Print
محمد جميل خضر

آدم حنين.. معماريُّ الحجر العنيد

6 يونيو 2020
عمارة
يتفقون على أنه نحّات مصر الأول. الشاعر اللبناني شربل داغر يتحدث عن رقّته: "غاب الصديق الفنان المصري آدم حنين (1929-2020)، الأرقُّ بين الفنانِين الذين عرفتُ، مع أنه يعمل في الصخر، صخر أسوان وغيره، إلا أن منحوتاته يترقرق فنُّها مثل مياه جوفية، كامنة: مياه إنسانيتِه العامرة بالجميل والمدهش". (ضفة ثالثة، 23 أيار/مايو 2020). أحمد مجاهد، أستاذ النقد المسرحي والدراما بجامعة عين شمس، يودعه بوصفه سليل الفراعنة، كاتبًا على حسابه في فيسبوك: "وداعًا نحات مصر العظيم، سليل الفراعنة آدم حنين، وأحمد الله على أنني قد شرفت بصداقتك، والعمل معك في سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت" (ضفة ثالثة، 23 أيار/مايو 2020).

أما هو فيعرّف على نفسه في ختام الفيلم الذي أنتجته مكتبة الإسكندرية عام 2019 حوله: "أنا آدم حنين نحّات مصري". فاروق حسني وزير الثقافة المصري السابق، والتشكيلي مثله، يعده، في الفيلم نفسه، أهم نحاتي مصر قاطبة. المعماري أكرم المجدوب مدير المؤسسة التي تحمل اسم آدم يقول: "فنانٌ بَلْوَرَ حياته جميعها بوصفها عملًا فنيًا". النحات عصام درويش (نائب مدير مؤسسة آدم حنين) يقول: "هو ليس فنانًا فقط، إنه إنسان ومعلم". مصمم المناظر السينمائية أنسي أبو سيف يقول بدوره: "صاحب رسالة يجيد التخاطب الوجداني قبل التخاطب العقلي".

المعماري يتأهب للنحت 


















لكن ماذا عن آدم حنين المعماري الذي طوّع الحجر والبرونز والخشب والشمع وخامات أخرى لرؤاه المعمارية الهاجسة في فرص الكتلة ومدى قدرتها على إعمار الفضاء (الفراغ)، واجتراح تكوينات ثلاثية الأبعاد تستنشق الضوء، وتراعي الظلال، وتستحضر كثيرًا من عناصر هندسة العمارة وشروط التصميم البنياني في أعماله التي تناهز 4000 عمل يحتضنها المتحف الذي يحمل اسمه قريبًا من أهرامات الجيزة، القصة المعمارية الأخرى التي نصبها الفراعنة وتركونا نضرب في قراءة هندستها أخماسنا بأسداس معماريي الكون كلّه وأهم متخصصيه؟
في دراسة له حملت عنوان "دور فن النحت في تحقيق هوية العمارة المصرية"، يذهب فيصل سيد أحمد، أستاذ النحت والعمارة في كلية الفنون التطبيقية/ جامعة دمياط، إلى أن الفكرة المعمارية بدأت أساسًا من فن النحت. يقول أحمد في دراسته: "إن فنيّ النحت والعمارة اشتركا على نحو جدير بالإعجاب في عده نقاط على مر التاريخ، وخاصة في العمارة المصرية القديمة، وأيضًا في العمارة الإسلامية المصرية، حيث فرضت الشخصية المصرية نفسها في المفردات التشكيلية. وفي الوقت الذي أصبح فيه فن العمارة نوعًا من النحت على نطاق واسع، وفن استغلال مفردات النحت والأشكال النحتية المستحدثة لتحقيق المتطلبات الوظيفية في العمل المعماري في العمارة العالمية، تراجعت العمارة المصرية عن مجدها فأصبحت مزيجًا من الأنماط المتنافرة، منها ما هو متأثر بالعمارة التراثية، ومنها ما هو منقول عن العمارة الغربية التي غزت وسيطرت على الساحة المعمارية".
بدوره يعرّف موقع selectartusa.com، مصطلح "نحت معماري" بأنه: "استخدام المعمارييّن أو النحّاتين لتقنيات النحت في تصميم مبنى أو جسر أو ضريح أو غيرها من المشاريع". ويواصل الموقع إبحاره في تقاطع هذين العالمين/ الفنييْن قائلًا: "غالبًا ما يتكامل النحت مع هيكل البناء، كما أن الأعمال القائمة بذاتها تُعد جزءًا من التصميم الأصلي في النحت المعماري. كما يتم تعريف النحت المعماري على أنه جزء لا يتجزأ من المبنى أو النحت الذي تم إنشاؤه خصيصًا لتزيين أو تجميل الهيكل المعماري". (Select Art Sculpture: Glossary، 27 كانون الأول (ديسمبر) 2017).
د. يوسف العلمي، أستاذ العمارة في جامعة العلوم التطبيقية الأردنية، يقول في محاضرة له حول "عمارة الأنباط": "ظهر فن النحت جليًّا في عمارة الحضارات القديمة كما في عمارة بلاد ما بين النهرين، والعمارة اليونانيّة القديمة، والعمارة المصريّة القديمة، والعمارة الرومانيّة، وعمارة الأنباط، وغيرها من الحضارات القديمة، إضافة إلى نمط العمارة الاستعماريّة الذي ظهر بعد اكتشاف الأميركيتين" (2006).
لعل الحديث هنا بمعظمه حول تأثير فن النحت على العمارة، لكننا، وإزاء تجربة آدم حنين، نجد أنفسنا أمام تأثير الرؤى المعمارية وآفاقها على فن النحت الذي سكن روح آدم عندما كان ما يزال تلميذًا في مدرسة الفجّالة الابتدائية، ونظموا لتلاميذ المدرسة مطلع أربعينيات القرن الماضي، رحلة للمتحف المصري. (وهنا أترك لمن يرغب الاستزادة حول أثر تلك الزيارة على نفس آدم حنين وعلى روحه، العودة لمقال الزميلة سارة عابدين "آدم حنين.. متصوف النحت"، ضفة ثالثة، 24 أيار/مايو 2020).

حديقة المتحف 

















عفاف
ينحت آدم حنين في حديقة البيت الذي عاد له بعد عقود من الغياب، وحوّله إلى متحف يحمل اسمه، سفينة (مركِبًا على رأي إخوتنا المصريين)، فإذا بهذه السفينة التي سمّاها عفاف على اسم زوجته الراحلة عفاف الديب، تتجلى بوصفها معمارًا بالغ الدلالة في (الجنينة). فحاكورة البيت المكوّن من ثلاثة طوابق، صار لها قوامها بعد نحت (تشييد) السفينة التي زيّنها حنين بعدد متنوّع وصاخب من منحوتات أخرى له، منها منحوتة لصلاح جاهين (1930-1986) صديقه وزميله أيام "روز اليوسف" والرباعيات الجاهينية التي كان يتقاطع آدم معها برسومات كاريكاتورية، ورفيق عمره حتى رحيل جاهين مزنرًا بالأغاني والفوضى والاختلاف المستحيل.
سفينة (الجنينة)، هي، بحسب ما يروي حنين لجمال حسني مدير إدارة المعارض والمقتنيات الفنية في مكتبة الاسكندرية، مخرجات حُلْمٍ حَلُمَ خلاله أنه نائم في الجنينة، فاستيقظ وأيقظ مساعده محمود وقال له سنبني مركبًا هنا بطول 15 مترًا. والسفينة التي يكشف أنسي أبو سيف أن فيها مقصورة لحورس لا تُرى إلا من خلال ثقب يسمح برؤيتها عندما تصل أشعة الشمس للثقب، تتحرك، بحسب ما يوضح حنين، وفق آلية هندسية معينة، بواسطة عصا موجودة من ضمن مفرداتها ومكوناتها العديدة. إنها تعكس حركة امتداد ثقيلة راسخة معبّرة، وهي مرتبطة مع البطة والسيدة الواقفة قربها وميلان المركب يوحي بمعنى ما، انسحاب وحركة وحدوتة مصرية إنسانية بديعة. أليس كل ما تقدم يصب في أن وعيه المعماري يتناغم مع وعيه النحتي، لتتمخض عن كل ذلك أعمالٌ مسكونة بالفنيْن معًا: المعماري عندما ينحاز إلى الإبداع، والنحت عندما يُسَيِّر الإبداع في رؤى حسابية دقيقة صارمة؟
لا يتوقف النبض المعماري في أعمال حنين عند الأعمال صارخة الوضوح المعماري في تفاصيلها وكتلها وفراغاتها وعلاقات الظل والضوء فيها، بل تمتد، حتى، إلى تلك الأعمال الأقرب للمنمنمات، وما تبوح به من عمارة داخلية روحانية مفعمة.

أم كلثوم كما يراها آدم حنين 

















بمقاييس جمال غير تقليدية، وبزاوية نظر مختلفة، وبوعي تجريدي يجعل كتلةً من حجر جرانيتي أسود، بائعة في السوق، كما يؤكد لمذيعة قناة cbc، في فيلم آخر عنه (رصدتُ أكثر من سبعة أفلام وثائقية حول حنين، منها فيلم للجزيرة الوثائقية). ترتبك المذيعة، غير المتسلحة على ما يبدو بما يكفي حول الفن التجريدي، فيطلب منها أن تتبنى زاوية ما للنظر.
يبني حنين معماره، سواء هذا الذي أنجز فيه بالتعاون مع مصمم المناظر السينمائية أنسي أبو سيف، تصميم متحفه، وشكل توزيع المنحوتات والرسومات والاسكتشات في باحته وطوابقه، أو المعمار الكلياني الشامل الممتد على عقود تجربته من مصر إلى ألمانيا، ثم مصر مرّة أخرى، ثم فرنسا، بمزيجٍ مدهشٍ من شروط هندسة العمارة ومدرسيتها وحساباتها الصارمة، يقول في واحد من الأفلام التي أنتجت حوله، إنه يراعي في أعماله "حسابات هندسية تصميمية صارمة"، وهو ما يظهر جليًا في أعمالٍ يطلب من مقابليه ومجري الحوارات معه، تلمس بعضها بصوفية مفعمة بالجمال والجلال.

وهو ظلّ حتى أيامه الأخيرة وفيًّا للنحت بوصفه هندسة من جهة، وفنًّا صعب المراس من جهة ثانية. فتنته أسوان، فتنه الجرانيت حتى الثمالة، جال حارات الناس حول جبال الحجر الشاهقة الباقية، شرب شهيق السكة الحديد، ودروب السابقين: فراعنة وأقباط ومسلمين، غاص في الفنون الأوروبية، ليخلص في نهاية المطاف إلى رفض تقييده داخل مدرسة من مدارس التشكيل: (أنا ما عنديش مدارس ومعنديش نقلات) بلهجته المصرية التي نخبرها جميعنا.
آدم حنين جعل من شجرة نخل تتوسط حديقة متحفه، جزءًا من رؤيته المعمارية متقاطعة المكونات. هندس الدرج بين طوابق المتحف، ليصبح فعلًا ناضجًا مشرفًا على الفضاء المتناثر في مختلف مفردات البيت. لم يتردد بجعل (المِعزة) المصرية أول منحوتة له بعد تخرجه في عام 1952. ولم يتردد بجعل الديك يبيض. وبجعل الورقَ ثلاثي الأبعاد، وفي واحدة من منحوتاته الورقية (ثلاثية الأبعاد)، يستعيد الرُّقْيّةَ التي كانت تحرسه أمه من خلالها، بعد تخريمها (ثَقبها) بثلاثة ثقوبٍ، عدد ما تود أمه أن ترقيه منهن: (رقيتك من عين أم عطية وعين أم محسن وعين أم عباس).

وعندما سألته مذيعة cbc عن أكثر رباعيات جاهين قربًا منه، قال لها إنها:

"أعرف عيون فيها الجمال والحسن

وأعرف عيون تاخد القلوب بالحضن

وعيون مخيفة وقاسية وعيون كتير

وبحس فيهم كلهم بالحزن".

 

أداء ثقافي متعدد الأشكال
بالحزن نودع نحّات مصر ومعماريها العنيد، هذا الذي يختصر أم كلثوم بـ(بروش) على صدرها، أو بمنديل في يدها. يقول حول أعماله الخاصة بأم كلثوم: (أم كلثوم حدوتة تانية يعني، مهياش مزيكا ولا رقص، إنها أداء ثقافي متعدد الأشكال، وأنا أردت أن أنحت أم كلثوم كما أراها لا كما تعوّد الناس أن يروها، حيث أرى أن وجهها ليس هو الأهم والأساسي، بل هي حركة وأصوات وحياة كاملة مرئية ومسموعة مع بعضها، وبالتالي قمت بتجريد وجهها من تفاصيله، وبلورت حركة صعودية من أسفل المنحوتة إلى أعلاها).

أعماله مسكونة بروح معمارية ثاقبة


















أنا أتحدث عن آدم حنين المعماريَّ في بعده الرابع، الذي يطلب منّا أن نقرأ الحركة في السكون، ونتبيّن المعمار في الهواء الطلق، الذي عندما قررتُ الكتابة عنه، فجعتُ بنعي "ضفة ثالثة" له، وفق مفارقة قد لا أفهم كنهها ما تبقى لي من أعوام.