحة الدكتوراه الأولى المقارنة بين السينيتيك أوبتيك والأرابسك (الرقش)) وهنا نصل إلى ذروة التأثر بالوهم البصري الانعكاسي في المدينة الإسلامية وتأثيرها على أحابيل الوهم البصري لفكتور فازاريللي، ومثالها الصريح اللوحة العملاقة المعلقة في مدخل الجامعة والمستلهمة من متاهات طراز الكوفي المربع.

 تصميم نصب للباوهاوس

















يقع الصديق الحميم الثاني فكتور فازاريللي (ما قبل خمسينيات حصوله على الجنسية الفرنسية) بين معلمين كبيرين من الجيل الأسبق هما بول كلي (كان يرسم في بعض تجاربه الحروف العربية دون معرفة قراءتها) وتعلم فازاريللي من ألاعيبه الكرافيكية الوهمية الخطية أولاً أكثر من اللون، والثاني هو الموسيقار الهنغاري العالمي الأول بيلابارتوك، ويكفي أن نذكر أن الملك فؤاد وضعه على رأس قسم الاستماع في المؤتمر الأخير للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932م، مما هيأ له فرصة التعرف على أساطين الأدوار ومنهم السنباطي وزكريا أحمد وصالح عبد الحي ودرويش، ثم أم كلثوم، مما قاده عند عودته للتوليف بين الموسيقى الأفقية اللحنية لهؤلاء وديوان باخ،

وليس بالصدفة أن فازاريللي صمم ضريحه في بودابست بلوحاته السينيتيك، لأن شموليتها وتوليفها مع الموروث البصري الإسلامي تتوازى مع صبوة مواطنه (المتوفى بسرطان الدم باكراً) علماً بأن زوجة فازاريللي كانت مصورة منمنمات إسلامية.
وإذا كنا بصدد الحديث عن تأثير العمارة أكثر من الحساسية التشكيلية الحداثية، فإن مسلك فازاريللي الفني لا يفرق بين المدينة والعمارة والصناعات الفنية، بدليل أن مشاريعه العامة متعددة الوجود والأنواع في روح المدينة المعاصرة ابتداءً من أوابد إشارات السير الكهربائية الملونة، إلى الحواجز المرسومة على طرف الأوتوروت، ناهيك عن البانوهات المبصومة بأحابيل الوهم البصري التي تشكل فواصل عملاقة تحمي المشهد المعماري في الأحياء المعاصرة، بدليل أن متحفيه غورد ومتحف فازاريللي يكشفان تقنية هذا التوحيد في الأداء التنظيمي: العمارة التي تمثل جزءاً من البيئة الحضرية والعناصر المعمارية الداخلية التي لم تعد تدعى بالديكورات، وحتى الأثاث والنوافذ والمداخل المتداخلة من نحت البليكسيغلاس وثرياته ومشكاته (الكاليودوسكوب) للمرايا الملونة المتقابلة، تستلهم جميعها (مثل المهندس المصري حسن فتحي) شتى الصناعات الإسلامية: المشربيات والروشانات والسيراميك والمقرنص والأرابسك ورقش النجميات وشمسيات الزجاج المعشق وغيرها من العناصر الصناعية المتلاحمة مع العمارة، دون قدسية موروث أو تقاليد، لأنها غير مكرورة وموجهة إلى جماليات القرن العشرين وربما ما بعده.

  عمارة الباوهاوس الأولى  


















يتحالف في النتيجة مبدأ توحيد الفنون السمعية والبصرية حول مركزية عمائر المدينة بين الباوهاوس والحضارة العربية الإسلامية، وذلك من خلال ملاحظة ابن خلدون في «المقدمة»: «أول ما يفسد بعد العمران في المدينة صناعة الموسيقى».