Print
محمد جميل خضر

عِمارةُ الجَليد.. ترويضُ الوَحشَةِ بأدَواتِها

23 يناير 2021
عمارة

بعشرِ كلماتٍ، يُلَخِّصُ المعماريُّ الإنكليزيُّ جوناثان هيل في كتابِه "العِمارةُ والطَّقس" (2012)، (أو "هندسةُ الطَّقس" بحسبِ ترجمةٍ ثانيةٍ)، عُلاقةَ المُناخ بِالعِمارة: "تاريخ العِمارةِ بأكملِهِ يمثِّلُ، بصورةٍ أوْ بِأُخرى، تاريخَ الطَّقْسِ ومتغيّراتِه".
صاحبُ ملحمةِ "الجليدُ والنّار" الكاتب الإنكليزي جورج ر. ر. مارتن George Raymond Richard Martin، يُحيل الثّلج في خماسيته (أوشكتْ أنْ تُصبح سباعيتَه، وربّما ثمانيتَه) الخياليّة الفانتازيّة الجامِحة، إلى الموْت (الثّلج عِنده مقاربةُ موْت).
مُتِقاطِعًا، إلى حدٍّ ما، مَعه، يربطُ الشاعرُ المصريّ أمل دنقل (1940-1983)، في قصيدتِه "ضدّ مَن" بين اللوْن الأبيض وبين المرضِ والمستشفياتِ وغرفِ العمليّات والموْت والفَناء:
"في غُرَفِ العمليات،
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،
لونُ المعاطفِ أبيض،
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،
الملاءاتُ،
لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،
قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،
كوبُ اللَّبن،
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ.. يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟
هل لأنَّ السوادْ..
هو لونُ النّجاة من الموتِ،
لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ".


شعبُ الأسكيمو (الأنويت الذي قدْ يأكلُ الّلحم نيْئًا)، قرّر تحدّي هذه المفاهيمِ الرّاسخة في ذهنِ الآخرينَ مِمّن لا يعيشونَ ظروفَهم في أقَاصي شَمال الأرضِ قُرب كندا، وولايةِ آلاسكا الأميركيّة، وليسَ بعيدًا عن جُزرِ (جرين لاند) الغارقةِ في أسرارِها وعوالمِها، فجعلَ الجليدَ الذي يحاصرُهُ من الجهاتِ جميعِها، سببَ بقائِه في الوقتِ نفسِه، مُشتقًّا من ممكناتِ البيئةِ حولَه حلًّا مُدهِشًا لِمُعضلة البردِ الصّقيع. شعبُ الأسكيمو (eskimos أو eskimaux) شيّد بيوتَه وسطَ كلِ هذا الزمْهرير، وِفقَ منطقٍ فلسفيٍّ معرفيٍّ حساباتيٍّ فَريد: الثلجُ الذي يتراكمُ كيْ يكونَ سببَ موتِنا، ها نحنُ نحْتمي بأكثرِ درجاتِ حرارتِه برودةً، كَيْ نبْقى ونواصِل شعائرَ الحياةِ التي كُنّا، حتى وقتٍ قصيرِ، نظنّ أنْ لا أحدَ غيْرنا يمارِسها (لانعزاليتِهم، كان الأسكيمو في الطّرفِ الشماليِّ الشرقيِّ لِسيبريا، وجُزُر بحرِ بيرنج وباقي أماكنِ وجودِهم، يعتقدونَ أنّه لا يوجَدُ في النّواحي والمحيطِ غيْرهم).



عبقريّةُ الاتّزان
أستاذُ الهندسةِ المدنيّة في جامعةِ الزيتونةِ الأردنيّة د. أيوب أبو ديه يُطالب في مقالِ نشرتْه لَه عام 2013، جريدةُ "الرّأي" الأردنيّة، سُكّانَ المَناطقِ الصحراويّة "أبْناء الصّحراء" الإِفادةَ من فلسفةِ العِمارة عندَ شعبِ الأسكيمو، خصوصًا نَجاحهم بتحقيقِ الاتّزان الحراريّ، وخلقَهم داخلَ أكواخهِم الجليديّة جوًّا مُريحًا وسطَ كلِّ هذهِ الأجواءِ النّادرة. نجاحٌ يَرى أبو ديه أنَّ مِن شأنِه فتحَ آفاقِنا على مقترحاتٍ مبتكرَةٍ فِيما يتعلّق بِتصميم أبنيتِنا أينَما كنّا نُقيم، سَواء في المناطقِ المعتدلةِ، أو الباردةِ، أو حتّى، في المناطقِ الحارَّةِ سواءً بِسواء.

 بيت صغير بكندا 









يقولُ أبو ديه "إنّ فُقاعات الهَواءِ المَحبوسةِ داخلَ الثَّلجِ تُشكّل مادةً عازِلَةً للحرارةِ تُضفي على البِناء راحةً حراريةً نسبيّةً مَعْقولة، إذْ ترفعُ درجةَ الحرارةِ في الدّاخل نحوَ 50 درجةً مئويةً إذا كانت الحرارةُ في الخارجِ نحوَ 50 تحتَ الصّفر. تخيّلوا مَعنا أنّ شتاءَنا إذا كان قاسيًا جدًّا، فإن درجةَ الحرارةِ في الخارجِ تصلُ إلى 10 درجاتٍ تحتَ الصّفر، فَماذا يحصلُ لوْ رفعْنا درجةَ الحرارةِ في الداخلِ 50 درجة؛ هذا يعْني أن الحرارةَ في الداخلِ سوْف تُصبِحُ 40 درجة مئوية؛ وهذا يتجاوز بكثير درجات الحرارة المريحة (22-25 درجة مئوية) بيْن فصليّ الصّيف والشِّتاء".
أبو ديه يذهبُ في مقالِه الذي يحملُ عنوانُه صيغةَ السّؤال: "هل البيوت الجليدية دافِئة؟"، إلى أن "حرارة الإنسان التي يبتعِثها بالإشعاعِ والتّوصيل والحمْل، فضلًا عن الطّاقةِ الحراريةِ البسيطةِ الناجِمةِ عن احتراقِ شمعةٍ صغيرةٍ مصنوعةٍ من دِهْنِ حيوانِ الفقْمة، على سبيلِ المِثال، تكْفي لِتدفئةِ المْنزل، وذلك طالما كان رِداء السّكان من الفرْو وفراشِهم من أغطيةٍ دافئةٍ أيضًا".
أَحد الدّروس التي يخلُصُ إليْها أبو ديه، ويودُّ أنْ نتعلّمها نحنُ بدورِنا، أنَّ موادَ العزلِ الحراريِّ في الجُدران "مُهمة جدًّا، وكلّما زادتْ كفاءّتُها "تقلُّ حاجتُنا إلى الطّاقة"، وأنَّ موادَ البِناء من البيئةِ المحليةِ عِبارةً عن "خلطةٍ صناعيةٍ من الثّلج المُتساقطِ حديثًا وفُقاعات من الهَواء المَحصورةِ في داخلِه".
درسٌ آخرٌ هُو "منع الهواءِ الخارجيِّ الباردِ من الدُّخول". أبو ديه يرى أن هذهِ التقْنية "مسألةٌ في غايةِ الأهميّة"، وفي سبيلِ نجاحِ هذا المَنع، يقومُ السّكان، بحسبِ أبو ديه، بِبناء مدخلٍ خاصٍ للغُرفِ على شكلِ نفقٍ يفصلهُم عن العالمِ الخارجيّ، ويعزلِهم عن شدّة هبّات الرّيح.


سيّدُ المُفردات

 ذئب أبيض رمادي ينصت لسيمفونية الوحشة 
















كلُّ هذا يُحيلِنا إلى مطالعِ المَوضوع، وإلى مقولةِ الإنكليزيّ جوناثان هيل (1958)، أستاذُ العِمارةِ في مدرسةِ بارتليت للهندسةِ المِعمارية، ويجعلُنا نتدبّرُ أكثرَ البُعدَ الوظيفيَّ للعِمارة دونَ التّقليل من البُعد الجماليّ الفنّي للعِمران والمّباني. كما يجعلُنا نتلمّسُ مَدى تأثيرِ الطّقسِ على العِمارة والعِمران، ويعيدُنا إلى المربّعِ الأوّل، أنّ الإنْسان، في مختلفِ الأحْوال، هو رأسُ سَنامِ المَعنى فوْق أرضِ الوُجود، وهُو صاحبِ القوْل الفصْل، والقادرُ على تطويعِ أشياِء الوجودِ ومفرداتِه لصالحِه، بحكمِ الأمانَة التي حَمّله إيّاها الخالِق: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الآية 72 من سورة الأحزاب)، وبحكمِ الأفضليّة التي منحّها لّهُ: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الآية 70 من سورة الإسراء).


أكواخُ البَقاء
لعل القِباب التي تميّزُ البِناء القبّاني igloo (يُطلق المعماريّون على بيوتِ الجَليد مصطلحَ البِناء القبّاني)، تشيرُ إلى خصوصياتٍ بعينِها، تعزِّز فرادةَ المساكنِ المتلحِّفَةِ دِثارِ الثّلج، المُوغلِةِ في جدليَّةِ الأرضِ والإنْسان. مبْنى طوبُه من الثّلج، فضاؤُه الحضريُّ مِن المَدى الأبيَض، يشيِّدُه أحيانًا عابِرون في جليدٍ عابِر، فيأخذُ شكلَ المَلاجئ المؤقّتة، مثلَ بيتٍ صغيرٍ في كندا (ما بعرف طريقه حدا)، يبْنيه الصيّادون في أحايينَ نادِرةٍ فوقَ الجليدِ البحريّ، على أنْ لا يَنْقَلِبَ مِزاج حظِّهم، فيذوبُ الثّلج وتغرقُ الأحلامُ الصغيرةُ في بحرٍ كبير.
الإنويت، عمومًا، يعتمدونَ على مساكنَ أوسعَ قليلًا من المَلاجئ الصغيرةِ العابِرة، بيتٌ مكوّنٌ من غرفةٍ، وفي أحيانٍ قليلةٍ غُرفتين. قِبابٌ شبْه دائِمة، تسكُن الغرفةَ الواحِدة مِنها عائلةٌ وربما عائِلتان.

أمّا الإقامةُ الدّائمة، فقدْ سَنّتْ مع الأيامِ والخِبرات شروطَها، قِبابٌ متلاصِقةٌ يصلُ بينَها نفقٌ تحتَ جليدِ المَكان، يُقيمُ فيها ما قدْ يصِلُ إلى 20 شخصًا في خمسِ بيوتٍ قبّانية (لا علاقة البَتّة للشاعر السوري الراحل نزار قبّاني بالأمر). بيوتٌ متراصّة مُتعاضِدَة، فالمُناخُ هناك قاسٍ، والأيّام في تلك الأصقاعِ الموحِشَةِ، لا ليلُها ليلٌ ولا نهارُها نَهار. أمّا كوخ الأسكيمو الكبير، فلعلّ لَهُ عُلاقة بمناسباتِهم واحتفالاتِهم وطقوسِ إصرارِهم أنْ يظلُّوا على قيدِ البَقاء.
قِطَعٌ مِن الجليدِ مُستطيلةُ الشَّكل. يَصُفُّونها بشكلٍ دائريٍّ على سطحِ الأرضِ الجليديّة. تُقطع الأسطحُ العلويّةُ للكتلِ الجليديّةِ بزاويةٍ حادَّةٍ لتكوينِ الدَّرجةِ الأُولى من المَبنى. يضعونَ كتلًا جليديةً إضافيةً في الصفوفِ التّالية بِنفسِ النَّمط، مع سحبِها للدَّاخل، حتى ينْتهي تشييدُ هيكلِ المَبنى. الثُّقبُ المتبقّي في الجزءِ العُلوي، يُترك مفتوحًا للتِّهوية. الثّلوجُ المتساقِطة تملأ هاتيكَ الثُّقوب. مدخلٌ بِطول ثلاثةِ أمتارٍ للحِماية مِن البرْد. الطّريفُ في مختلفِ تفاصيلِ عِمارةِ الجَليد، وَمراحِل تشييدِ مَبنى قبّاني، أن الأسرّة تُصنعُ في معظمِ الحالاتِ من الجَليد أيضًا، حالُها حالُ البيتِ نفسِه، وحالُ المعزوفةِ الكونيّةِ، الطالعةُ ألحانُها من أغاديرِ الوَحشة، متقاطعةً مع عُواءِ ذئبِ القُطبِ الشماليِّ الأبيَض (وفي روايةٍ أُخرى البُنِّي) Polar Wolf. 

شمسٌ لم يتوقّفْ الإنسانُ منذُ تعلّم الُّلغة، ومنذُ طلّق الكُهوف، مِن إغراقِها بالشِّعر، والتلويحِ لَها بالغَزَل، ولكنّه اختلالُ المقاديرِ الّذي يُنذرُ بأخطرِ التقاديرِ،
فكلِّ شيءٍ بِقدر: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ".




عِمارةُ الوَحشة
في مقالٍ نشرته في الأول من شباط/ فبراير 2016، مجلّة "ميزانين" المِعمارية، دونَ ذكرِ اسمِ المهندسِ المِعماريّ الذي كتَبَه، وفي سياقِ عنوانٍ يقتربُ من السّؤال: "بيوت الأسكيمو.. عِمارة صاغْتها الحاجةُ أمْ مُعجزة مِعمارية؟"، وبعدَ أن يستعرضَ الكاتبُ مختلفَ مفاصلِ الدَّهشةِ المبثوثةِ في تفاصيل البيتِ الجليديّ، يصلُ في نِهاية المقالِ إلى القوْل: "إن هذه العمارةَ، ورُغم أنّها موجودةٌ منذُ زمنٍ طَويل، إلا أنّها تُحقِّقُ شروطَ العِمارةِ العُضويّة، فَهِيَ تَسْتَخْدِمُ موادَّ من البيئةِ نفسِها. وَتُحَقِّقُ شروطَ العِمارةِ الوَحْشِيَّةِ حيثُ أنّها تُظهِرُ العناصرَ الإنْشائيةَ واضِحَةً وَلا تَقومُ بأيِّ نوعٍ من أنواعِ التَّغْطية. وتحقِّقُ شروطَ العِمارةِ الوظيفيّةِ حيثُ أنَّ شكلَها، وإنْ كانَ جميلًا، فهُو لِتحقيقِ غرضِ العزْلِ الحراريِّ وسهولةِ الإنْشاءِ معًا. وَتَتْبَعُ تعليماتِ مدرسةِ (الباوهاوس) من حيثُ أنّها حدّدتْ شكلًا نمطيًّا للوِحدات السَّكنية".

صورة لقرية إنويتية في جزيرة بافين (baffin) - منتصف القرن 19 
















يقول أندرياس سانيمونياك أحدُ بنّائي الأسكيمو: "إن عِمارة (الإيغلو) هِيَ فنٌّ يَحْتَضِر". صيحةُ سانيمونياك تشيرُ، على ما يبدو، إلى أنّ الجيلَ الجديدَ من الأسكيمو، قدْ "كَفَّ عن تعلُّمِ إرثِ أجدادِه، وساقتْه الحياةُ العصريّةُ وَراءها".
بَقي أنْ نقولَ إن الاحتباسَ الحراريّ الذي يُعاني منْه كوكبُ الأرضِ من شمالِه إلى جنوبِه، ومن شرقِه إلى غربِه، وارتفاعُ درجةِ حرارتِه، بما في ذلك قُطباهُ الشّهيران، جعلَ البيتَ القبّانيّ عُرْضةً للانْدِثارِ أمامَ التماعةِ شمسٍ تقتربُ منذ ملايينِ السنين، أكثرَ، فأكْثر نحوَ زعزعةِ ناموسِنا الكونيّ.
شمسٌ لم يتوقّفْ الإنسانُ منذُ تعلّم الُّلغة، ومنذُ طلّق الكُهوف، مِن إغراقِها بالشِّعر، والتلويحِ لَها بالغَزَل، ولكنّه اختلالُ المقاديرِ الّذي يُنذرُ بأخطرِ التقاديرِ، فكلِّ شيءٍ بِقدر: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (الآية 49 من سورة القمر).