Print
وارد بدر السالم

قُـرْبُص.. سرديات البلدة من عيون الجبال

20 يناير 2022
أمكنة



الرواية المحلية القائلة بأن تسمية "قُرْبُص" جاءت من اسم رحالة فرنسي اسمه "كاربس" كمكتشف للمكان، ليس لها رصيد في المدونات التاريخية المعاصرة، ولا يتداولها البحارة والصيادون القدامى والنوتيّون المرابطون في خليج تونس، من الذين شهدوا سنوات الاستعمار الفرنسي وعاشوه؛ فعُدّت من شفاهيات الروايات غير الموثوقة التي يرددها البعض ممن ترسخت فيهم هذه المعلومة من دون دراية أكيدة؛ باعتبار أنّ للمكان أقدميته الفينيقية، التي سبقت الاستعمار الفرنسي بعقود زمنية طويلة. بينما ذهب بعض المؤرخين إلى أن يكون أصل التسمية تحريفًا لاسم جزيرة قبرص اليونانية، غير أنّ مؤرخين آخرين أوحوا بمرجعية تاريخية تعود إلى العصر الروماني وأعمدته التاريخية المسماة "كاربيس" Carpis. والروايتان الأخيرتان هما اللتان تترددان في المدونات التاريخية على الأغلب الأعم من دون أفضلية إحداهما على الأخرى.

عومل هذا المكان (الذي يبعد 60 كيلومترًا عن العاصمة تونس) كقرية منعزلة بين الجبال، تمتاز بعيون الماء المعدنية الساخنة التي تجري من جبالها وتصب في البحر أمامها. بينما ثمة في واقع الحال ما يشير إلى مدينيتها النسبية، التي جعلتها مسرحًا سياحيًا على مدار السنة لقاصدي الطبيعة الساحرة، والبحر، والجبال، والشفاء من أمراض الجلديات والمفاصل والروماتيزم. وبالتالي فهي قرية شفاء ودواء في سردياتها السياحية، ومدينة صغيرة في حجم جبل يعلو على البحر ويصبّ عيونه الساخنة في ينابيعها المتدفقة.

ولا يهم أن تكون "قُرْبُص" مدينةً أو قرية، لكنها قد تجمع الاثنين لتكون (بلدة) وهذا ليس ما يحدد وجودها وأهميتها، فالمسميات الإدارية أحيانًا لا تكون مناسبة ومالئة للأمكنة الفريدة في تكوينها الجغرافي وموقعها السياحي، مهما صغُرت مساحتها، لا سيما حين يُطلق عليها وصف (السياحي) كوصف واقعي لها، شكّلته الطبيعة منذ آلاف السنوات، قبل أن يتدخل الإنسان بوضع إكسسوارات سياحية وديكورات جاذبة، وأحواض خاصة للتطبيب والاستشفاء والنقاهة؛ تمهيدًا ليكون المكان موازيًا لجمالياته وفوائده النفسية والصحية لاستقطاب الآخر. فالقرية التي تشغل مساحة صغيرة من الأرض بتجمعاتها السكانية الصغيرة واختلاطها البشري المعروف، ستبدو هامشًا في المدينة الحضرية الكبيرة، التي تهتم بالتجارة والصناعة والثقافة، واستهلاك الناتج الزراعي الذي تصدّره القرية.

وإذا كانت المدن- تاريخيًا- قد ظهرت في العصر الحجري الحديث، فإن القرى الزراعية الصغيرة استجابت للظهور البشري بعد ذلك العصر مستفيدة من مكونات الطبيعة وعزلتها الصخرية والجبلية والنهرية والبحرية والسهلية، لتبدأ كينونتها الأولى في مشوارها الطويل مع تطور الحياة، وتُنشئ علاقتها الزمنية والمكانية معها بشكل طبيعي.





وهكذا هي قُربُص، التونسية الجبلية المنعزلة والتي يمكن أن تكون بلدة، خلافًا للتقسيمات الإدارية المتعارف عليها في تخطيط المدن، لتخرج من هامشيتها الجغرافية الضيقة وتستقل بشكل سياحي صريح، كموقع للعيون الساخنة التي تجري من الجبال وتصب في البحر الأبيض المتوسط، وتبقى محتفظة بقرويتها وريفيتها الجبلية كمزية لها بين القرى والمدن والبلدات المتاخمة لها بوقوعها على خليج تونس، فبعض قياسات القرية تنطبق عليها (مساحتها 45 كيلومترًا مربعًا). وفي التوصيف الإداري فهي قرية تابعة إلى ولاية نابل الواقعة شمال شرقي البلاد ضمن ما يسمى الوطن القبلي، أو شبه جزيرة الرأس الطيب. وإن نفوسها تضاعفت الآن لتصل إلى أكثر من 6000 نسمة، وهذا العدد السكاني لا يشكل مدينة بالمفهوم الحضري، لكنها اكتسبت مدينيتها من موقعها وأهميتها الجبلية والاستشفائية، وفوائدها الصحية منذ العصر الفينيقي حتى اليوم، أما سِمتها الأخرى فهي بارتفاعها عن سطح البحر بأربعة أمتار لا غير، لذلك فبعض عيونها الساخنة ذات الأبخرة المرئية، تكون على مرأى من السياح، إذ تصبّ مباشرة في البحر. وتلك العيون المليئة بالأملاح المعدنيّة الاستشفائية أصبحت مقصدًا للمرضى الجلديين على وجه الخصوص.

هذه البلدة، وهي التسمية الأدق برأينا، توثق تقاليد القرية وتحرص على تراثها وبعض مخلفاته الشاخصة، أو القارّة في الذاكرة الشعبية، كما تتطلع إلى الانسجام مع الحاضر المديني، كونها (تحمل نوى الحداثة) ولأنها (جنين كامن في أحشاء القرية) ولكن ليس على حساب موروث القرية؛ لهذا فهي تقع بين القديم والحديث، وبالتالي فإن القرية (لا تموت، بل تتجدد في البلدة)، بوصف الناقد المكاني ياسين النصير. ومثل هذا الصراع الباطني، لنقل الظاهري أيضًا، هو ما يدعو إلى تبني مفهوم البلدة، بديلًا عن القرية أو المدينة التي تذكرها مدونات كثيرة بشأن قربص، الماثلة في حاضر السياحة. كونها المكان البحري الذي يطل على السياح على مدار التوقيتات الشتوية والربيعية والصيفية، وبسبب تمددها حتى رأس الرجاء الطيب، الذي ينفتح أمام البحر بذراعين كبيرين، لتكون بموازاة حداثتها الآخذة بالنمو الثقافي والمعرفي والصناعي من رصيد المدينة، من دون أن تفقد صلتها الحميمة بالموروث القروي، فعلى عكس المدن المستهلِكة، تبدو البلدات أكثر إنتاجًا في سياقاتها الزمنية المتعاقبة، وأكثر نقاءً من المدينة في المحافظة على إشهاراتها المحلية الريفية، فلم تخرج عن زمنيتها القديمة وبيئتها الراسخة، لذلك بقيت روحها قروية، متطلعة إلى التمدن الحضري من دون أن تتصدع مع الوقت المتناوب عليها. وهذا شأن الأرياف والقرى في كل مكان، في مقاومتها لضراوة المهيمنات الخارجية في الطبيعة وسواها. ومع أن السياح من مختلف الجنسيات والأجناس والبلدان، ومع تحضرهم الشخصي، إلا أنهم في هذا المكان يعودون إلى سياقات القرى والبلدات في بساطتها التي يفرضها المكان عبر علاماته الشخصية التي لم يفقدها بمرور الزمن.




تاريخية المكان القُربُصي

بالرغم من أنّ قربص توغل في تاريخية البلاد التونسية مع الفينيقيين والرومان الذين اكتشفوا أهميتها الصحية من خلال المياه الجبلية المعدنية وطبيعتها الساحرة الواقعة بين البحر والجبال الخضراء كمكان بعيد عن المدينة، إلا أن كثيرًا من المؤرخين لم يأتوا على ذكرها خلال فترة الفتح الإسلامي، في الزمنين الأموي والعباسي، ولا في الأزمان الأغالبيّة والصنهاجية والموحّدية، سوى ذكرها في زمن الدولة الحفصية إبان هجرة الأندلسيين المسلمين من إسبانيا، هربَا من محاكم التفتيش ذائعة الصيت السيء. لكن في عصر الدولة الحسينية/ بداية من القرن الثامن عشر/ باتت قربص قبلة بايات تونس، ومع تتالي الزمن بتقلباته الكثيرة، ومع الاستعمار الفرنسي الطويل لتونس صار الاهتمام بهذا المكان جليًا، ومن أبرز من أداره وعُرف به إدموند كاربونتيي "صهر العالم الفرنسي الشهير لويس باستور" عندما قدِم إلى تونس سنة 1888 للعمل الصحافي، ومن ثم تأسيس شركة استشفائية للمداواة بالمياه المعدنية.

هيكلية قربص

قربص طبيعة مستقلة ومنفردة. تشبه مكانًا صوفيًا معطرًا برائحة العشب والمطر والأزهار الجبلية والعصافير الصغيرة القليلة التي تتخاطر بين البحر والجبل. مكان يشجّع على العزلة والانفراد والتأمل وتطويع الذات وتطويرها. وربما يصلح لليوغويين المتأملين في طبيعة الخلق والكون والحياة والأولياء الروحانيين الذين يفضّلون العزلة، عندما تكون درجة الانسلاخ عن الواقع صفرًا مئويًا، في سبيل إقامة عالم موازٍ يسوده الجمال والحب والأمن والسلام.

قربص واحدة من الأمكنة المثالية جدًا للعزلة الطوعية التي تجتذب اللحظات الطويلة التي لا تقاوَم أمام مد الفراغ الأخضر، وهدوئه واستسلامه، كلحظات وجودية تكتنفها بروق من التأمل الخالي من شوائب المدينة والحياة الصاخبة، فالطبيعة بشكلها العام تعلمنا ما لم نعلم، وتضفي على حياتنا الكثير من وسائل الطمأنينة، النفسية والعقلية والصحية.

لهذا فإن الهيكلية التكوينية لهذا المكان المنعزل والمنفتح على الهواء الطلق، تتطلب معاينته إجراءات قرائية لشخصيته عبر الآتي:

أولًا: المكونات الداخلية للمكان

 أ: العيون

تنفرد هذه المدينة الزرقاء والخضراء من طرفيها الأمامي والخلفي/ البحر والجبال/ بسبع عيون معدنية، تنبع من الجبال المطلة عليها. وتنقذف في البحر القريب، كأنما تغذّيه بالمياه الساخنة. وتُعدُّ عين العتروس من أهمِّ العيون التي تجري منذ قرون طويلة ولا تتوقف عن الجريان؛ كونها تقع أسفل الجبال، وتقذف بمياهها إلى البحر مباشرة؛ وتبلغ درجة حرارتها الثابتة ما يقارب 59 درجة مئويّة. وقوة التدفق هي 39 لترًا في الثانية، وتحتوي على معادن مهمة، كالكالسيوم والكبريتات والبيكاربونات والمانيزيوم والصوديوم والكلوريدات والفلوريدات. تساعد على الشفاء من الروماتيزم، وأمراض النساء والأمراض الجلدية والأوردة والأوعية. لذلك صارت هي المكان الجزئي من مكان عام؛ مثلما هي قربص مكان صغير في ولاية نابل الأكبر، وهذا المكان يبدو صغيرًا في مكانٍ أعم وأشمل هو: تونس الدولة. وسنرى أن اقتطاع هذه الأمكنة تحتّمه ضرورات الفرز الميداني الذي يستقطب زوارًا كثيرين، بسبب أهميته الطبية والموقعية المطلة على البحر التونسي الشاسع. كما هي "عين فكرون" المتدفقة بالمياه الساخنة (37 درجة ثابتة) والأملاح المعدنية ومواصفاتها الاستشفائية المعتمدة من الكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والمياه الغنية بالكبريت وغيرها من المعادن المعالِجة لأمراض كثيرة.

ولو تتبعنا خريطة العيون الكبريتية الساخنة لوجدنا عيونًا أخرى، بالمواصفات الاستشفائية ذاتها منها: "عين الصبية" و"العين الكبيرة" و"عين الشفاء" إلا أنّ عين "كانسيرا" توجد في أحد الكهوف عند سفح الجبل شمال المدينة، مثلها مثل "عين القطر" الداخلة في كهف آخر. و"عين العرّاقة" بشكل حمّام مائي التي اكتشفها الرومان منذ القدم. وكلها أمكنة وإن تشابهت في معطياتها الطبية، إلا أن لها ألوانًا مكانية شجرية يقتسمها الجبل الأخضر والبحر الأزرق وأصوات شلالات وأبخرة ساخنة وعطاء طبي على مدار اليوم والساعة.

ومثل هذه الميزات الاستشفائية التي تركتها الطبيعة في مكان منعزل تقريبًا، اكتشفه قبل هذا التاريخ المعاصر الفينيقيون الذين قدِموا من صور وصيدا إلى شرق المتوسط. لهذا كانت الحمامات البخارية علامة فينيقية، مستفيدة مما جادت الطبيعة به من عيون وسخونة وجبال وأعشاب طبية في صيدلية الطبيعة المتاحة والمشاعة، والطين صحي، والبحر غامق الزرقة. ولا شك في أن الرومان الذين احتلوا قرطاج وأسقطوا إمبراطوريتهم في ذلك الزمن البعيد، كان لزامًا عليهم أن يمسكوا قربص كمكان ذي خصائص طبية وعلاجية. وهذا ما سنجده مع الوقت بتغير السلالات الحاكمة، حتى تونس المستقلة الحديثة.

ب: خدمات أخرى من فنادق ومطاعم ومواصلات. كلها تؤكد صلاحية المكان للمكوث فيه، والعودة إليه، طالما ظل محتفظًا بعلاماته الشخصية وقرويته الباذخة.





ثانيًا: المكونات الخارجية للمكان

أ: الجبال

السلسلة الخضراء المطلة على قربص تسمى بـ جبل قُرْبُص. بارتفاع 378 مترًا. هي التي تضم العيون العلاجية بامتدادها الطويل. بما تشكله من أشجار وأطيار ونباتات وأعشاب، لتصبح القرية القربصية في قعر المكان، وتصبح الجبال بما يشبه تاجها المخضر المرتفع إلى السماء. وهذه السمة المميزة جعلتها مزارًا ترويحيًا للقادمين من خارجها، لا سيما السياح الذين يبحثون عن نقاء الهواء والطبيعة وأشجارها وغاباتها الخضراء.

ب: الغابات

غابة قربص هي إنتاج الجبال كثيرة الأشجار والتي كانت في العصر الروماني منتجعًا صحيًا. حتى أنه يمكن القول إن قربص التي تقع في وادٍ عميق ذات مناخ صيفي رطب غير طويل، وبارد عاصف شتاءً. وهذا يشجع على التنزه ورؤية الطبيعة المشتبكة بجمالها، بشجيرات إكليل الجبل والزعتر والزيتون، حتى الانعطاف الذي يؤدي إلى جزيرة روبنسون كروزو؛ بما يشجع على التخييم والمشي الاستكشافي، والصيد البحري لأسماك الوارطة والحبّار والأخطبوط.

ج: البراطل

المعالم الواضحة بتلوين المدينة باللونين الأكحل والأبيض، إضافة إلى أقواسها اللافتة كمعْلم من معالم المعمار، والتي يسمونها البراطل المبنية على الطراز القربصي القديم بأقواسها البيضاء التي يخالطها السواد، على عكس المدن البحرية الأخرى التي يطغى عليها الأزرق الصارخ مع الأبيض اللامع.

د: كنيسة مهدمة الأركان، والتي لم يبق منها غير قبو ومدرج متآكل، وكانت سابقًا قِبلة للفرنسيين والإيطاليين. وواضح أنها كنيسة مهجورة من زمنٍ غير قصير، وأن إعمارها يتطلب جهدًا شعبيًا وبلديًا متكافلين.

هـ: سيدي عمارة: مكان جزئي. مرقد أو ضريح أو خطوة لولي متصوف زاهد. يقال إنه كان ينتقل بحرًا إلى قرية سيدي بو سعيد ورأس قرطاج، لملاقاة الولي المعروف سيدي أبي سعيد الباجي، عند مكان يسمى "كرسي الصلاح". ويقام لسيدي عمارة مهرجان يسمى مهرجان خرجة سيدي عمارة، يتم فيه الإنشاد الصوفي والمدائح النبوية. وهذه رواية شفاهية غير مؤكدة عن شخص سيدي عمارة، لكن التوارث الشفاهي القروي يردد هذه القصة من دون أدلة كافية على أنه الولي المذكور.

إحالات وهوامش:

- بعض المعلومات المدوّنة شفاهية من قُربصيين قدامى، عاشوا المكان وتشرّبوا به. بينما كانت بعض المعلومات الموثقة من بحوث لجمعية صيانة مدينة قربص والمحافظة على التراث، التي أسست لها رسميًا موقعًا في الفيسبوك.. أما بقية المعلومات التاريخية الثابتة فهي من "ويكيبيديا- الموسوعة الحرة".
- الدولة الحسينية: سلالة من البايات حكمت في إيالة تونس، ومؤسس السلالة الحسين بن علي. - الدولة الحفصية: مؤسسها هو أبو زكرياء يحيى الحفصي بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنناتي.
- الدولة الصنهاجية: لما انتقل الفاطميون إلى مصر ولوا على إفريقية أميرا من أصل أمازيغي يدعى بلكين بن زيري بن مناذ الصنهاجي. استطاع بلكين القضاء على الفتن والثورات القبائلية المجاورة على حدود البلاد مما مكنه من تعزيز حكمه والاحتفاظ بالأراضي الشاسعة التي ورثها عن الفاطميين.
- الأغالبة: سلالة عربية حكمت في إقليم إفريقية بالمغرب العربي مع جنوب إيطاليا وصقلية وسردانية وقرشقة ومالطة.
- الدولة الموحدية‎: أسسها الموحدون من سلالة الأمازيغ في القرن الثاني عشر.
- فينيقيا: تعني "البلد الأرجواني". كانت حضارة سامية قديمة نشأت في شرق البحر الأبيض المتوسط وغرب الهلال الخصيب قبل 2500 عام قبل الميلاد.
- "شحنات المكان" ياسين النصير- وزارة الثقافة والفنون والتراث- قطر – 2010.