Print
وارد بدر السالم

الجيوش التي تسرق الآثار واللوحات.. البُعد النفسي

2 يوليه 2020
آثار
السرقات المتحفية والأثرية والفنية في التاريخ العسكري العالمي عالَم زاخر بالمفاجآت والأسرار والألغاز والشبهات، تلك التي تجعل من تلك الجيوش الغازية أدوات مباشرة للتخريب والنهب والسرقة التاريخية للبلدان المحتلة. ولا شك أن الاحتلالات العسكرية؛ قديمًا وحديثًا؛ وما تخلّفهُ من تخريب ثقافي وفني وما تتركه من إسقاطات نفسية على الثروة الوطنية، كانت وما تزال وراءها دول محرّضَة ومؤسسات مخابراتية وغايات سياسية ودينية متطرفة وعلماء آثار وجيوش على الأرض، تغطي هذا النوع من سرقة التاريخ الوطني للبلدان والشعوب التي تقع تحت سيطرتها.
الأقرب للأمثلة عربيًا هو الجيش الإسرائيلي الذي جرف الذاكرة الفلسطينية عبر سنوات طويلة من الاحتلال في محاولة إبادة ثقافية لسكانها وتاريخها ونضالها. لكن هذا لم يحدث كليًا، فما تزال الروح الفلسطينية عميقة في المرجعية التاريخية العربية. غير أن الصورة العامة هي أن الشرق كان على مدار التاريخ مطمعًا للغزاة، لكنّ العالَم الغربي كان هو أيضًا داخلًا في حلقات الاستعمار والنهب المبرمج لثرائه الفني والتاريخي. وهذا ما وقع قديمًا وحديثًا بتبريره نوعًا من (الغنيمة) ليترك أثرًا نفسيًا في ذاكرة الخصم المهزوم. لكنه في واقع الأمر (سرقة) تاريخ وحضارة ونفائس وأفكار عقول قديمة لها فعل البقاء والخلود الإبداعي المتين. وفي الحالتين فإن الجيوش الغازية، تلك التي تستقدم مع حملاتها العسكرية (مهنيين مدنيين)، إنما هي خطوة مبرمجة للقضاء على الأثر التاريخي ورمزيته القديمة. وهذه اللائحة من المدنيين المرافقين للجيوش هي التي تشير إلى صدقية وقائع السرقة وحتميتها.

معايشتنا نحن العرب لحدث احتلال بغداد عام 2003 ودخول قوات المارينز الأميركية إلى قلب العاصمة ومع مجريات الحركة اليومية للجنود الأميركيين، فقدَ المتحف العراقي أثمن موجوداته وقطعه التاريخية الأثرية النفيسة، بلغت أكثر من 200 ألف قطعة أثرية ونقدية من التحف الفنية ذات القيمة الجمالية والمادية الذهبية التي يعود ثراؤها لتاريخيتها؛ إلى ما قبل 4000 سنة، وهذه السرقات العسكرية تسربت عبر المطارات والحدود إلى دول الجوار، مثلما بات واضحًا أن الجيش الأميركي الذي احتل بغداد كان معه عدد غير قليل من اليهود (المهنيين) الذين كانوا ضمن القوات المحتلة، ممن لهم اهتمام بالبحث عن التراث اليهودي في أرض الرافدين. وبالفعل تمت سرقة الأرشيف اليهودي عبر قنوات عسكرية وديبلوماسية في أوقات لاحقة واحتفت اسرائيل بعودة التوراة اليها بنسختها الرافدينية الفريدة.. علنًا.

دير مار إيليا الذي دمره داعش في وقت ما بين أواخر آب /أغسطس وبداية أيلول/ سبتمبر 2014
















ومع هذه الفوضى فقد مركز الفنون العراقي المئات من لوحاته الفنية بوجود قوات المارينز التي انتشرت في العاصمة. وما نزال نتذكر سيطرة المدرعات الأميركية على المتحف العراقي من جوانبه كلها، فيما تركت مركز الفنون من دون حراسات تذكر للّصوص المحليين الذين نهبوا المركز ولوحات ريادييه الثمينة ذات الأثر التاريخي التأسيسي للفن العراقي الحديث. وكذلك ما حدث في مركز المخطوطات الذي يقع في شارع حيفا، حيث يقع مركز الفنون ومن خلفهما المتحف العراقي الكبير. وفي هذا المثلث الجغرافي المتقارب جرت فظاعة النهب والسرقات من قبل قوات الجيش الأميركي والعناصر المحلية، التي وجدت فراغًا في السلطة. وكانت الفرصة سانحة لها لأن تقضي على ما تبقى من آثار ومخطوطات نادرة ولوحات عظيمة الأثر. ولم تسلم دار الوثائق العراقية من هذا السرقات المنظّمة، عندما اختفى ما نسبته 50% من الوثائق والمخطوطات الثمينة والنادرة، بعدما كانت قبل الاحتلال أكثر من عشرين مليون وثيقة. ويتبع ذلك موقع بابل الأثري باستخدامه كقاعدة عسكرية لقوات التحالف الغربية لفترة سنة تقريبًا. ولا أحد يعلم حجم المفقودات فيه من الآثار الوطنية التراثية والتاريخية النفيسة.
التاريخ الهمجي يعيد نفسه كثيرًا في مفترقات الحروب والسيطرات العسكرية المخادعة. فمن جيش هولاكو المغولي حينما اقتحم بغداد وألقى في نهر دجلة ملايين الكتب المخطوطة، حتى قيل إن نهر دجلة اسودّ من الأحبار المسفوكة فيه من المجلدات، إلى ما فعله الصليبيون في الأندلس في مكتبات قرطبة وأشبيلية، إلى الأحدث في الجريمة بحلول داعش بعد الغزو الأميركي للعراق، وهي في هذا السياق أكثر وحشية وقسوة على التاريخ وتفريعاته النحتية والفنية والجمالية. فقد استخدمت وحدة تُعرف محليًا باسم (كتائب التسوية) وهي الكتيبة المسؤولة عن تحديدِ أهدافها (الثقافية) في الهدم والنهب والتخريب وتخريب البنية التاريخية في العراق وسورية، وهما أقرب بلدين احتلت أجزاءً منهما مثلما اعتمد السوفييت قبلهم على (فرقة لجنة الغنائم) أثناء احتلالهم لبرلين عام 1945  والتي استولت على أكثر من مليون لوحة وقطعة فنية لا تقدر بثمن من متاحف ألمانيا أهمها "كنز طروادة"، وحدث الأمر في أوروبا الغربية مع تقدم القوات الألمانية، إذ كانت معها عناصر مسؤولة عن دخول المكتبات الخاصة والمؤسساتية في البلدان المحتلة وإزالة أي مواد التي تهم الألمان. فحلقات الغزو التي تستهدف البنى الثقافية والآثارية كما يبدو واحدة الهدف في كل زمن، كما فعل الألمان الهتلريون بعد احتلال بولندا عام 1939 في محاولتهم نهب آلاف التحف الفنية وإبادة الثقافة البولندية بتدمير كثير من المتاحف والمرافق الفنية بما فيها من مخطوطات ورسومات فنية وخرائط وكتب ومنحوتات.

معبد بل في تدمر والذي تم تفجيره من قبل تنظيم داعش في آب/أغسطس 2015


















لكن داعش تعيد ذلك التاريخ المزري كونها تنظيمًا عسكريًا بنهج اقتحامي متوحش أوصلها إلى المتاحف المحلية لنهب القطع الآثارية النادرة. وتم تدمير دور العبادة من الجوامع والكنائس والمزارات والأضرحة ذات القيمة التاريخية في إبادة ثقافية ممنهجة. وما فعلته بالموصل من خراب رآه العالم كله بتدميرها مسجد النبي يونس ومنارة الحدباء وجامع النوري التاريخي مع شواهد تاريخية وأثرية وشعبية ككنيسة السيدة العذراء مريم وقصر آشور ناصر بال الثاني وتجريف مملكة الحضر ونهب المآثر من مدينة دورا أوربوس في شرق سورية وإحراق مجموعة من المكتبات العامرة بالمصادر العلمية والثقافية في كل مكان تصله.
ومثل هذه السرقات لها بُعْد نفسي على الأغلب الأعم؛ فهي سرقات تاريخ لأمم وشعوب وحضارات ونفائس وجهود فردية وجماعية قديمة كان لها دورها الإبداعي في توثيق مراحل الحياة والبلدان في السير المتعددة للحياة، مثلما لها أدوارها الريادية في تأهيل الحياة إلى العمران والبناء والاكتشافات العلمية والفلكية والهندسية والرياضية والجمالية بشكل عام. فالجيوش الغازية ذات الاستراتيجيات بعيدة المدى، تنظر إلى مثل هذا الصيد الثمين كغنيمة جاهزة يتوجب التصرف بها من دون النظر إلى تاريخيتها وأهميتها الاستثنائية.

(بغداد)