Print
محمد جميل خضر

نوستالجيا العيد.. أرجوحة تراقص أغاني الزمان البعيد

1 أغسطس 2020
اجتماع

نَكْبُرُ، وصوت فيروز لا يكبر، يأخذنا موّال أغنيتها "أيام العيد"، نحو أزمنة تسكن غرف الحنين المشلوع بالآه والحسرات:

"بها العيد بدّي قدّم هديّة، لا ذهب لا ورود جورية

طالع ع بالي ضمّ زهرة وقلب، وقدّمُن للعيد عيدية

يا عيد يا طالل مع الألحان، بالخير بزهور الهنا حليان

ع الناس كلّ الناس وين ما كان، تشرق سعادة وشمس وضويّة

وبيوتنا اللي مشرّعة للعيد،

فيها الإلفة كلّ يوم تزيد،

تنعاد ومواسم الخير تعيد..

عَ بلادنا بألف غنّية

بها العيد بدّي قدّم هديّة، لا ذهب لا ورود جورية

طالع ع بالي ضمّ زهرة وقلب، وقدّمُن للعيد عيدية".

ومن قلب الصبا والصبابة، يسمو صوتها بالصلاة:

"يا ربّي تزيد خيرك وتعيد، ع الدنيّ كلّا إيّام العيد

هلّت بشاير ماجت حراير،

والطير الطاير غنّى للعيد

 يا ربّي تزيد خيرك وتعيد، ع الدنيّ كلّا إيّام العيد

واضوية وزينة بسحرا تغويني

بدو يلاقيني بيوم العيد

يا ربّي تزيد خيرك وتعيد، ع الدنيّ كلّا إيّام العيد

يا زنبق عالي بخصره يلالي

ويموج قبالي ويرقص للعيد

يا ربّي تزيد خيرك وتعيد، ع الدنيّ كلّا إيّام العيد

يا ربّي تزيد خيرك وتعيد، ع الدنيّ كلّا إيّام العيد".

البيوت التي كنا ننام فوق أسطحها، المزدانة بدالية العنب، المتفاخرة بالتوتة العجوز، الطافحة بثمار الأسكدنيا، تلك كانت بيوت أعيادنا السعيدة. في حاكورتها وفسحتها الواسعة، يمكث خروف العيد بيننا أسابيع ممتدة، تصل لأكثر من شهرين في بعض الأحيان، تتوطد علاقة متينة بيننا وبينه، تصبح مسألة التضحية به بدل سيدنا إسماعيل شائكة، حتى بالنسبة لأبوين (لا يفكّان الحرف). يبدأ التحايل، التبرير، محاولة فك الارتباط بوسائل شتى.
لا بد من المراجيح كي ينسى الصغار محنة رحيل صديقهم الخروف. المراجيح وفساتين الصبايا قصة أخرى من حكايات النوستالجيا المفعمة بالشجن العصيّ على التدجين. كان أبو العبد يربطها لهنّ بحبل الوقار (اللعين) فلا نرى إلا ما ينبغي لنا أن نراه.
براءةٌ ممزوجةٌ بالوهج الشقيّ، والشقاوة الولهانة، المرتاحة على صدر أمٍّ تمتص مثل الإسفنجة كل تعبٍ تدير لعبة الأيام نحونا حصتنا منه.
ذاكرة المراجيح محصنة بحنينٍ لا يخون، ترتبط بوجدانية مكانية وزمانية، تلتقي حولها البلاد العربية جميعها تقريبًا.



أصل حكاية "المراجيح"
بحسب صفحة "فاروق مصر"، فإن أصل حكاية "المراجيح" تعود لأيام الفراعنة، كما توضح بعض الرسومات على الجدران في المعابد الفرعونية، حيث كانت المرأة الفرعونية ترافق زوجها إلى الحقل، وتضع رضيعها داخل قطعة قماش، وتربط كل طرف بجذع شجرة، وتهزها كالأرجوحة عندما يبكي.
للأرجوحة حكاية أخرى، رومانية هذه المرّة، مفادها أن إله الخمر باخوس (عند اليونانيين ديونيسيوس Dionysus) غضب في إحدى سنوات الجدب على مزارعي العنب (الكرمة) بسبب تقصيرهم، وأمرهم أن يقوموا بألعاب بهلوانية صعبة تعرض حياتهم للخطر، ومن ضمن تلك الألعاب، التأرجح الفردي أو الجماعي على حبل معلق بين شجرتين. بعد ذلك اتخذت الأرجوحة رمزًا روحانيًا ودينيًا مقدسًّا في الأعياد والمناسبات.
الأرجوحة رفيقة الشعراء، تحليق مفعم بأغاني الأعياد في زمن مضى: (علّيها بنجدد.. وطّيها بنبطّل)، و(دبّوس ألماس.. يويا.. يغرس في الراس.. يويا)، وبمجرد أن تلمح شقيقتي خالي فهمي قادمًا نحو بيتنا، تسمعه أغنية سميرة توفيق: (يا خالي قرّب العيد.. بدّي منك عيديه)، لعلها لم تكن تعرف أن الأغنية لسميرة توفيق محبوبة كل الأردنيين أيامها، ولكنها كانت تعرف نتائج ترديدها جيّدًا، يضحك خالي وينقّطها العيدية المشتهاة.
نوستالجيا تجعلني أتعلق بأرجوحة ساكنة خيام الروح، تلك الخيام التي لم تستطع فدوى طوقان نسيانها، حتى وهي تكتب شعرًا للعيد: "أختاه هذا العيد رفَّ سناه في روح الوجودْ/ وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ/ وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالاً شقيًّا.. متهالكًا، يطوي وراء جموده ألَمًا عتيًّا.. يرنو إلى اللاشيء.. منسرحًا مع الأفق البعيدْ".
نوستالجيا قد تتركني أركض وراء أرجوحة في البال، حتى لو كانت هناك في الإكوادور، حيث يتداول الناس كلامًا عن "أرجوحة نهاية العالم"، المطلّة، عند سفحٍ جبليٍّ شاهق، على بركان تونغوراهوا النَشط غير المُستقر.
"أرجوحة بين نخل العراق القمر"، يذوب العراقي مظفّر النواب، عبرها، بكل النساء والأنهار والطيور والزغاريد. يتأمل الشرفات الذاهبة إلى الله بالياسمين، يترنّح مع زقزقات المطر، ويعيد تشكيل فراتٍ جديد ملوّنٍ بالزرازير والقبّرات.
"أرجوحة الأحضان" كما تعنوِن الكويتية غيداء الأيوبي إحدى قصائدها.
في العدد (11) من مجلة "الثقافة الشعبية" البحرينية، تقدم كل من أميرة جعفر عبد الكريم وتهاني حسن المرخي، دراسة وافية حول الأرجوحة في الثقافة الشعبية العربية على وجه العموم، والبحرينية على وجه الخصوص. الدراسة التي حملت عنوان "المرجحانة في الموروث الشعبي القديم"، والمتضمنة لمحة تاريخية مسهبة، تورد عددًا من أسماء المراجيح، منها: مريحانة، زحلوقة، ديرفانة (الكويت وعُمان)، جاروف (عُمان)، مدرهة وتدورة (اليمن)، أُل، دوداة ومطوحة. وفي الموروث الشعبي الخليجي، كما يرد في الدراسة، فإن هناك أغنيات شعبية ترافق لعب الأطفال في العيد على المراجيح، منها أغنية (شوط العيدي) في حالة الشوط القصير: (شوط العيدي.. احمله وأزيدي)، و(شوط البطة) للمرجحة الأطول: (شوط.. شوط البطّة.. دور.. دور.. وانعل أبو من حطّه).
في حوار أجراه الشاعر السوري جوان تتر، مع الشاعر العراقي ناجي رحيم، ونشره موقع (ألترا عراق) بتاريخ 13 أيلول (سبتمبر) 2017، يصف رحيم العالم بـ "أرجوحةُ فُقدان".
الناقد والشاعر الأردني عبد الرحيم مراشدة، يستعيد في تقرير أعده لصحيفته "الدستور"، الشاعر والصحافي عمر أبو الهيجا، أجواء العيد أيام طفولته وشبابه: "كان هناك كثير من القيم التي تعد من المقدسات". مراشدة يخلص إلى أن العيد فكرة من أجل الفرح و"الفرح أيامنا كان أكثر إقناعًا".

عيد الدهشة

من جهتها، تتذكر القاصة د. ليندا عبيد، في التقرير نفسه الذي نشر في الخامس من حزيران (يونيو) 2019، عيد "الدهشة والذكريات".
في ليلة العيد تجتمع نساء العائلة، بحسب عبيد، "يدورن كعك العيد، ويتبادلن الضحك والأحاديث الملونة. يعد الأطفال ثيابهم الجديدة، ويعلقونها مثل فرحة ولهفة طازجة قرب أسرتهم المتواضعة. يجلس الجد ويحكي الحكايات، ويفيض البيت بضجيج الفرح والذكريات".
الكاتبة المحامية منال شحادة تتحدث عن ذكريات "جميلة في العيد لا يمكن أن تنسى"، ولا تنسى، بدورها، التطرق لكعك العيد وتنظيف المنزل والملابس الجديدة، حيث كان "لمتعة التسوّق في العيد لذة خاصة بين سوق البخارية القديم في مدينة إربد ووسط البلد وشارع السينما ونستمتع بشراء الآيس كريم وشعر البنات".
الشاعر والكاتب العراقي عبد الرزاق الربيعي يصف، في تقرير أعده لصحيفة "الهلال اليوم"، الكاتب محمد الحمامصي، العيد أنه "معبرٌ نحو الفرح".




يقول الربيعي: "سألتُ جدّتي مرّة، لماذا لم يعد العيد مثلما كان؟"، حاولت تطييب خاطري، وقالت لي "هذا عيد صغير، وهو عيد الصائمين، انتظر العيد الكبير (عيد الأضحى)، سترى أن الفرح الحقيقي هناك"، سألتها "ومتى موعده؟"، قالت بعد شهرين أو أكثر قليلًا" قلت لها "حسنًا"، وانتظرت بفارغ الصبر، وصرت أعدّ الأيام يوما بعد يوم، حتى بلغنا عيد الأضحى، وتكررت حالة شعوري بالإحباط، فعدت إلى جدّتي معبّرًا لها عن إحباطي، لكنها قابلتني بضحكة، سألتها "لماذا تضحكين يا جدّتي؟"، أجابت "ما دمت لم تعد تبتهج كثيرًا بالعيد، فهذا يعني أنك كبرت، لأن العيد فرحة كبيرة للصغار"، من يومها أخليت ساحة أفراح العيد الكبرى للصغار".
الروائي السوداني مهند رجب الدابي، يقول في تقرير الحمامصي المنشور بتاريخ 13 حزيران (يونيو) 2018: "لأكثر من عشر سنوات في طفولتي كان لا يعنيني من العيد سوى أمر واحد فقط؛ وهو السفر إلى مسقط رأسي في مدينة القضارف، وخلال الرحلة التي تستغرق أكثر من ست ساعات متواصلة أجد نفسي خلالها أمرُّ بالنيل الفياض الملتوي، وأرى الغابات الكثيفة والوحوش التي ليس لها وجود، وأسمع من هناك الأصوات التي لا يسمعها غيري، ثم نَمرُّ بمدينة "مدني" فأسمع الباعة المتجولين ينادون بأصوات جميلة وتتردد في ذهنيّ الأغنيات الحالمة، ثم عندما نصل إلى سلسلة جبال "الفاو" لا أستطيع الانتظار، فأحدث هرجًا وضيقًا لمن حولي فقط من أجل الجلوس جوار النافذة، لأرى تلك البقرات الصغيرات في أعلى الجبال، وأحاول أن ألتقط الصور للشجيرات النابتات في الصخر، ثم عندما تلوح صومعة غلال مدينة القضارف في الأفق أشعر أن السيارة بطيئة جدًا، وأنني إن نزلت لمضيت إلى بيت جدي أسرع منها، تلك التفاصيل كانت العيد الحقيقي. مضى جدي، وأختلفتْ الطرُق التي نسلكها كل سفر، لكن الصور التي التقطتها مخيلتي ستبقى طويلًا، للأبد".
الشاعرة المغربية منى وفيق، تئن بحسرة: "يااه، كيف أرشو هذا العمر الذي يركض ورائي دون أن يلحقني، أرشوه ليعود بي إلى ليلة يوم العيد قبل 21 سنة حيث بدا لي صباح العيد بعيدًا جدًا جدًا، وكنت أنهض كل عشر دقائق لأجرب الجينز الأزرق الجديد والقميص بالكاروهات الحمراء والبيضاء".

  أرجوحة نهاية العالم  


















الروائية المصرية زينب عفيفي، تتحدث عن مزايا آخر العنقود، ففي حين كانت أمها تشتري قطعة ملابس واحدة لكل واحد من أشقائها وشقيقاتها، كانت تشتري لها ثلاثة فساتين، لكل يوم من أيام العيد. "كنت أتزين بشرائط ضفائري الملونة بألوان كل فستان، ولا أستطيع أن أنسى يوم خرجت لركوب أرجوحة عم سعيد على ناصية شارع بيتنا التي لا تبعد عنا كثيرًا، ارتديت الفستان الجديد الذي نام في حضني طيلة ليلة العيد مع بقية الفساتين والحذاء المزيّن بالفصوص وشرائط شعري الملوّنة، وأنا على حالي من الفرحة والتنطيط انزلقت قدمي في الطريق قبل أن أصل لعم سعيد بخطوات، وضاعت الفرحة وأخذت أبكي، عدت إلى البيت وفستاني الجديد طالته أوساخ الشارع، أخذتني أمي إلى الاغتسال  وأنا غارقة في الدموع، وفي ثوان كنت أرتدي فستانًا آخر من فساتين العيد، وأذكر أنها احتضنتني، رحمة الله عليها، وأخبرتني أننا كلنا ممكن يحدث لنا ما حدث معي، وأعطتني مزيدًا من العيدية وقالت: هذه العيدية لأجل الفستان الجديد.. وتبقى الفرحة الكبرى وأنا ارتدي الفستان الجديد وشعري يتطاير فوق أرجوحة عم سعيد التي كان يجرها حصانه البني العجوز الذي يزور شارعنا في كل عيد".
لماذا أكاد ألتقط شبهًا بين أرجوحة العيد، وبندول ساعة الحائط؟ هل هي رسالة من الزمان، يريد عبر إيقاعها الصارم المضبوط، إيقاظي من وجع النوستالجيا؟ كنّا نغني (بكرة العيد وبنعيّد)، وكنت أظل حائرًا: لماذا كل هذا الذبح داخل حروف أغنيةِ عيد؟
كنتُ، وكنّا، وكانوا.. في عمّان سبعينيات القرن الماضي، رغم ذيول حرب مؤلمة، ورغم تغوّل الصمت، وشتات الجهات، كان العيد حين يأتي، تأتي معه مراجيحه المنسوجة من خشب الحكايات، أغانيه المزنرة بالميجنا، آماله العراض، فرحه المخبوء داخل جِرار أسراره، لا يعرف أحدنا أين يكنز العيد (السعيد) كل هذا الفرح، وكل هذه المعاني، ولا أحد يريد لهذه البهجة الموسمية أن تنتهي.