Print
هشام أصلان

مهابة لإيزيس.. مهابة للقاهرة يوم الحفل الكبير

7 أبريل 2021
آثار
(1)

"يا أيها البشر والآلهة الذين في الجبل
إنها السيدة الوحيدة
مهابة لإيزيس فإنها التي تلد النهار
مهابة لإيزيس فإنها سيدة الغرب والأرضين معًا
مهابة لإيزيس فإنها عين رع عظيمة القدر في الأقاليم
مهابة لإيزيس فإنها التي تهب الكثير لملك مصر العليا والسفلى".

ترنيمة "مهابة إيزيس" أكثر ما خطف قلبي في وقائع الحفل المبهر، وخطفت قلوب كثيرين، قبل أن نعرف معاني كلماتها. فقط أداء مدهش للسوبرانو، أميرة سليم، ولحن فادح الجمال لهشام نزيه، وعزف مئة عازف، وتسعون فردًا في الكورال، وفق المايسترو، نادر عباسي، قائد الأوركسترا، وأحد نجوم الحفل. خطفتنا من دون أن نفهم ما تقول، فقرة أوبرالية اعتدنا من مثيلاتها على مخاطبة نخبوية خالصة، خرجت إلى مساحة جماهيرية كبيرة، وباتت في ساعات قليلة من أشهر المقطوعات الموسيقية، تضاعف أثرها الجميل مع انتشار ترجمتها من الهيروغليفية إلى العربية، ومفارقة كون ثيمتها الرئيسية، "المهابة" كانت ثيمة رئيسية في روح الموسيقى المهيبة التي صاحبت كلماتها، كما صاحبت الحفل وأبطاله، اثنان وعشرون من أشهر وأبرز ملوك وملكات مصر القديمة، ينتقلون من مقرهم في المتحف المصري، في ميدان التحرير، إلى المتحف القومي للحضارة بالفسطاط لافتتاحه.


(2)

وأخشى أن الاتجاه الإعلامي والجماهيري للتركيز على حدث نقل المومياوات الملكية أخذ الاهتمام من الحدث الرئيسي، وهو افتتاح المتحف القومي للحضارة المصرية، ذلك أن نقل المومياوات إليه في الموكب المهيب كانت فكرة دعائية جيدة للافتتاح، لكنها ليست الحدث الرئيسي.

والمتحف، الذي بدأ العمل في إنشائه منذ عشرين عامًا تقريبًا، واختيرت له منطقة الفسطاط، حيث مكان أول عاصمة إسلامية لمصر، يضم، إلى جانب قاعات العرض، قاعات لترميم الآثار، وتدريب الدارسين على ذلك، ليست الآثار الفرعونية فقط، ذلك أن أهميته الفعلية تأتي من كون دوره أكبر من هدف عرض الآثار، ولكن وظيفته أشمل، وهي استعراض ثقافات الحضارات المختلفة التي مرت على مصر وعواصمها، بداية من عصور ما قبل التاريخ، وصولًا إلى الحضارة المعاصرة وثقافاتها في المدن المصرية، مرورًا بالعصر الروماني واليوناني والمسيحي والإسلامي.
وأنت بينما تتجول في المتحف، تستطيع، فضلًا عن الاستمتاع بالمشاهدة، التعرف على ثقافات هذه الحضارات، من خلال وسائل عرض متحفية حديثة، وشاشات شرح تفاعلية، بحسب شرح الدكتور، خالد عناني، وزير السياحة والآثار، في بداية حفل الافتتاح، فيما المقتنيات لا تقتصر على آثار هذه الحضارات، فهنالك، أيضًا، مستنسخات وقاعات لعرض الأفلام التعريفية، ذلك بينما أنت تسير في أرجاء المكان، وتتنقل بين الآثار الفرعونية، وبعض أشهرها في العالم يرافقه تجسيد لبعض أشكال الحياة اليومية وقتها، وبين أسبلة ومنابر من العصر الإسلامي، ومقتنيات ترجع إلى العصر المسيحي، وبعض مما تبقى من التراث اليهودي، وصولًا إلى أعمال نحتية حديثة لمحمود مختار، وأشكال للعمارة التي صممها حسن فتحي، وبعض من تراث رمسيس، ويصا واصف، وأشكال للملابس، والصناعات اليدوية التي تشتهر بها بعض المدن المصرية، وحتى المحمل الذي كانت تخرج عليه كسوة الكعبة من مصر متجهة إلى مكة في حفل تاريخي مشهور، ليضم المتحف آخر كسوة للكعبة خرجت من مصر. كل هذا من المفترض أنه يُعرض بأحدث وسائل العرض المتحفي، وأكثرها مساعدة للزائر على أن يعيش في أجواء الثقافة التي يمر بها، خصوصًا المساحة التي تعرض مومياوات الملوك والملكات.
موكب المومياوات كان رائعًا، غير أن الأهم، قطعًا، عرضها في مكان يتيح مشاهدتها بشكل جيد ومريح ومفيد ضمن سياق عام يضمه كيان ثقافي كبير من المفترض أنه سيعود بفوائد كبيرة على المجتمع المصري، ثقافيًا، وسياحيًا.


(3)
قبل مرور ساعة من انتهاء الحفل وتلقيه الكبير، وبعيدًا عن الجدال المتوقع، راح أصدقاء فيسبوك يبحثون وراء كل من لمع دوره ونشر معلومات حوله والإشارة إليه من باب التحية عبر المتاح عنه على مواقع الأخبار، أو التواصل، لكن أكثر ما استوقفني صورة من خبر في إحدى الجرائد القديمة، نشرها الصديق والكاتب، عمر طاهر، وكنا نتحدث قبلها بأيام حول مسألة الأرشيف. خبر صغير عبارة عن صورة شاب في العشرينات من العمر مكتوب أسفلها:
"نادر عباسي أصغر مؤلف موسيقي، وأصغر عازف في أوركسترا القاهرة السيمفوني، تم اختياره ليمثل مصر في المسابقة العالمية للعزف على آلة الفاجوت التي ستقام في جنيف مع 100 عازف من أنحاء العالم.

مع أوركسترا القاهرة السيمفوني، سيقدم نادر (23 سنة) كونشرتو الفاجوت، مساء اليوم، على مسرح الجمهورية، ثم يقدم الأوركسترا الافتتاحية الإيطالية لروسيني، وقيصر والدانوب لشتراوس، بقيادة طه ناجي".


(4)

أحب القاهرة كما لم أحب مدينة أخرى، وبينما أضاءت مباني ميدانها الأشهر لحظة بدء الاحتفال في مشهد جميل، فرحت. رغمًا عني جاءتني رغبة في مناداة الجميع لمشاهدتها تتألق، ولو بأنوار تحجب الأعين عن القبح، وإن كان تألقًا من بعيد، وإن كان للحظات.