Print
باسم سليمان

الغُراب.. أدوار مقدّسة ومدنّسة في الثقافة الإنسانية

7 نوفمبر 2021
اجتماع

"الغراب هو شخص فتى مرح على الرغم من معطفه الداكن كالحبر"(1)- هذا ما يقوله المسرحي الإيرلندي شين أوكاسي في كتابه "الغراب الأخضر". هذا الفتى المرح ارتبطت به الكثير من الأساطير والقصص، مع أنّه لم يكن يومًا من الطيور المدجّنة، ولم يشته أن يكون على مائدة طعام الإنسان، فهو من أكلة الجيف. الغراب ليس طيرًا أسطوريًا كالعنقاء، هو طائر واقعيّ أسود اللون بالمجمل، له صوت أجشّ، إلّا أنّه ذكي جدًا! لذلك قال دايفيد كوامين، المختصّ بشؤون الطبيعة، كما يذكر بوريا ساكس(2): "إنّ الغربان مليئة بسلوكيات استثنائية يحتاج تفسير بعضها إلى علماء النفس، فالذكاء الذي تمتلكه الغربان يزيد عن حاجتها للبقاء حية؛ إنّ الغربان تشعر بالضجر، فتخترع ألعابًا لتسري عن نفسها".

لعب الغراب أدوارًا كثيرة؛ مقدّسة ومدنّسة، في الثقافة الإنسانية، فقد كان يعتبر خالق الكون عند الهنود الحمر، ورسولًا للآلهة الوثنية والتوحيدية. ولقد تم ذكره في القرآن الكريم معلّمًا لقابيل، كيف يدفن أخاه، وقد وردت أيضًا أخبار عن الغراب، في التوراة والإنجيل. تعدّدت ظهوراته في التراث ذي الصبغة الدينية، فقد كان متواجدًا كطائر من طيور الجنّة في حكاية "كانوه"، والد النبي صالح كما أورد يورسلاف ستيتكيفيتش، وهو الدّال على بئر زمزم، وزارع النخلة الأولى في أساطير بلاد ما بين النهرين (3)، لذلك تقول العرب: "وجد تمرة الغراب" دلالة على أنّ الغراب أعرف بأجود التمر، أليس هو زارعه! فقد كانت العرب تترك للغراب ناقة محمّلة بالتمر، كما يذكر الباحث زكريا محمد(4). ويذكر ساكس بأنّه في إنكلترا هناك منصب لسيد الغربان، حيث يحفظ الغراب عرش ملكة بريطانيا، فالأسطورة تقول: إنّ الملك آرثر أصبح غرابًا أعصم، وفق ما ذكر سرفانتس صاحب دون كيشوت. ارتبط الغراب بالموت، وخاصة في معارك الجيوش، حيث تقتات الغربان على جثث الجنود. ولكن من ناحية أخرى كان الغراب وغيره من الطيور الآكلة للجيف وسيلة للانتقال إلى الحياة الأخرى؛ وهذا ما نجده في التيبت حيث كانت أجساد الموتى تقطّع وترمى للنسور والغربان. إنّ الموت أحد أكبر معضلات الحياة البشرية وكلّ ما يرتبط به يتحوّل تارة إلى مقدس، وتارة أخرى إلى مدنّس؛ ولم ينجُ الغراب من التأويلات البشرية، فأصبح الغراب أستاذًا للأحياء ومرشدًا للموتى.

هذا غيض من فيض، فالغراب كان سيد التنبوءات المتفائلة والمتشائمة. وهناك أغنية شعبية اسكتلندية تُخبر كيف تقرأ ما تنذر به الغربان، عندما تحلّق فوق رأسك(5): "واحد يعني الأسف/ اثنان يعني الفرح/ ثلاثة تعني الميلاد/ أربعة تعني الزفاف/ خمسة تعني الفضة/ ستة تعني الذهب/ سبعة تعني سرًّا لا يجب إفشاؤه/ ثمانية تعني الجنة/ تسعة تعني النار/ عشرة، هي الشيطان نفسه".

غراب ناصع الأخبار

يشبه الغراب شريط الأخبار العاجلة، فهو كما قال عنه عنترة: حَــرِقُ الجَــنــاحِ كَــأَنَّ لِحـيَـي رَأسِهِ/ جَــلَمــانِ بِــالأَخــبــارِ هَــشَّ مــولَعُ. لقد امتدح كاليماخوس السيريني(6) بياض الغراب الذي يبزّ بياض اليمام والأوز والبجع، إلّا أنّ هذا الولع بالإخبار رتب لطائر الأقدار أن يتغيّر لونه من الأبيض الناصع إلى الأسود الفاحم، وكأنّه أوديب في عالم الطيور.

يرتبط الإله أبولو لدى اليونانيين بالغراب، وقد قصّ أوفيد في كتابه "مسخ الكائنات" الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، بأنّ الغراب كان رسول أبولو، وحدث أن نقل له خبر زواج حبيبته، فغضب أبولو، وأرسل ناره المحرقة ليقتل بها حبيبته، لكنّ النار أصابت ريش الغراب الأبيض، أيضًا، فأحرقته، ومن وقتها أصبح ريشه أسود اللون.

يذكر بوريا ساكس بأنّ كتّاب التراث الشعبي قد فسّروا تغيّر لون ريش الغراب من الأبيض إلى الأسود نتيجة للعنة التي صبّت عليه من قبل نوح لأنّه لم يعد إلى السفينة. وقد فُسِّر تباطؤ الغراب عن العودة إلى النبي نوح وإخباره بأنّ اليابسة عاودت الظهور من تحت مياه الطوفان، بسبب اِنشغاله بجثّة كانت تطفو على وجه الماء المنحسر(7)، لكن ألا يحقّ لنا أن نرى اِنشغال الغراب بجثة طافية، بأن البشرية لم تعتبِر من الطوفان الذي أبادها بسبب فجورها وفق الرؤية الدينية! 

ويتابع ساكس، بأنّ الرسول محمد (ص) عندما كان مختبئًا في الغار من مطارديه القريشيين، لمحه غرابٌ، وبدأ ينعق: "غار، غار!" لم يفهم المطاردون ما قاله الغراب، وعندما خرج الرسول من الغار حوّل لون الغراب إلى الأسود بعد أن كان أبيض، وقال عن صوته: إنّه رمز الخيانة.

يحكي الهنود الحمر في كندا قصة عن خلق العالم، بأنّه كان في البدء غرابان؛ الأول أبيض، والثاني أسود. قام الغراب الأبيض بخلق العالم إلّا أنّ شقيقه الأسود حسده ومن ثمّ قتله، لذلك لم يبق في العالم إلّا أحفاد الغراب الأسود الذين ورثوا لونه. على ما يبدو لهذه القصة جذور تعود إلى هابيل وقابيل.

ينقل ساكس عن هنود قبيلة ليناب/ Lenape، بأنّ الغراب كان له ريش ملوّن بألوان قوس قزح وصوت رخيم. وحدث أن تساقط الثلج لأوّل مرّة في العالم، فأرسلت الحيوانات الغراب كي يخبر الإله، فأعطاه الإله شعلة؛ هي الشمس، وبها سيدفئ العالم. هذه الشعلة أحرقت ريش الغراب، فأصبح صوته أجشّا، لكنّه أنقذ العالم من التجمّد. 

يمتلك الغراب الكثير من الدلالات من المثيولوجية إلى الدينية، إلّا أنّ ما يعنينا في هذا البحث، هو الاستخدام الأدبي والفنّي للغراب. وقد يكون الحكيم اليوناني إيسوب الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، هو أول من ذكره في أمثولة أدبية. وتتكلّم هذه الأمثولة عن غراب كان مريضًا، فطلب من أمّه أن تصلي للآلهة، فأجابته الأم بأنّ الآلهة ليس من المحتمل أن تستجيب، لأنّنا نسرق طعام القرابين. لكن قبل ذلك بكثير صوِّر على ختم أسطواني رافداني، يرتبط هذا الختم بأسطورة جلجامش، حيث كان الغراب جاثمًا على قارب الملاح أورشنابي.

كان أودين الإله الأسمى لدى الفايكنغ يلقّب بملك الغربان، كما يذكر بوريا ساكس وكان له غرابان؛ هوغين يمثل العقل، ومونين يمثّل الذاكرة



هوغين ومونين

كان أودين الإله الأسمى لدى الفايكنغ يلقّب بملك الغربان، كما يذكر بوريا ساكس وكان له غرابان؛ هوغين يمثل العقل، ومونين يمثّل الذاكرة. وحدث أن قام أودين متخفيّا بقناع أزرق بزيارة ملك القوط، ليرى كم مقدار سوء الضيافة لديه. اعتقل ملك القوط أودين وصلبه على شجرة بين نارين. وبينما كان أودين يُعذّب أخبر عن أسرار الجنّة والأرض: "هوغين مونين يطيران كلّ يوم/ فوق العالم الواسع/ وأخشى ألّا يعود هوغين/ ولكنّي أقلق أكثر على مونين". تدلّ كلمات أودين على الخوف من انحدار العالم نحو الفوضى؛ إذ أنّ الغراب/ العقل، والغراب/ الذاكرة، هما اللذان يحفظان الكون من التبعثر(8).

توثّقت علاقة الغراب في العصور الوسطى الأوروبية بالموت، حيث يمتلئ التراث الغربي بأناشيد وأغنيات تدلّل على ذلك؛ فالغراب يأكل الجثث، وكثيرًا ما يشاهد حائمًا في سماء المعارك. وعندما اجتاح الطاعون أوروبا كان الغراب يقتات على الجثث، ومع أنّه ساهم إلى حدّ ما بقطع سلسلة انتشار الطاعون، فقد كان يزاحم الجرذان على الجثث، إلا أنّ الانطباع العام عنه أصبح مرتبطًا بالموت. أنهى الرسام الفلمنكي بيتر روغال في عام 1562 لوحة فنية بعنوان: انتصار الموت/The Triumph of Death كان الغراب من أهم ثيماتها. لم يتغاض شكسبير عن استخدام ثيمة الغراب وخاصة التنبؤ بالموت. ففي مسرحيته "هاملت" هناك ذكر له، وفي "ماكبث" أيضًا.

وعلى الرغم من ارتباط الغراب بالموت، فقد اُعتبر صراخه الذي أوّله الرومان على أنّه يعني الغد/ Cras، وضمنًا الأمل، أساسًا لتصورات العصور الوسطى في الدعوة إلى التوبة. كان نعيب الغراب يدلّ على الشخص الذي يؤجّل تصالحه مع الرب؛ ومن هنا فُهم صوته على أنّه تحذير ودعوة للعودة إلى الرب، فالموت قريب.

تتطوّر ثيمة الغراب الأدبية من عصر إلى آخر، فعندما ذكر هزيود باندورا التي فتحت الصندوق الذي انطلقت منه الشرور إلى العالم، كان الغراب رمزًا للشؤم، لكن مع بدايات عصر النهضة، أصبح النظر إلى خطأ باندورا على أنّه يشبه الأخطاء البشرية، وليس قدرًا محتمًا، لذلك صار تأويل نداء الغراب Cras أكثر تفاؤلًا ورسمت باندورا ذاتها على أنّها غراب. وكأنّ الأمل الذي ظلّ في الصندوق قد رفرف خارجًا.

تعدّ قصيدة إدغار آلان بو "الغراب"، المشهورة جدًا، والتي يُظهر من خلالها القلق الرومانسي ومحاولة كبح سيطرة العقل على الإنسان؛ من الإرهاصات الأولى في الاستخدام الأدبي بعيدًا عن الأساطير والخرافات المتعلّقة بالغراب، على الرغم من أنّه استخدم ثيمات الغراب الألوهية والتنبؤية والتشاؤمية والتفاؤلية، فالغراب أصبح تمثيلًا عن قلق الإنسان الوجودي الذي أرعبه وسع العالم، حتّى إنّ بو أصبح يُعرف بالغراب. استنادًا إلى هذه القصيدة يرسم بول غوغان الشاعر ستيفان مالارميه الذي نقل قصيدة بو إلى الفرنسية على أنّه غراب. وفي لوحته المعنونة: " nevermore/ أبدًا، ليس بعد الآن" والمستقاة من قصيدة بو، يصوّر غوغان في لوحته، امرأة عارية مستلقية في وضعية الانتظار، وفي الخلفية يقف غراب على الشباك. تشي اللوحة بمعانٍ كثيرة لكلّ من ينظر إليها، لربما أول ما يخطر للناظر، أنّ الغراب يحمل أخبارًا ونبوءات. كذلك استخدم كلود مونيه غراب العقعق كرمز للهدوء في الريف في لوحته: "La pie". يعلّق ساكس على طائر العقعق الذي يعد نوعًا من الغربان بأنّه لم يجد مكانًا له في سفينة نوح، فحطّ على سطحها مثرثرًا، يراقب العالم وهو يغرق. تبدو مفارقة رؤية مونيه عن ساكس، لكن مع قليل من التبصّر نرى رمزية ساكس لطائر العقعق، بأنّه رمز للطبيعة التي رجعت بكرًا بعد الطوفان، متعالقة مع نظرة الرسام الذي عاد إلى عذريته بالابتعاد عن صخب المدينة. في لوحته: "حقول القمح مع الغربان"؛ يرسم فان غوخ الغربان كدلالة على قوى الطبيعة الفوضوية والقدرية في الوقت نفسه.

كان المسرحي شين أوكاسي إيرلنديًّا مناهضًا للاحتلال البريطاني ويرى في الثوار الإيرلنديين غربان خضراء؛ والخضرة من أحد معاني السواد. بالنسبة لأوكاسي كان الغراب تعبيرًا عن جميع الناس الذين استمروا في الحياة وفي الثورة بسبب فطنتهم وإرادتهم الصلبة كما الغربان. أمّا الشاعر تيد هيوز، فرأى في الغراب قوة ماورائية: من أقوى من الأمل؟ الموت/ من أقوى من الإرادة؟ الموت/ من أقوى من الحب؟ الموت/ من أقوى من الحياة؟ الموت/ ولكن من أقوى من الموت؟/ أنا، طبعًا/ أوضح الغراب.

هذا الغموض الميتافيزيقي والفيزيقي للغراب، دفع هوليوود إلى أن تقدّم ابن أسطورة الكونغ فو بروسلي عبر فيلم يحمل اسم: The Crow. كان براندون لي قد لعب دور موسيقي روك شاب تقتله عصابة مع حبيبته، لكن بمعونة غراب يعود إلى الحياة كي ينتقم. كيف للرصاصات أن تؤثر في الميت!؟ ومع ذلك يحدث في أحد المشاهد أن تطلق الرصاصات نحو براندون لي، وتكون حقيقية ويموت بعدها. هذا هو الغراب يهب الحياة ويهب الموت أيضًا. وفي سلسلة "لعبة العروش" المشهورة كان الغراب حاضرًا بكل ثيماته التي نعرفها.  

تعدّ قصيدة إدغار آلان بو "الغراب"  من الإرهاصات الأولى في الاستخدام الأدبي بعيدًا عن الأساطير والخرافات المتعلّقة بالغراب



الغراب عاذلة الأقدار

مثّلت العاذلة في الشعر العربي الصراع الذي يحتدم في داخل الشاعر، فهو موزّع بين دهرية الحياة وانطفاء الذكر، والرغبة في تخليد اسمه، في مسعى يكاد يكون الموت أقرب فيه من ارتداد الطرف. ومن الشعراء الذين وصفوا جدلهم الداخلي مع العاذلة، حاتم الطائي الذي يقول:                                             

وعاذلةٍ هبّتْ بليلٍ تلومُني/ وقدْ غابَ عَيّوقُ الثريّا، فعرّدا/ أعاذل! لا آلوكِ إلا خليقَتي/ فلا تَجعَلي فوْقي لِسانَكِ مِبْرَدا.

إن ثيمة العاذلة التي نراها في فتاة الحانة سيدوري في جلجامش إلى كاليبسو مع عوليس، أبرزت لنا مشاعر الخوف والقنوط والإحباط التي كانت تنتاب الشاعر أو البطل، ومع ذلك كان لحضورها أثر تصعيدي في تأجيج الصراع الداخلي وتظهير الصعوبات التي سيواجهها الشاعر أو البطل. هذه الثيمة تقمّصها الغراب، وأصبح عاذلة قدرية، تنبؤية، زجرية، لا مناص من الخضوع لها. وعلى الرغم من ذلك نرى الشاعر يجأر بالرفض ضد ما ينبئ به الغراب. 

إنّ إقواء النابغة في قصيدته الغزلية التشبيبية- من ﺁﻝ ﻣﻴﺔَ ﺭﺍﺋﺢٌ ﺃﻭ ﻣُﻐْﺘَﺪِﻱْ/ ﻋﺠﻼ‌ﻥَ ﺫﺍ ﺯﺍﺩٍ ﻭﻏﻴﺮَ ﻣُﺰَﻭَّﺩ- كان في البيت الذي ذكر فيها الغراب، وكأنّه عاذلة، لم تنبئه فقط بالرحيل، بل نالت من قافيته وأوهنتها: ﺯﻋﻢ ﺍﻟﺒﻮﺍﺭِﺡُ ﺃﻥَّ ﺭﺣﻠﺘَﻨﺎ ﻏﺪًﺍ/ ﻭﺑﺬﺍﻙَ ﺧﺒَّﺮﻧﺎ ﺍﻟﻐُﺮَﺍﺏُ ﺍﻷ‌َﺳْﻮَﺩُ. ويُحكى أنّه دخل الحجاز، وأنشد قصيدته، فشعر بعض أهل الحجاز بذلك العيب، ولم يرغبوا في إحراجه، فطلبوا من قينة أن تتغنّى بهذه اﻷبيات، فلاحظ النابغة العيب، فغيّر الشطر الذي فيه الإقواء: ﺯﻋﻢ ﺍﻟﺒﻮﺍﺭِﺡُ ﺃﻥَّ ﺭﺣﻠﺘَﻨﺎ ﻏﺪًﺍ/ ﻭﺑﺬﺍﻙَ تنعاب ﺍﻟﻐُﺮَﺍﺏِ ﺍﻷ‌َﺳْﻮَﺩِ.(9)

الإقواء: هو تغيّر حركة حرف الروي في القافية. والإقواء لغة: هو الضعف. وبشرح بسيط للإقواء هو أن تستبدل الكسرة بالضمة في آخر حرف من عجز البيت. إلّا أنّ السؤال كيف وقع النابغة في هذا؟ وهو من أهم شعراء العصر الجاهلي ومحكّم سوق عكاظ!

لا نريد إسقاط رؤانا الحالية على نصّ قديم، لكن عُرف الغراب في الثقافة العربية الجاهلية بأنّه طائر البين، كما يذكر الجاحظ. نسب للغراب أنّه المتسبّب بالفرقة والغربة - حتى أنّ الغربة اشتقّت من اسمه- وهجران الأمكنة والأحباب، لربما جاءت من الحالة الواقعية للقبائل العربية المرتحلة خلف المطر والكلأ، فلا يهدأ لها حال، ولا تقرّ كما أهل المدن، الذين لحظوا الإقواء!

هذا الواقع القلق ارتبط بالغراب كونه يقع في ديارهم بعد ظعنهم عنها، فأصبح بذلك مرتبطًا بالبين الذي نسب إليه، كما أصبحت الأطلال مقدّمة لقصائدهم. وهنا، هل لنا أن نستنتج، أنّ النابغة العبقري أراد للإقواء أن يقع في قصيدته، تنبيهًا لما يفعله الفراق، أو ما يفعله الغراب سيد المتنبئين، وقد سمّاه العرب بـــ(حاتم) لأنّ به تحتم الأمور، أي تتأكّد. فقد قال النابغة: "زعم البوارح" والبارح هو كل طير، يزجر، فيتياسر وهو ما يتشاءم منه، وليس ما يتيامن فيتفاءل به ويسمّى السانح. هذا الزعم أو الظن، لن يتأكّد ما لم يجزه الغراب. هكذا نرى أنّ للغراب قدرة تنال حتى من قوافي القصائد التي يحكمها الوزن، فلا تقوم في البيت حركة أو سكون إلّا بمكيال. كان الشعر ديوان العرب، به سجلوا تاريخهم وأيامهم، وكان من عظمته لديهم، إن نبغ شاعر فيهم أقاموا الأفراح. وقد كان الشعر لديهم خلاصة الفكر والبلاغة والحكمة والتجربة، والأهم أنهم رأوا فيه وحيًا من الغيب، لذلك كان يسيئهم أن يأتي مكسور الوزن معتلّ القوافي. وهذه القناعة لم تكن تغيب عن شاعر كالنابغة، لكن لا حيلة تجدي مع عاذلة الأقدار.

ليس النابغة هو الشاعر الوحيد الذي استدعى الغراب كي يعبّر أشدّ تعبير عن القلق الوجودي الذي يرتبه البين عن الأحبة والأماكن. وقد يكون عنترة المنسوب إلى أغربة العرب، وهم مجموعة من الشعراء سود البشرة، أكثرهم تجادلًا مع الغراب، والأصح مع نفسه/ عاذلته التي تقمّصت طائر الأقدار. ونستطيع القول عن عنترة: إنّه غراب بشري، فبه كان يحتم النصر، ولكن أباه وقبيلته، لم يروا فيه إلّا ابن (عبدة سوداء). وجاء يوم أغير فيه على قبيلة عبس واستاقوا إبلهم، فقال له أبوه: "كُرّ، يا عنتر فقال: العبدُ لا يحسن الكَرّ، إنّما يحسنُ الحِلاب والصّر، فقال كُرّ، وأنت حُر، فقاتل قتالًا شديدًا، حتى هزم القوم، واستنقذ الإبل" (10).

ارتبط عنترة بعبلة، وشكّلا سوية، قصّة حب خالدة، لكن الأيام لم تكن تصفو لعنترة حتى تتعكّر، وكأنّه الغراب الذي يُزجر ليعرف به المستقبل إن تسانح أو تبارح، وفي الوقت نفسه يُلعن لأنّه أخبر بما لا يحبّ الحازي/ الكاهن. يقول عنترة عبر تماه وفصام، بينه وبين الغراب:

أُســائِلُهُ عَــن عَــبــلَةٍ فَــأَجــابَــنــي/  غُــرابٌ بِهِ مــا بــي مِــنَ الهَــيَـمـانِ / ألا يا غُرابَ البَينِ لَو كُنتَ صاحِبي/ قَــطَــعــنــا بِــلادَ اللَهِ بِــالدَوَرانِ.

وفي رثاء زهير بن مالك العبسي ينشد عنترة:

أَلا يا غُرابَ البَينِ في الطَيَرانِ/ أَعِرني جَناحًا قَد عَدِمتُ بَناني.

ليس عنترة الوحيد الذي نوّع على ثيمة البين التي ارتبطت بالغراب وأعطاها أمداء أخرى، لربما يعود ذلك إلى أسطرة كلّ منهما وتشابههما. فقد قدّم العلّامة المقدسي في فصل: "إشارة الغراب" حوارية؛ أعطى فيها للغراب جلّ الكلام، فأوضح الغراب لماذا ينعب وينعق محذّرًا(11): "...؛ فكيف تلومني على نُواحي، وتتشاءم بصياحي في مسائي وصباحي، ولو علمت يقينًا أيها اللّاحي ما فيه صلاحك وصلاحي، لاتّشحت بوشاحي... وأجبتني بالنُّواح في سائر النواحي...". لقد منح المقدسي الغراب حقّ الدفاع عن نفسه، فليس على الرسول إلّا البلاغ.   

عصرنا الحالي

وإذا انتقلنا سريعًا إلى عصرنا الحالي، نجد أنّ ثيمة الغراب قد تغلغلت في الرواية والشعر والقصّ العربي وأغلفة الكتب، حيث نجد العديد منها تحمل في عتبتها العنوانية كلمة: الغراب. ولعلّ الأديب المصري محمد مستجاب هو الوحيد الذي خصّ الغراب بزاوية دائمة في مجلة العربي الكويتية بعنوان: (نبش الغراب). وقد كان للشاعر إيليا أبو ماضي وقفة مع شكوى الغراب الذي استنكر إعجاب الناس بالبلبل. ومن آخر الإصدارات التي استلهمت ثيمة الغراب، كانت رواية اليمني أحمد زين "فاكهة الغربان"، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر في دورتها الأخيرة.

إنّ دور الغراب في الثقافة والأدب الإنساني هو أن يثير التناقضات والأسئلة ويجعل الإنسان يقف بمواجهة مخاوفه التي تأتيه من كلّ صوب؛ أكانت من الموت أم من الأمراض والفجائع التي تترصّده، ومع ذلك عليه أن يصرخ: Cras/ الغد/ الأمل.


مصادر:

1- الغراب التاريخ الطبيعي والثقافي، تأليف بوريا ساكس- هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2010

2- المصدر السابق.

3- ديوان الأساطير، سومر وأكاد وآشور؛ تأليف قاسم الشواف- دار الساقي 1996

4-https://al-akhbar.com/Kalimat/237797

5- الغراب التاريخ الطبيعي والثقافي، مصدر سابق.

6- كاليماخوس السيريني: شاعر الإسكندرية، تأليف د. عبد الله حسن المسلمي- منشورات الجامعة الليبية 1973

7- العرب والغصن الذهبي؛ إعادة بناء الأسطورة العربية، ياروسلاف ستيتكيفيتش- المركز الثقافي العربي 2005.

8- الغراب التاريخ الطبيعي والثقافي، مصدر سابق.

9- تاج العروس، المرتضى الزبيدي- طبعة الكويت.

10- مجمع الأمثال، أبو الفضل الميداني النيسابوري- دار المعرفة بيروت.

11- كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار للعلامة عزّ الدين بن غانم المقدسي – حقّقه علاء عبد الوهّاب محمد – دار الفضيلة- القاهرة.