Print
وداد نبي

الألفة في الأشياء المصنوعة يدويًا

17 أغسطس 2021
إناسة
داخل كهف، وسط جبال هارتس في ألمانيا، تم اكتشاف قطع صغيرة من عظام غزال مزخرفة بشكل فني عمرها أكثر من 51 ألف عام، وتعود لعصر إنسان النياندرتال. هذا الاكتشاف أكد، أكثر من أي وقت سابق، أن الإنسان القديم (وخاصة النياندرتال) كان يعبّر أيضًا من خلال الفن اليدوي عن ذاته رمزيًا رغم بدائية الأدوات. ورغم أن النقوشات تختلف من قطعة أثرية لأخرى، وذلك باختلاف الشخص الذي قام بنحت تلك القطعة الفنية، حيث بإمكاننا قراءة كل قطعة كإرث فردي خاص، لكن اليوم، وسواء كنت في برلين، أو طوكيو، نيويورك، السويد، دمشق، برشلونة، سويسرا، القاهرة، ستلاحظ تضاؤل اللمسة الإنسانية الفردية لصالح قوالب تصنيع عالمية واحدة، نموذج عالمي يكاد يكون موحدًا لنمط العيش، فقسم كبير من المنازل الحديثة اليوم تتشابه في ديكورها: الأثاث والمطابخ وأدوات المائدة... معظمها من تصميم شركة المفروشات الشهيرة (إيكيا) وغيرها من شركات تصنيع المفروشات التي تعتمد نموذجًا موحدًا. تشعر أن هناك آلة واحدة صمّمت لهذا العالم نموذجًا للعيش، للثياب، للمنازل، للسياحة، للتفكير، فخسرنا تلك الحميمية والخصوصية التي نصمّم بها بيوتنا وخسرنا أكثر تفرّدنا، قلّة هي البيوت التي أشعر فيها كزائرة بالحميمية، حيث تجد فيها شيئًا مصنوعا يدويًا، شيئًا خاصًا، غير موجود إلا في ذلك البيت.

المصنوعات اليدوية مثل الخرز التي وجدت في أفريقيا ويرجع تاريخها لحوالي سبعين ألف سنة، تؤكد أن الأشياء المصنوعة يدويًا تدل على حملها قيمة وجودية، إضافة للحاجة البشرية التي كانت السبب وراء تلك المصنوعات.  فالمصنوع اليدوي يحمل دلالات ثقافية ومعتقدات ورغبات وربما أحلام صانعيه.

في أحد الأفلام الوثائقية عن تاريخ الإنسان، يمسك أحد علماء الآثار قطعة فخار حمراء اللون مصنوعة على شكل وعاء وعليها بقايا آثار حفر يدوي، زخارف، يتأملها بدهشة، تثير مخيلته فكرة وجود يد بشرية مسكت الطين قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، تلك اليد التي حوّلت التراب إلى طين، ومن ثم حولته لهذا الشكل، فكرة لمسة يد بشرية قديمة، تلك المخيلة القديمة، هي التي تحرّك مخيلة عالم الآثار ومخيلتنا، إدراكنا أن لمساتنا لا تموت ولا تفنى بانحلال عظامنا وإنما تعيش تلك اللمسة وما تحمله من أفكار عمرًا أطول منّا بكثير.

عظام غزال مزخرفة بشكل فني عمرها أكثر من 51 ألف عام، وتعود لعصر إنسان النياندرتال 


فالأشياء المصنوعة يدويًا تعتبر بشكل ما، قطعة فنية، بذل فيها صانعها الكثير من الوقت والجهد والتفكير والحميمية، فالتصقت بها قطرات عرقه، وربما دموعه والكيفية التي كان ينظر بها للعالم قبل قرون طويلة. حتى الخطأ الذي تحتويه القطعة المصنوعة يدويًا يشي بالطبيعة الشخصية لصانعها، كأنه الجزء الأكثر دلالة على الفن. وهو تحديدًا ما لا يستطيع النمط العالمي الحديث تقديمه، فيتم تدوير كل شيء من خلال الآلات دون أي أثر لنا نحن البشر. حين تتمشى في الريف الألماني أو الأوروبي، تجد أن معظم الحدائق مصمّمة على نمط واحد، ليس هناك مجال لتنمو عشبة برية غريبة، أحواض الزهور مرتبة ومنسقة بنفس الطريقة لدى الجميع، نوع الأشجار، كل شيء مصمم مسبقًا، لا أثر فيها لأي خصوصية أو دلالة لطبيعة صاحب البيت. في بيتي في برلين، صحن فخار مغربي ملون منقوش بزخارف يدوية ساحرة، هذا الصحن يحتل مكانًا حميميا في قلبي/ لأنني أستطيع تخيل حكاية اليد التي صنعته، ربما كان صاحبها يعيش في مدينة مغربية صغيرة على البحر، يذهب في الصباح الباكر لورشة العمل، ينتبه لزرقة البحر، فيستخدمه في تلوين الفخار أكثر.  في مدينة ألمانية صغيرة تدعى راينسبيرغ، هناك ورشة كبيرة للفخار المصنوع يدويًا، تشتهر المدينة بها، فهناك لا يزال أصحاب الورشة وعمالها يفتخرون بأنهم لا زالوا يصنعون الأشياء يدويًا، تلمس أيديهم قطع الصحون والأواني، شمعدانات، ولذلك تباع بأضعاف السعر الذي تباع به القطع المشابهة المصنوعة من خلال المعامل والآلات. فهم يضيفون لسعر المواد الأولية قيمة اليد أو اللمسة البشرية التي تساهم بإنجاز القطعة النهائية.

في غرفة مكتبي الآن، إطار زجاجي داخله قطعة قماش مطرزة يدويًا، برسومات ملونة جميلة، يعود عمرها لأكثر من 52 عامًا، طرزتها والدتي حين كانت لا تزال طفلة في بيت عائلتها. تنقّلت هذه الرسمة معها في كلّ الأماكن والبيوت التي سكنتها، كانت حوافها تتآكل مثل حياتها، فيما الطيور والزهور ولمعة الحبّ لم تستطع النمو في تلك الأزمنة الصعبة بمنازلها العديدة، كأنها بقيت مجرد رسم احتفظت بها مخيلتها حين كانت طفلة على شكل قماشٍ أبيض مطرّزٍ بالألوان. أخذتُها منها كإرثٍ قبل مغادرتي حلب وفي النهاية وبعد رحلةٍ طويلة وصلت إلى بيتي في برلين.

منذ فترة حاولتُ شراء بروازٍ مناسبٍ لها، أردتُ أن أُخلّد لحظة السعادة أو الحب التي عاشتها أمي في ذلك الزمن البعيد، وخلدتها بيديها من خلال تلك القطعة... لكن حين وصلتُ البيت أدركتُ أنّ المقاسات خاطئة، فاضطررت لثني حواف القماش والتطريزات لتناسب مقاس البرواز..

فعلت ذلك، بتقليدٍ مكّرّر، كما نفعلُ حين نجدُ بغتةً أنّ شيئًا ما لا يناسب حياتنا، فنكسر أنفسَنا ونطويها ونتلفها لنناسب الإطار الذي وجدنا حياتنا فيه بمحضِ مصادفة بيولوجية لا أكثر. وربما يبقى الفن أكثر أشيائنا التي نتركها وراءنا أهمية بعد مخاضات الولادة.