Print
محمد جميل خضر

عيد العمّال.. مناسبةٌ لإعادة تشغيل العَجَلَة وتصعيد الأمل

1 مايو 2021
اجتماع
الكادحونَ في الأرضِ، الشغّيلة، العمّال، طبقةُ البروليتاريا، أصحابُ المَهمةِ الثوريّةِ التاريخيّةِ المتمثّلة بتخليصِ الإنسانيةِ من الاستغلال، مشعلو ثوراتِ الثّماني سَاعات، شاغِلو الدنيا، ومالِئو السّاحات. جميعُها أسماءٌ لِمسمّى واحدٍ، إنّهُم أصحابُ النبضِ الحقيقيّ فوقَ أرضٍ ضاعتْ في تعاريجِها الحقائِق.
منذُ مخطوطاتِ الفيلسوفِ الألمانيّ كارل ماركس (1818 ـ 1883) في عام 1844، مرورًا بكتابهِ الأشْهر "رأس المال" (دار التقدّم/ موسكو، 1867، ترجمه عام 1985 السوريّ الجولانيّ د. فهد كم نقش)، وليسَ بعيدًا عن صيحتِه، ومعهُ فيها الألمانيّ الآخَر، فريدريك إنجلز (1820 ـ 1895): "يا عمّال العالَم اتّحدوا"، أو كما في ترجمةٍ أخرى: "يا بروليتاريي كلّ بلادِ العالَم اتّحدوا" المأخوذةِ من نصِّ البيانِ الشيوعيّ في عام 1848، والمحفورةِ فوقَ قبرِ ماركس في ألمانيا. مرورًا بعدَ ذلِك بِتنظيرات لينين (1880 ـ 1924)، الرجلُ الروسيّ الذي حوّل أفكارِ ماركس وإنجلز إلى واقعٍ يمْشي على الأرضِ، فإن العمّال ظلّوا الشغلَ الشاغلَ للشيوعيةِ العالميةِ في حُلّتِها المراكسيةِ وشُغلَ أولادِها من بعدِها: الاشتراكيةِ واليسارِ والبلشفيةِ والنهجِ الثوريّ، وكلّ مدلولٍ يعيدُنا إلى هُناك.
ولكن هل الانتصارُ للعمّال حكرٌ على هؤلاء؟ طبعًا لا. العملُ مباركٌ في الأديانِ جميعِها، وعلى امتدادِ عمرِ البشريّة المكتوبِ والمؤطّر في مدنٍ وتجمّعاتٍ وطبقاتٍ ومساعي رزقٍ وأحلامِ رفاهٍ وتطلّعاتِ نُهوض.
العامِلُ ينتصرُ لنفسِه، أو يقعُ على نفسِه. لا خياراتَ كثيرةٍ أمامَه، فالعجلةُ تدُور، والطاحونةُ تطْحن، والرأسماليةُ قذرةٌ لا دينَ لَها ولا عُهود.



صكوكُ النضالِ الطّويل

تظاهرة احتفالية في عيد العمال العالمي 


النّضالُ الطويلُ المريرُ الذي خاضهُ عمّالُ التاريخِ المُمتد. أنّةُ التعبِ التي كتَمها عاملٌ يضعُ صخرةً أُخرى من صخورِ الأهرامات. زفرةُ الأسى الثاويةِ في أعماقِ عاملٍ يكنّس في كلِّ مرّةٍ وسخَ التسليةِ الرومانيةِ الملوّثة بالدمِ: دمِ البشرِ والكواسرِ في آنٍ معًا، لِيُعيدَ ساحةَ النّزال ومنصّةَ القيْصر المبتهجِ بِمشهدِ الجريمَةِ ومقاعدَ المتفرّجينَ الغرائزيينَ لِجاهزيّتها جميعِها. غضبُ العبيدِ الذين اقتيدوا من أفريقيا وأربعِ جهاتِ الأرض، ليزرعوا خيرَ غيرِهم، ويحصدوا موتَ إنسانيّتهم. ضرباتُ الهيلا في كلِّ حدْبٍ وكلِّ صوْب. صرخاتُ الانفجارِ أخيرًا. كلُّ هذا وذاك، وبعدَ ما ذُرِفَ من دمٍ في ميدانِ هايماركت بشيكاغو في عام 1886، جعلَ العمّالَ على مدار كلّ القرونِ الماضيةِ، ينتزعونَ لأنفسِهم حقوقًا صارتْ مع الأيامِ صكوك غفرانِهم ومجدَ قيامتِهم.
وها هو الحقُّ في العملِ يصبحُ، بدايةً، من أوّل الحقوقِ التي أقرّها "العهدُ الدوليّ الخاصّ بالحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيّة". أمّا الغريبُ في الأمرِ فإن هذا الحقَّ، على أهميتِه البالغة، لا يحظى داخلَ بنودِ العهدِ إلّا بتفصيلاتٍ محدودةٍ نسبيًّا.



وماذا بخصوصِ التمييزِ الذي قدْ يشوبُ الحقَّ في العمَل، وهُوَ ما لمْ يُعالج إلّا في صكوكٍ دوليةٍ قليلةٍ، من بينِها اتفاقيةُ منظمةِ العملِ الدوليّةِ رقم 122 في شأنِ سياسةِ العمالةِ التي اُعْتمدت عام 1964.
قدْ يكونُ من أسبابِ هذا التّجاهل تردّد الرأسماليةِ العالميّةِ في تناولِ موضوعِ العملِ باعتبارِهِ حقًّا ينبغي لكل إنسان أنْ يتمتّع بِه. وهُنالك مشكلة أُخرى تتعلّق بِفهم معْنى العملِ نفسِه؛ فَما هُو العَمل؟ هَل هُو مقصورٌ على العملِ المأْجور؟ هل يشملُ أنشطةَ من يقومونَ بالعملِ لِحساب أنفسِهم، والأنشطةَ الاقتصاديةَ لِفئات السّكان الأصْليين؟
تكفلُ المادةُ 23 من الإعلانِ العالميّ لحقوقِ الإنسانِ لكلِّ شخصٍ "الحقَّ في العملِ، وَفي حريةِ اختيارِهِ، وَفي شروطِ عملٍ عادلةٍ ومُرْضية، وَفي الحمايةِ مِن البَطالة".
وهُو ما تنصُّ عليه كثيرٌ مِن موادِّ العهدِ الدوليّ المشارِ إليهِ أعْلاه، وَما نَرى الميثاقَ الاجتماعيَّ الأوروبيَّ يتطابقُ معهُ، بلْ ويفصّل فيهِ أكثرَ، متطرّقًا إلى أعْلى مستوياتِ العملِ المستقرِّ، ومتناولًا سبلَ حمايةِ العمّال، وحِمايةِ كسبِ معيشتِهم من خلالِ العملِ الذي يختارونهُ بحريّة. الميثاقُ الأوروبيُّ يتحدّث، إلى ذلِك، عن رفاهيتِهم، وعن إنشاءِ خدماتِ عملٍ مجّانيّةٍ لهُم، ومنحهِم الحقَّ بالتدريبِ والتعلّم وتطويرِ مهاراتِهم وقدراتِهم.
من دونَ أن ننسى، طبعًا، صكوكًا أُخرى انتزعَها عمّالُ الكوكبِ، وتتعلّق بساعاتِ العملِ، وإجازاتِهِ، وعدالةِ توزيعِ الأجرِ فيهِ، والحدودِ الدُّنيا لِلأجور، وما يتطلّبه أيُّ عملٍ من رعايةٍ صحيّةٍ، وطبابةٍ إنقاذيّة، وصونَ كرامةٍ، وحقّ تظاهرٍ وإضرابٍ، وتأسيسَ نقاباتٍ، وتأمينَ استقلاليةِ تلكَ النّقابات، وعدمِ مشاركةِ أربابِ العملِ فيها. وكَذا حقوقَ النساءِ العاملاتِ، وما يتعلّق بهنّ من إجازاتِ أمومةٍ، وعدمِ تحرّشٍ ولا إساءةٍ، ولا تعارضَ مع طبيعتهنّ، وَما إلى ذلك. وهيَ صكوكٌ شملتْ، أيضًا، عمالةَ الأطفالِ، والعمالَ المهاجرينَ والموسميينَ، وكلَّ تفصيلةٍ، تقريبًا، تتعلّقُ بالعملِ والعمّال.
فأينَ نحنُ من كلِّ هذا وَذاك؟ ونحنُ هُنا تعودُ على عالِمنا العربيِّ من جِهة، وعلى وضعِ العالَم أجمعِ، بعدَ كارثةِ كورونا في شقّها العمّاليِّ مِن جِهةٍ ثانِيَة.



شهورٌ عِجاف..

إحدى "جداريات ديترويت" الـ27 التي تصور عمال مصانع السيارات


شهورٌ صعبةٌ مرّت على ملايينِ عمّالِ العالَم. وهُم، عادةً، الأكثرُ تضرّرًا، والحلقةُ الأضْعف، فعندما عصفتْ أزمات اقتصادية في أوروبّا في العقديْن الماضيينِ، لأسبابٍ عديدةٍ، منها دخولُ أسواقٍ آسيويةٍ كُبرى على خطِّ الإنتاجِ العالميّ، وتراجعِ هوامشِ ربحِ كثيرٍ من الشركاتِ والمصانعِ الأوروبيةِ في فرنسا وغيرِها، فقدْ واجَهت تلك الشركاتُ الواقعَ الجديدَ بالجوْرِ على العمّال، والضغطِ على الهيئاتِ التشريعيةِ والتنفيذيةِ في بلدانهِم لتحجيمِ حقوقِهم، والنّيلِ من مكتسباتِ قرونِ الصبرِ والعَملِ والأَمَل، ما أدّى إلى احتجاجاتٍ عمّاليةٍ (فرنسيةٍ على وجْهِ الخُصوص) كُبرى وعاصفِةٍ (حركةُ الستراتِ الصفراءِ في عام 2018، ومَا سَبَقَها من احتجاجاتِ عامِ 2016، نماذِج)، تنذِرُ بصراعِ طبقاتٍ، أينَ منهُ صراعاتُ القرنَينِ الماضييْن.



أُغْلِقَ الكوكبُ في سياقِ مواجهةِ الجائِحة، فإِذا بعشراتِ آلافِ الوظائفِ تُفْقَد، وإذا بصلاةِ ملايينِ الغَلابا: أعطِنا خبزَنا كفافَ يومِنا. صارتْ الأمكنةُ بيوتَ عنْكبوت، واحبتسَ الناسُ داخلَ جدرانِ البيُوت. ليلُ الأَسى طويلٌ، جافى فيهِ النومُ جفونَ الأبِ الحيرانِ ماذا يُطعمُ الأولادَ عندما يفتحُ النّهارُ عينيهِ على اتساعهِما، فنهارُ الأَسى، مثلَ ليلِه، طَويل.
لا أحدَ يعلمُ علمَ اليقينِ متى ينتهي الوباءُ المتربّصُ في مكامنِه. العمّال ينتظرونَ عودةَ الطواحينِ إلى دورانِها، فأنْ يُطحنونَ داخلَ مسنّناتِ صُلبِها وحجارةِ قسوتِها، خيرٌ ألفَ مرّةٍ من يدِ العجزِ وانعدامِ الحِيلة.



عيدُ العمّالِ في الشِّعرِ والأَغاني

سيد درويش (1892 ـ 1923)


ذاتَ وجعٍ عمّاليٍّ هتفَ بيرَم محمود بيرم التونسي (1893 ـ 1961)، وهو شاعرٌ مصريٌّ من أصولٍ تونسيّة:
"ليه أمشي حافي وأنا منبت مراكبكم
ليه فرشي عريان وأنا منجد مراتبكم
ليه بيتي خربان وأنـا نجار دوالبكم
هـيّ كده قسمتي الله يحاسبكم
ساكنين علالي العتب وأنا اللي بانيها
فارشين مفارش قصب ناسج حواشيها
قانيين سواقي ذهب وأنا اللي أدور فيها
يارب ما هـوش حسد لكن بعاتبكم
من الصباح للمسا والمطرقة فـي أيدي
صابر على دي الأسى حتى نهار عيدي
ابن السبيـل انكسى واسحب هرابيدي

***

تتعــروا مـن مشيتـي واخجـل أخاطبكم
ليه تهدموني وأنا اللـي عـزكم باني
أنا اللي فوق جسمكم قطني وكتاني
عيلتـي في يوم دفنتي ما لقتشي أكفاني
حتى الأسية وأنا راحل وسايبكم".

فأيُّ عتبٍ أوجعُ من هذا العتَب يا (هَوى الأحْلام يا بيرَم)؟
الّلافت في قصيدةِ بيرَم المحكيّةِ هذه أنّ الفنانَ المصريَّ أشرف السركي لحّنها وغنّاها من دونَ أنْ يلتفتَ إليه أحد في مصر. وللسركي هذا حكايةٌ تُروى، فرغم أنه في نهاياتِ السبعينِ من عمرِه، ورغمَ أنه لحّن كثيرًا من قصائدِ الشاعر المصريّ، فؤاد حداد (1927 ـ 1985)، وأنتجَ معهُ أكثرَ من أُوبريت تمثَل علاماتٍ مضيئةً فى الغِناء والموسيقى المصريّة، من بينِها أوبريت سيد درويش، ومصطفى كامل، ومحمد عبيد، أحدُ أبطالِ الثورةِ العُرابية. ورغمَ أنّه ملحّنُ نشيدَ العلمِ المصريّ بصوتِ المجموعةِ من كلماتِ صَلاح جاهين (1930 ـ 1986)، إلا أنّه لمْ ينلْ حقّه من الرعايةِ وتسليطِ الضّوءِ على تجربتِه!
المرحلةُ الناصريّةُ من مصرِ الحديثةِ شهدتْ طوفانَ أَغاني للعمّال والفلاحينَ والطَّلبة، فتلكَ أغانٍ كانت تروقُ لِقيادةِ ثورةِ يوليو 1952. عبدالحليم حافظ كانَ عرّاب هذا النّوعِ من الأغاني، وقدّمَ في سياقِها ما يزيد على أصابعِ اليدِ الواحِدة: "نشيدُ العمّال" (خلّي تُكالك على مولاك)، و"بدلتي الزرقا"، التي يتغنّى فيها بالزيّ العماليّ الموحّد، و"حكاية شعب" (قلنا حنبني وادي إحنا بنينا السد العالي.. من أموالنا بإيد عمالنا)، وغيرَها.



الموسيقارُ محمّد عبدالوهاب، كبيرُهم الذي علّمهُم السِّحر، جَمَعَ عددًا من نجومِ الطّربِ في احتفاليةِ عيدِ الثّورة يوم 23 تموز/ يوليو 1961، أمامَ جمال عبدالناصر، وهتفَ وهَتفوا معَه للجيلِ الصّاعد. في أُوبريت "الجيلُ الصّاعد"، الذي شاركَ فيهِ غِناءً: وردة الجزائرية، وشادية، وعبدالحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وكانَ عبدُالوهاب مسكَ الخِتام. وغنّت فايزة أحمد في جزْئها من المَغناةِ للعامِل:
"عاش العامل يوم ما فكر يبني لبلده دار
فيها مداخن طالع منها لهب النور والنار
وسمعناه بيقولها قوية ده انتاجي وصنع ايديا
حققنا بعون الله للشعب دعاه ومناه
والخير زاد منا وفاض والفايض صدرناه
حيوا معايا قولوا معايا عاش العامل عاش".



درويش العُمّال والغَلابا..
من "الحلوة دي قامت تعجن في الصباحية"، التي يحثّ الصنايعيةِ فيها على العملِ، ويُلقي تحيةَ الصباحِ على الأُسطة عطية، مرورًا بـ"الشيّالين"، و"العربجية"، و"السقّايين"، و"شد الحزام"، التي يؤكد فيها أنَّ العملَ أشرفُ من التسوّل ومدّ الأيدي (إن كان شيل الحمول على ظهرك يكيدك أهون عليك يا حر من مدّت إيدك) وغيرِها.. وغيرِها، يتجلّى الفنانُ المصريُّ المؤسّسُ سيد درويش (1892 ـ 1923)، بوصفِه روحَ أَغاني العمّال، ولسانَ حالِهم، والمعبّرَ الوجدانيَّ الصادقَ غيرَ المرتبطِ بأجنداتٍ، عن تطلعاتهِم وأشجانِهم ومرارةَ أحوالِهم.



وَلواحدةٍ من أغاني العمّال التي غنّاها درويش "مقلتلكش إنه الكترة"، قصّةٌ تُروى، فَفي النصفِ الأولِ من عشرينياتِ القرنِ المُنصرم، ظهرتْ في مصرِ موجةٌ من الإضراباتِ على نطاقٍ واسعٍ شاركَ فيها عمالُ الترَام والسِّكك الحديديّة وعمالُ شركةِ قَناة السّويس. تباينتْ ردودُ أفعالِ مختلفِ أطيافِ المجتمعِ المصريّ إزاءَ هذا الحدثِ غيرِ المعْهود. الشاعرُ أحمد شوقي (1870 ـ 1932) اختارَ الوقوفَ إلى جانبِ السُّلطة، ونشرَ قصيدةً متعاليةً تلومُ العمّالَ وتحثّهم على العودةِ إلى العَمل، بينما كتبَ الشاعِرُ المصريُّ بديع خيري (1893 ـ 1966) قصيدةً أخذتْ موقفًا مخالفًا دعمَ فِيها العمّال وشجّعهم على المُطالبةِ بحقوقِهم. انتشرتْ هذه القصيدةُ وغنّاها سيّد درويش لِتصبح أحدَ أهمِّ ألحانِ الحركاتِ العمّالية. وقصيدةُ شوقي لا يذكرُها أحدٌ تقريبًا.



أغان وأغان
فريد الأطرش غنّى بدورِه للأسطى، ولكن هذهِ المرّة لـ"الأُسطى سيّد"، وليسَ عطيّة. الفنان الشعبي المصري محمد طه قدّمَ موّالَ "العاملين". "عُمّال ولادنا والجدود" كلمات الشاعر المصري الشعبي فؤاد قاعود (1936 ـ 2006)، وألحان سيد مكاوي، وغناء المجموعة. الفنانُ المصريّ المشاكسُ والمعارضُ، الشيخُ إمام، غنّى من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم عددًا من الأغاني الطالعة من روحِ العمّال، أو تَحكي عنهُم، أو تتلمّسُ عالَمهم، منها: "شيّد قصورَك عالمزارع من كدّنا وعمل إيدينا"، و"يعيش أهل بلدي"، و"دلي الشيكارة.. جنب الشيكارة.. واقعد يا حُفني ولع لك سيجارة"؛ وفيها يحْكي نجْم على لسانِ عاملِ بِناءٍ كيفَ يبذلُ الجهدَ والتعبَ "وسط المعاول.. بنا ومناول"، لكنّ صاحبَ العمَل "المقاول" يأكلُ حقَّه: "بس المقاول كلني بشطارة"، لِتنتهي القصةُ بِعبارة: "والعيشة مرة آخر مرارة". "يا غربة روحي" عن العمّال الذي تضطرّهم الظروفُ لِتركِ أوطانِهم والبحثِ عن لقمةِ العيش في بلادِ الغُرْبة.
فيروز غنّت لِصبحي الجيز، الذي يتبيّن في سياقِ كلماتِ الأغنيةِ أنّه عاملُ نظافة. الفنانُ اللبنانيُّ مارسيل خليفة غنّى لـ"الشوفيرية". صباح (1927 ـ 2014) غنّت لِبائعةِ التّوت "عالضيعة يمّه عالضيعة ودّينا وبلاها البيعة/ جينا نبيع كبوش التوت ضيّعنا القلب ابّيروت". المطربُ المصريّ محمد رشدي (1928 ـ 2005) هتفَ ذاتَ أغنيةٍ "إحنا العمّال". الفنانة ليلى مراد (1918 ـ 1995) غنّت "دور يا موتور". الفنان المصري عبد العزيز محمود (1914 ـ 1991) غنّى "مليون سلام" يُحيي فِيها مؤلّفُها علي السوهاجي الذين يستبدلونَ الخوفَ بِالأملِ والنومَ بِالعملِ ويكسّرون بَطْنَ الجَبَل. فرقةُ "ناس الغيوان" المغربيّة غنّت "تِبني وتعلّي".
بعرقِ عمّالنا أيها الثريّ، أيّها المقاوِل، بِأيدينا نرفعُ الأسوارَ بيْننا وبيْنك أيّها الإقطاعيّ، لِتنامَ بِرَغَدٍ خلفَ جدرانكَ العالِية.
عمومًا، فإنّ إحصاءَ أغاني العمّال يحتاجُ جهدًا موسوعيًّا ضخمًا، ليسَ هُنا مَكانه.



سينَما العمّالِ والمَصانِع

من فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن 


في السينما عشراتُ الأفلامِ التي تتناولُ موضوعًا من موضوعات العمّال، أو تخوضُ دقائقُها جميعُها في قصصهِم، أو تلتقطُ تفاصيلَ أجوائِهم. من تلكَ الأفلامِ، فيلمُ "العامِل" (1943)، من إخراجُ أحمد كامل مرسي، وبطولةُ حسين صدقي، وفاطمة رشدي. مَع بِدايةِ عرضِهِ، أمرَ الملكُ فارُوق وزيرَه فُؤاد سرّاج الدّين بوقفِ عرضِه مِن دورِ السّينما، وَلَم يُسْتأنَف عرضُه إلا بعدَ حَذْفِ مشاهِدَ مِنْه. فيلمُ "الورشة" (1940)، أيْ بعدَ 17 سنةً على عرضِ أولِ فيلمٍ مصريٍّ، وترتيبُه رقَم (117) في تاريخِ إنتاجِ الأفلامِ في مصرَ وعرضِها، وفقًا لِما ذكرَه المؤرّخ والنّاقد السينمائيّ المصريّ محمود قاسم في موسوعتِه المُهمَة "دليلُ الأفلامِ في القرنِ العِشرين"، هُوَ أوّل فيلمٍ يتطرّق لِقضايا عمّالية ويغوصُ في أجوائِهم.



في 19 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1944، قدّم يوسف وهبي (1898 ـ 1982) فيلمَ "ابنُ الحدّاد"، مِن تأليفِهِ وإخراجِهِ وبطولتِهِ، مَع مدِيحة يُسري، وفُؤاد شَفيق، وعلويَة جَميل. وَكعادةِ الرَائد المسرحيِّ الكبيرِ، يحتشدُ الفيلمُ بعباراتٍ ضخمةٍ تمتدحُ العاملَ المصريَّ ومهارتَهُ وصبرَهُ وتواضعَه.
أفلامٌ أُخرى كثيرةٌ مِنْها: "الأُسطى حسَن" (1952)، و"النّظارةُ السّوداء" (1963) لِحسام الدين مصطفى، وفيهِ يُدافعُ بطلُ الفيلمِ أحمد مظهر (1917 ـ 2002) عنْ حقوقِ العمّال، بوصفِه مهندسًا مثقفًا، ضدَّ جشعِ أصحابِ المصانعِ الذينَ حاوَلوا رشوتَه وإبعادَه عَن قَضايا العُمّال.
أخيرًا، وليسَ آخِرًا، فلا بدّ من تذكّر الفيلمِ المُذْهل للعبقريِّ شارلي شابلن، الذي حقّقه عام 1936 باسمِ "الأزمنة الحديثة". إذ يرى كثيرٌ من نقّاد ومؤرّخي السينما، أنّه واحدٌ مِن أفضلِ الأفلامِ التي لامَست بِعمقٍ مأزقَ العامِل في النظامِ الرأسماليّ، وكيفَ يتحوّلُ إلى مجردِ تَرسٍ في آلةٍ ضخمةٍ تعملُ فقَط مِن أجلِ زيادةِ أرباحِ صاحبِ المَصنَع. يقولُ النّاقدُ السينمائيُّ ناصر عراق: "رُغمَ خفَة الظلِّ الطّاغية التي امتازَ بِها هذا الفيلمُ البَدِيع، إلّا أنّك ستشعُر بالحُزنِ على حالِ العمّالِ الذينَ يمارسونَ عملهَم بكلِّ جديّةٍ، لكنّهم لا يتقاضونَ مِن المالِ إلّا أقلَّ القَليل".
قائمةُ أفلامِ العمّال والمصانعِ لا تتوقّف عندَ ما ذُكِرَ أعْلاه، وَفيها أشرطةٌ سينمائيةٌ عربيةٌ وأجنبيةٌ وهوليووديةٌ لها أوّل وليسَ لَها آخِر. وهي بِالمئات في مختلفِ البلادِ والجِهات.



العمّال في الوعيِ والوِجدان..
يتداولُ الناسُ حديثًا للرسولِ الكريم محمد يقول (أعطِ الأجيرَ أجرَه قبلَ أن يجفّ عرقَه)، إلا أنّ علماءَ الحديثِ يضعّفونه، ويقترحونَ تداولَ الحديثِ الأصحِّ في رأيهِم: "ثلاثةٌ أنا خصمُهم يومَ القِيامة، ومن كنتُ خصمُه خصمْته، رجلٌ أعْطى بِي ثمّ غدَر، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكلَ ثمنَه، ورجلٌ استأجرَ أجيرًا فاسْتوفى مِنه ولم يعطِهِ أجرَه".
منَ القِصصِ التي كانت أمّي (لروحها السلام) تردّدها على مسامِعنا كثيرًا: أنّ رجلًا أرادَ أنْ يعتمدَ ابنُهُ على نفسِه، فطلبَ منهُ أن يعملَ ولوْ بقليلٍ من القُروش. فصارَ الولدُ عندما يسْأله والدُه عن أجرتِه يعطيهِ عشْرة قروشٍ كانت تُعطيها لهُ أمُّه على أساسِ أنّها أجرةُ عملِه، فيقومُ الوالدُ بِرمْيها على الفورِ أمامَ برودةِ أعصابِ الولدِ وهو يرى العشرةَ قروشٍ يُلقى بِها بعيدًا. وهكذا دَواليْك ما كانَ يحدثُ كلّ يوْم، إلى أن جاءَ يومٌ وأخبرتهُ أمّه أنّ عليهِ هذه المرّة أنْ يذهبَ حقيقةً إلى العملِ، فقد نالَ من الدّلالِ ما نالَه. وفعلًا هذا ما حدَث، وفي المساءِ سألهُ والدُه أينَ إيرادُ اليوْم، فمدّ يدَه بالمبلغِ لوالدِه، وعندما همّ الوالدِ برميه كَما هُو حالُ كلِّ يوْم، هجمَ عليه الولدُ وتشبّث بيديّ والدِه لا يريدُه أنْ يطوّح بالعشرةِ قروش. فقال له الوالدُ (عليّ الطّلاق أنّها أوّل عشرةِ قروشٍ تجْنيها من عرقِ جبينِك).
عزيزةٌ هِيَ الدّنانيرُ التي يحصلُ عليْها الإنسانُ من كدِّهِ وتعبِه وسرْوةِ صباحِه.
وفي الحِكَمِ والأمثالِ يقُولون: "غبارُ العملِ ولا زعفرانُ البَطالة". ويَقولون: "أجّلْ طعامَك إلى الغدِ، ولا تؤجّل عملَك". "القمحُ والعملُ الصّالحُ لا ينبتانِ إلّا في أرضٍ طيّبة". "إذا أردتَ أن تسقطَ التّفاحة هزَّ الشَجرة". "ليستُ الأرضُ عطشى لِدماءِ الأبطالِ، بلْ لِعرقِ الرِّجال".
أمّا الكاتبُ المصريّ الإشكاليّ فرج فودة (1945 ـ 1992) فَيقول: "إنّ المستقبلَ يصنعُه القلمُ لا السِّواك، والعملُ لا الاعْتزال، والعقلُ لا الدّروشة، والمنطقُ لا الرّصاص".
يسوعُ المسيحُ الذي كانَ نجّارًا قويَّ البُنْيةِ، صلبَ العزيمةِ، يُحِبّ الحياةَ، ويحضُ على التسامُحِ (الخدُّ الأيمنِ والأيسَر)، ظلَّ حتى لحظاتِهِ الأخيرةِ يواصلُ العملَ غيرَ ملتفتٍ لِلمكائدِ، ولا متوقّفٍ عندَ مُرجفين، أوْ مُطْلِقي شائِعات.
وكأنّي بِشعوبِنا جميعِها تصرخُ بصوتٍ واحِد: "لَن نَبقى عاطلينَ عن العَمَل وسنواصلُ تربيةَ الأَمَل".