Print
جمانة دحمان

الثورات ودور اللغة المحكية في الطريق إلى الحريّة

20 أكتوبر 2021
اجتماع

في الفصل الخامس من كتابه "لماذا العرب ليسوا أحرارًا" والذي جاء بعنوان "دور اللغة في تكوين الثقافة" يسلّط المحلل النفسي وعالم الاجتماع السياسي مصطفى صفوان الضوء على أهمية اللغة في تحرير الشعوب والتخلّص من هيمنة السلطة، ويشير إلى أن اللغة هي من أهم مقومات التحرّر من الاستبداد واكتساب الشعب لمرجعيته الذاتية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو أستاذ اللاهوت والراهب الألماني Martin Luther الذي قام بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الشعبية الألمانية، وقد تحوّل الكتاب المقدّس منذ ذلك الحين من كتاب محتكر من قبل المجموعات الدينية في الكنيسة إلى عامة الشعب. وكما جاء في الكتاب فإن "مارتن لوثر ومن خلال ترجمته للكتاب المقدّس، ألغى هيمنة الكنيسة واحتكارها لتأويل النصوص الدينية بغية توطيد مرجعيتها وشرعيتها.. ولقد أدت الترجمة إلى بروز كبار الأدباء الألمان بعد ذلك".

يشيرُ الكاتب أيضًا إلى العمل الأدبي الأفضل برأيه على المستوى العالمي وهو "الملهاة الإلهية/ الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي أليغييري، وقد كتبت هذه الملحمة الشعرية باللغة العامية الإيطالية، وكان لهذا العمل الأدبي أثر مهم على اللغة الإيطالية وعلى انتشارها فيما بعد.

في الحقيقة أن ما أشارَ إليه هذا الكتاب هي نقطة تعدّ غاية في الأهمية، ما جعلني أغوص في بحثٍ طويل حول تاريخ الثورات وعلاقتها بشكل مباشر باللغة المحكية، "لغة عامة الشعب". ومثال على ذلك الثورة الفرنسية وهي الثورة التي غيرت مسار التاريخ الحديث وكانت بداية للربيع الأوروبي عام 1848، وإن من بدأ الثورة هي الطبقات الفقيرة المضطهدة من قبل طبقة النبلاء ورجال الدين، وبالتأكيد أن مصطلحات مثل الأيديولوجيا السياسية والراديكالية أو الأوتوقراطية مصطلحات يمكن استخدامها بسهولة في الخطابات السياسية وفي الجامعات والندوات ولكن ليس في الشارع، فللشارع لغة واحدة أصيلة وهي لغة الشعب والتي كانت عبر التاريخ جواز سفر ليصل أخيرًا إلى حريته، لكن خلال تلك الرحلة- رحلة الوصول لنيل الحرية- ستحاول لغة الطبقات العليا أن تنتصر بسماكتها وغلاظة ألفاظها لكنها أخيرًا ستنهزم أمام سلاسة الهتافات الشعبية..

يشير مصطفى صفوان إلى أن اللغة هي من أهم مقومات التحرّر من الاستبداد واكتساب الشعب لمرجعيته الذاتية 



خلال قراءتي لمصطفى صفوان كنت أعود إلى الكتب التي تم ذكرها، مثل "الكوميديا الإلهية" المذكورة أعلاه، ومسرحية "عطيل" لوليم شكسبير والتي قام صفوان بدوره بترجمتها للعامية المصرية، وغيرهما من الكتب، لكن كل ذلك قادني إلى شيءٍ لم أكن أتوقعه. وهي حلقة تلفزيونية من المسلسل السوري الشهير "ضيعة ضايعة" والذي تقوم فكرته على قرية معزولة عن العالم وبعيدة كل البعد عن التكنولوجيا العصرية ويواجه سكانها مشاكل قد تبدو للبعض سخيفة وبسيطة مقارنة بمشاكل العالم المتصل بالتكنولوجيا والحياة العصرية. الحلقة بعنوان "صيت فقر ولا صيت غنى" وتتحدث عن مشكلة البرد القارس الذي يضرب القرية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعن شحّ مواد وسائل التدفئة، وفي أحد الأيّام تنتشر إشاعة بين الناس مفادها أن الحكومة ستقدم مساعدات لكل من يملك ورقة فقر حال مكتوبة بعناية ومُوقعة من قبل مختار القرية، ويبدأ الصراع بحبكة كوميدية لا تخلو من المعاناة، ولكن المشكلة الأكبر التي تواجه معظم سكان القرية هي أنهم لا يجيدون القراءة ولا الكتابة ولديهم لغة واحدة وهي التي يتحدثون بها، فيلجأ أغلب الأهالي كما هي العادة إلى الشاب الوحيد تقريبًا الذي أكمل تعليمه إلى أن وصل للمرحلة الثانوية. وفي أحد المشاهد، يجتمع أربعة من أهالي القرية حول هذا الشاب المدعو "سلنغو"، ويجلس هو محاولًا كتابة ورقة فقر الحال وترديد ما يكتبه بصوت عالٍ، وخلال ذلك تظهر على وجوه الجالسين علامات استفهام ونظرات تعجبية مما يكتبه: "وهذا بيت الشاعر سقفه حديد، وركنه حجر، أمّا أنا.. واحسرتاه فسقف بيتي خشب وركنه لُبنٌ من التراب"، بهذه الكلمات يبدأ سلنغو رسالته التي يصعب على الجالسين قراءتها أو كتابتها أو حتى فهمها. تذكرت فورًا هذه الحلقة بعد أن قرأت كتاب "لماذا العرب ليسوا أحرارًا"، فقد جاءَ فيها تمامًا كما جاء في هذا الكتاب، عن اللغة التي تقف كجدار عازل بين المواطن وبين أبسط حقوقه. وتساءلت هنا، ماذا لو كان سلنغو لا يتقن القراءة والكتابة مثل باقي أهالي القرية؟ ماذا لو كان سلنغو يتقن القراءة والكتابة لكنه يفضلُّ اللغة المحكية؟ وهل كانت ورقة فقر حال المكتوبة باللغة العربية الفصيحة والمصطلحات الثقافية هي الورقة الوحيدة التي ستكون جواز سفر لعبوره الجسر المؤدي لأبسط حقوقه، هل كانت رسالته باللغة المحكية ستمزّق وسيموت من البرد. والسؤال الأهمّ: لماذا كلّ هذا التعقيد!

 

من مصر إلى بيروت

منذ 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، ومع بداية الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي، توالت من بعدها ثورات الربيع العربي، فبعد حوالي شهر تقريبًا وفي يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011، اندلعت أولى شرارات الثورة في مصر والتي استمرت ثمانية عشر يومًا وأطاحت الرئيس السابق محمد حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط. وبعد الثورة المصرية بحوالي شهر اندلعت مظاهرات في ليبيا واستمرت الثورة إلى أن عثر الثوار على الرئيس الليبي السابق معمر القذافي يختبئ في نفق إسمنتي وتم القبض عليه وقتله يوم 20 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2011. توالت بعدها ثورات عديدة من أبرزها ثورة السوريين التي اندلعت يوم الثلاثاء 15 مارس/ آذار 2011. وأيضًا ثورة اليمنيين وثورة البحرين والجزائر والعراق وأخيرًا لبنان التي بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 واستمرت حتى بداية عام 2020.

من شعارات الثورة المصرية   


ما يجمع بين هذه البلدان على اختلاف نتائج ثورات شعوبها، هي الهتافات الجميلة. ففي مصر كما في دمشق كما في بغداد، كانت الهتافات والكتابات المرفوعة مكتوبة من قبل الناس الذي تنتمي في غالبيتها إلى الطبقة الشعبية. وقد تميّزت كل ثورة بهتافاتها وأغانيها الثورية ورقصاتها بل وحتى بنكاتها في كثير من الأحيان.

ومن أبرز شعارات الثورة المصرية: آه يا حكومة هز الوسط/ أكلتونا العيش بالقسط. وأيضًا: ياكلوا حكومة وياكلوا فراخ/ واحنا الفول دوخنا وداخ.

ارحل يعني إمشي يمكن ما بيفهمشي.

وقد تم تحويل بعض الأغاني الشعبية والوطنية إلى أغان لها نفس الألحان بتغيير الكلمات حتى تتماشى مع ذوق الشعب الثوري. وبكلمات غاية في البساطة وموسيقى تحضّ على القفز والرقص، كان الشباب والشابات والنساء والرجال من كل محافظات مصر ومن ساحة ميدان التحرير يهتفون ويحاولون إيصال رسائل ثورتهم على طريقتهم الخاصة وقد طبعوا بصمتهم من خلال تلك الهتافات والأغاني الثورية المؤثرة على جمالية وبساطة لغتها والتي أودت ويا للأسف بالكثير منهم/ن إلى السجن أو الاستشهاد.

أمّا بالنسبة لثورة السوريين، فيمكن القول بكلّ ثقة إنه يمكنني التعرف على أيّة أغنية أو أيّة هتافات ومعرفة تاريخها وفي أي مدينة كانت تقال بمجرد سماع أوّل عشر ثوان من التسجيل أو الفيديو. للثورة السورية هتافات لا تحصى ولا تُعد وأغاني زجل ودبكات ورقصات بالورد والأرز. منها الحزينة مثل: يمّه طالع أتظاهر ودماتي بأيديّا وإن جيتك يمّه شهيد لا تبكين عَليّا. ومنها المُضحكة مثل: حالي حالي حال بالي بالي بال/ أوّلتك رئيس وآخرتك زبّال. ومنها الحاسمة الغاضبة: طيّب إذا منرجع، هاي مطالبنا.. بدنا أصابع نصر نرفعها فوق القصر، بدنا دَمّ الشهدا، ويرجع نهر بردى.. إلخ. وقد اشتهر الشهيد عبد الباسط الساروت بهتافاته ونبرة صوته الشجيّة وقد غنّى بصوته عدة أغان للثورة منها: جنّة يا وطنّا، ولأجل عيونك، وسورية ظلّي واقفة.

أخيرًا، إن من أجمل المشاهد في العامين الأخيرين مشاهد الثوار/ الثوريات من ساحة التحرير في بغداد ومثلها في لبنان، فقدّ غنّى المتظاهرون وهتفوا ونادوا بعلو أصواتهم أنه لا شيء يمكن أن يهزم إرادة الشعب، وأن "لغة الشارع" التي تؤرق خمول الحكومات هي اللغة الأولى والتي توّقع بها الشعوب دائمًا وأبدًا تاريخ ثوراتها.