Print
محمد جميل خضر

غسّان مفاضلة: هندسة العمارة تتكاملُ مع الجمال

27 يونيو 2020
عمارة

منطلقًا من رؤاه حول علاقة الإنسان بالمكان، شيّد الفنان والناقد التشكيلي الأردني غسّان مفاضلة مداميك مشروعه الإبداعي، ورفع عاليًا كتل أعماله النصبية الإنشائية المتقاطعة بالمبنى والمعنى مع روح العمارة وعلومها وخطوط اشتباكها مع الواقع والبيئة والمحيط. إنها أعماله النصبية المنتشرة في غير مدينة أردنية: "ارتسامٌ معماري" بحسب توصيفه هو نفسه لها. "اختزال مرئيات" وإعادة إنتاج يمور بالحركة والإيقاع وتبدلات الضوء والظلال.
مفاضلة يرى في الحوار الذي أجريناه معه أن هندسة العمارة، ورغم نزعتها العلمية والغائية، لم تخرج عن كونها "فرعًا من فروع الفنون الجميلة، وذلك منذ بدايات انحيازها لمبدأ التكامل والانسجام بين الوظيفة والجمال".
ولعل أشعّ ما يمكن للمنتبه التقاطه حول جهد مفاضلة الإبداعي الوافر المختلف، هو ما تحتاجه أعماله المركبة متعددة الأبعاد والدلالات، من طاقةٍ فَذَّةٍ، وهِمّةٍ عاليةٍ، ومثابرةٍ عنيدة. وهو هنا، عند هذه التفصيلة على وجه الخصوص، كما لو أنه يطوي الأعوام طي الرمل في السراب، كما لو أن السنين لا تفعل معه فعلها الذي تفعله مع غيره. ففي منجزه "قمر عمّان"، على سبيل المثال، الذي سبق أن أوفيته حقه بالكتابة عنه في "ضفة ثالثة" بتاريخ 6 آب (أغسطس) 2018، عاد غسّان لترميمِ عملٍ كان أنتهى منه عام 2002، عاد إليه عام 2018، بالحيوية نفسها والشباب نفسه، كما لو أن "16 عامًا، تلاشت بضربة من فرشاة ألوانه"، وانكب مجددًا ومستعيدًا ألقًا كان: "لوّن مسارب أنفاق، وقواعد جسور، وجمّل صرامة تقاطعات مرورية مبتلاة بالدخان وإيقاع المدينة الهادر اللاهث السريع، غير المتروّي لتأمّلِ فعلٍ ما؛ لفتةِ إبداعٍ مثلًا، أو ومضةِ تجليات".
في جعبة سلسلة "الإنسان والمكان" النصبية الإنشائية النحتية البانورامية المعمارية، التي بدأها غسّان مفاضلة قبل زهاء 20 عامًا، أعمال أنجزت وأخرى على الطريق: "تحليق" التي تزيّن مداخل مدينة عجلون في شمال الأردن، "الإنسان والمكان" العمل النصبي الذي يحمل اسم الفكرة نفسها وينتصب بوصفه فاتحة مرحبا كبرى عند أبواب جرش المدينة الأثرية المهرجانية العريقة، "عناق" الطالع من عروق الجنوب فور وصول الزائر مدينة الطفيلة، "قمر عمّان"، "قمر الفحيص"، وأخيرًا وليس آخرًا "فينيق عمّان" العمل المركب متعدد زوايا النظر الذي يضع غسان لمساته الأخيرة قبل أن ينتصب في قاع المدينة بوصفه جزءًا من الوهج المعماريِّ الإنشائيِّ الجماليِّ العمّانيّ.
أما في الجامعة الأردنية، الجامعة الأم التي درس مفاضلة فيها، فخلال عمله على إنجاز منحوتته الخشبية "مدارات" واصل الليل بالنهار، والمنحوتة شكّلت جزءًا من أعمال أخرى أنجزها فنانون ونحاتون أردنيون وعرب تحت عنوان عريض هو "ذاكرة السرو"، المشروع الذي هدف أيامها إلى إعادة تدوير أشجار السرو التي اقتلعتها ثلجة عرمرمية، وتحويل يباسها إلى حياة فنية نحتية تجميلية.
والفنان مفاضلة، إضافة لتصميمه وتنفيذه العديد من الأعمال النحتية الميدانية والجداريات الفنية، متخصص بالكتابة في النقد الفني في الصحافة الثقافية المحلية والعربية منذ عام 1988، وأصدر كتابًا نقديًا حمل عنوان "خزائن المرئي- مشهد نقدي في الفن العربي المعاصر"، كما شارك في العديد من المعارض الفنية المحلية والعربية والدولية.
وتاليًا حوار معه: 

مفاضلة يضع اللمسات الأخيرة على عمله الإنشائي عند بوابة مدينة جرش 

















(*) تدوير مواد ومعادن، إنشاء كتل تعانق الفراغ وتمور بحركة داخل آفاق السكون، قراءة تفاصيل المكان قبل أن تقيم حوارك معه، أليس كل هذا وغيره، يضعنا أمام رؤى معمارية تؤسس لأعمالك الإنشائية الجمالية؟
- نعم، إذا ما نُظر إلى أعمالي النصبية من جهة ارتسام العلاقات وتقاطعاتها مع مفردات المكان. إنها بمعنى ما "ارتسامٌ معماري" يتأسس على نظام العلاقة الرئيسية بين الكتلة والفراغ والحركة في محيطها المكاني. فأعمالي لا تستهدف إقامة علاقات تشبيهية مع مشهديات المكان ومؤثثاته، بقدر ما تسعى إلى اختزال مرئيات المكان وإعادة انتاجها عَبر الحركة والإيقاع، كما هي الحال مع النصب الانشائي "الإنسان والمكان" الذي أنجزته على مدخل مدينة جرش بأثرٍ من بوابتها التاريخية.

 (*) إلى أي مدى باعتقادك يحتاج أصحاب المشروع الإبداعي المتقاطع مع مشروعك، إلى إحاطة واعية عميقة بهندسة المدن التي يقررون وضع لمستهم الفنية الجمالية داخل تفاصيلها وبيئاتها وخصوصيتها؟ وهل يقتصر الأمر على الدراية الهندسية؟ ألا يشكل تاريخ المكان جزءًا أساسيًا من مفردات فهمنا له ومن مستلزمات شروعنا بتدشين نصب، إنشاء، تصميم/ منحوتة عند أبوابه أو في مركزه؟
- جلّ الأعمال الفنية التي تنتصب في المساحات العامة للمدن، تصبح مع مرور الوقت جزءأ من ذاكرة المكان وهويته، وذلك بفعل الحوار البصري الذي تشيّده مع فضاء المكان وتقيمه مع نسيجه المعماري؛ وبالتالي فإن الدراية الهندسية وحدها غير كافية للإحاطة بموجبات تجميل المدن وتموضع النصب الفنية فيها، من دون أن يصاحبها رؤية جمالية منفتحة على هوية المكان وتاريخه. فالمكان ليس مجرد حيّز عياني مستقل عن الفضاء الحيوي للإنسان، إذ من خلاله نختبر فاعلية علاقاتنا مع محيطنا وذواتنا، ليصبح بدوره هويةً وذاكرةً لا تنفصل عن هوية قاطنيه وذاكرتهم.

عجلون  

















(*) هل يمكن القول إنك القروي الذي قرر فرض أيقوناته وسهوله وجباله ووديانه وعيون مائه على المدن التي يقيم فيها أو يزورها أو يتفاعل معها بأي شكل من أشكال التفاعل؟
- لا، لم أقرر فرض شئ محدد، أو اسقاطه على هذه المدينة أو تلك. علاقتي مع المكان ليست علاقة تسلطية، بل هي علاقة تقوم على معاينة ترسبات الأثر الجمالي انطلاقًا من الإيقاع البصري لـ"تضاريس" المكان، ووفق مذاقاته في الحركة التكوين.
ربما ساهم المخزون البصري المتحدّر من القرية، في تمكيني من إصاخة السمع إلى حوار العلاقات البصرية في محيط المكان؛ حوارٌ ما زلت استقي منه منطلقاتي في التعامل مع "الأثر" بوصفه مرجعًا للتعبير في المكان، ونتيجةً له في الفن.


(*) إلى أي مدى أفدتَ من تخصصك الأكاديمي المرتبط بتصميم البرامج الحاسوبية وعلوم الرياضيات والعلوم التطبيقية على وجه العموم، في تطوير أفكارك المتعلقة بالأعمال الإنشائية والتصاميم متعددة الحقول الفنية؟
- تكاد الافادة الرئيسية في هذا الجانب، تنحصر في التعامل مع تماسك التكوين الهندسي للعمل الفني وفق نظامه في الإنشاء والتركيب. فنحن في حالة "التنصيب الإنشائي" نكون أمام جملة من العناصر الأولية التي تتعين من خلال الكتلة والفراغ والحركة.

وهذا التعين هو أول ما يظهر لنا في العمل الإنشائي على شكل وحدات أساسية تنتظم بعلاقات خاصة داخل نظام التكوين الإنشائي. لكن هذه الافادة لا تأتي على نحوٍ واعٍ أو قصديّ، وإنما تأتي في سياق تشكّل النسق الجمالي والتعبيري للعمل، أي ضمن سياق (تأليفاته) وتكويناته، وعلى وجه الدقة: ضمن آليات عمل (الإنشاء) فيه. وربما يكون عمل "فينيق عمان" هو الأكثر قربًا من الصيغ الرياضية والمعمارية. 

فينيق عمان  

















(*) أيمكننا القول إن هندسة العمارة هي أقرب التخصصات العلمية الهندسية للفنون، وإن مقترحاتها البصرية الأكثر عمقًا وتحليقًا، هي تلك الآتية من رؤى فنية تشكيلية مدروسة العناصر؟
- ضمن المعنى السابق نفسه، تعتبر هندسة العمارة هي الأقرب للفنون، خاصة لجهة فن النحت بتوجهاته وتصنيفاته المتنوعة. فالعمارة نفسها، ورغم نزعتها العلمية والغائية، لم تخرج عن كونها فرعا من فروع الفنون الجميلة، وذلك منذ بدايات انحيازها لمبدأ التكامل والانسجام بين الوظيفة والجمال.

(*) دعنا نخص عملك الأخير "فينيق عمان" بمساحة أوفر فهو الأحدث لك، أرى أن جرعة العمارة والعمران والمعمار فيه أغزر مما جاء في أعمالك السابقة؟ هل تتفق معي حول ذلك؟
- ربما لأن "فينيق عمّان" ارتبط من حيث الحركة والتكوين بالمعمار الطوبوغرافي لجبال عمان. فهو عبارة عن تنصيب إنشائي يحاكي على نحو اختزالي، الإيقاع الحركي لجبال عمّان. فهو بانسيابيّته ورشاقته، يتقاطع مع طبيعة المكان العمّاني، ويتناغم مع فضائه المعماري لجهة الحركة والتكوين.
فالنظام البصري لـ "فينيق عمان" يخضع لمنطق رياضي صرف. فهو ينبثق من مركزية دائرية بمحيط أربعة أمتار، ليأخذ بالتوسع بشكل انسيابي من الداخل إلى الخارج صعودًا إلى علو 12 مترًا، وضمن حزمة من التشكيلات المتنوعة بتنوع مساقط النظر عليه، ما يمنحه طابعًا تفاعليًا مع الفضاء المعماري للمدينة. 

(*) جزء عضوي جوهري من الفلسفة المعمارية يبحث علاقة الإنسان بالمكان، وهو ما يشغلك في معظم أعمالك، أيهما أسبق عندك هنا: الفلسفة المعمارية أم الرؤى الجمالية؟
- كما أشرت في البداية، لا أنظر إلى المكان باعتباره حيزًا عيانيًا مستقلًا عن المجال الحيوي للإنسان. فمن خلال المكان بوصفه "جوهر امتداد الأشياء" نختبر فاعلية العلاقات مع محيطنا وذواتنا. وعندما يشكّل المكان فضاءً لحيواتنا جميعها، لا بد له أن يكتسب جزءًا من سماتنا ومسحاتنا. وهو بذلك يخرج من كونه حيزًا ساكنًا ومحايدًا، ليستحيل عبر المدركات الحسية والمخيال، إلى حاضنٍ مؤنسنٍ خاضعٍ على الدوام للتأثر والتأثير.

(*) أخيرًا وليس آخرًا، ما الذي تود أن تقوله لنا عبر "قمر الف
حيص" وألوان العمل الهادرة؟
- تتوزع جدارية "قمر الفحيص" البانورامية على سبعة مواقع مختلفة في بلدة الفحيص القديمة بمساحة نحو 1500 متر مربع. وهي تستمد تعبيراتها الفنية من قسمات المكان "الفحيصي" بما ينسجم مع إرثه الثقافي والجمالي.


الجدارية عبارة عن كشف لسلسلة من العلاقات البصرية الدالة على المكان وتضاريسه الطبيعية، من جبال وسفوح ووديان ومعمار، وهي، إلى ذلك، إعادة تمثّل لمختلف ما تقدم، من خلال اللون والحركة والإيقاع، وأقرب ما تكون إلى "بانوراما لونية" تحاكي قسمات المكان بمنظور اختزالي معاصر.