كتبنا سابقًا عن عادات الولادة والزواج عند يهود العالم العربي، وقد تبيّن كيف امتزجت الممارسات فيهما إلى حد كبير بعالم الخرافة، وبالخوف من السحر والجن والعفاريت. وحين ننتقل للحديث عن الموت وعاداته، وهو ثالث ثلاثية الولادة والزواج والموت التي تقوم عليها دورة الحياة، فإنه يمكننا القول إن عادات الموت والجنائز لم تكن ممتزجة بعالم الخرافة فحسب، بل هي غارقة فيه.
ولعل الملاحظة الأبرز هنا هي أننا لن نجد اختلافات كبيرة بين يهود العالم العربي وغيرهم من اليهود في ما يتعلق بالموت والجنائز من عادات، إلا بقدر انتشار الجهل، واختلاف المعارف والمستوى الثقافي.
وترتبط أغلب عادات الموت والجنائز بالموروث الديني التلمودي على وجه الخصوص، وهو موروث لا يخلو من خرافات تضاف إلى ما توارثه اليهود من خارج إطار الكتب الدينية، ومن البيئات التي عاشوا فيها. ويتعامل هذا الموروث مع الشخص حينما يكون مشرفًا على الموت، ومع جثمانه عند تطهيره بعد الموت، وعند الدفن، كما يتعامل أيضًا مع المقابر ومواصفاتها وزيارتها.
الاستعداد للموت... وتطهير الميت ودفنه
لليهود المغاربة حكمة تقول "الموت نعمة حينما يكون بين أفراد العائلة". ترتبط هذه المقولة بتقليد معقد يمارسه يهود المشرق، وهو تقليد لا يحدث إلا حينما يحدث الموت في البيت، ويعد ضروريًا من أجل علاقة المحتضر بمن حوله، ومن أجل حياته الأبدية بعد الموت، والاستيعاب في العالم الآخر. في هذا التقليد يقوم المحتضر بالاستعداد للموت بغسل يديه، وارتداء شال الصلاة، وتلاوة اعتراف مكتوب في وجود "المنيان"، وهو "نصاب من عشرة رجال بالغين على الأقل من أبناء الطائفة، لا تصح كثير من الأحكام الشرعية إلا به". ويدنو أفراد العائلة من فراش ذلك الشخص المريض للحصول على البركة، وتوقد الشموع حول الغرفة لطرد الأرواح. وبمجرد حدوث الوفاة يفتح الأهل نوافذ الغرفة حتى تدخل الملائكة لحمل روح الميت وأخذها إلى العالم الآخر، ثم يقوم الأهل بتغطية وجه الميت، وإبقاء جثمانه لمدة ساعة من دون حراك. يضعون بعدها الجثمان على الأرض ويغطونه بالكامل، وتوضع قطعة من الخشب أسفل الرأس لتسندها، وتكون الأرجل مواجهة لباب الغرفة.
وعادة ما يعهد بغسل الميت وتطهيره لما يسميه التقليد اليهودي باسم "حِڤرا كاديشا": أي جماعة الدفن"، وهي مجموعة تقوم بهذا العمل تطوعًا، من دون تقاضي أي مقابل، أو هدايا، ولذلك يحظون بالتقدير بين أفراد الطائفة. غير أن بعض المجتمعات، كاليمن مثلًا، لم يكن فيها مثل هؤلاء المتخصصين، فكان يعهد به لأي فرد من أفراد الطائفة. ولا يقوم الكهنة بهذه المهمة مطلقًا، لأن اليهودية تعد جثمان الميت نجسًا، ومن ثم تحظر على الكهنة لمس جثمان الميت حتى يظلوا طاهرين.
وكان الميت يغسل في ثيابه، ثم يتبع ذلك طقس يسمى "أشكال العذاب الأربعة" (الرجم، الحرق، قطع الرأس، الخنق)، وفيه يقوم متعهدو الطقس بتنفيذ أربع عقوبات رمزية على الميت كي لا يتعرض لمثل هذا الألم عند باب الجنة؛ فيرجم جسد الميت بثلاث حصوات صغيرة، أو سبع، وتمرر شمعة على ظهره، أو أظافره، تمثيلًا للحرق، ويمرر سكين على المتوفى تمثيلًا لقطع الرأس، ثم توضع ملاءة حول رقبته تمثيلًا للخنق. وفي أثناء محاكاة هذه العقوبات الأربع يقوم الحضور من أبناء الطائفة بالدعاء، ومديح الميت، من دون أن يلفظوا اسم الرب "يهوه"، ويستخدمون بدلًا من هذا الاسم كلمة "ها شيم"، وتعني الاسم، وهي تشير إلى الرب. ثم يلف جسد المتوفى بكفن من قماش كتان أبيض سليم من أطرافه، تخيطه نساء من جماعة الدفن من دون ربطه بأي عُقد.
وفي المغرب، كانت خياطة الكفن طقسًا منفردًا، يصحبه الغناء والرقص، وينتهي بوليمة في جوّ من البهجة والسرور. أما في ليبيا فكانت زوجة المتوفى، في حال كونها حاملًا، تمرّ من تحت نعش زوجها الميت أمام جميع المعزين قبل أن يحمل إلى خارج البيت. وقبل الجنازة مباشرة يقوم أحد أفراد فريق تجهيز الميت بتمزيق الثياب الخارجية لأحد المشيعين، ويصاحب ذلك دعاء "مبارك أنت يا رب، يا من تعدل في حكمك". وما زال هذا الطقس يمارس إلى اليوم عند جميع اليهود.
ويلزم التلمود بالتعجيل بدفن الميت بأسرع ما يمكن، لكنه يمنع من الدفن في يوم السبت، أو في عيد الغفران تحديدًا. والأصل ألا يوضع الميت من اليهود في تابوت؛ حيث يجب أن يبقى الجثمان ملامسًا للأرض اتباعًا للنص التوراتي، تكوين 3: 19: "لأنك تراب، وإلى التراب تعود"، لكن على الرغم من هذه الوصية، فإن اليهود أحيانًا قد يضعون موتاهم في توابيت خشبية بسيطة، وحينها يضعون بعض التراب في قاع التابوت، أو يصنعون فيه فتحات صغيرة من أسفله ليلامس تربة الأرض.
وعند الدفن يوضع الجثمان على الظهر، وقد يوضع أيضًا على جانبه الأيمن كأنه نائم، مع جعل وجهه للأعلى، والأغلب أن توجه أقدام الميت ناحية القدس حتى إذا قام عند البعث تمكن مباشرة من السجود، وإن كان هنالك من يجعل الرأس، وليس القدمين، في اتجاه القدس. ومن المفروض في حالة وجود جثمانين أن يدفن أسبقهما موتًا، فإن كان فيهما عالِم دفن أولًا، بغض النظر عن ذلك، وكذلك تدفن المرأة أولًا، وإن سبقها رجل في موته.
ومن المعتاد عند اقتراب مراسم الدفن من نهايتها أن يقوم القائم بالدفن بإبراء المتوفى من أي التزامات تجاه الآخرين حدثت في حياته، ثم يخاطب الميت، وكأنه حي، طالبًا منه أن يسامحه عن أي خطأ غير مقصود ارتكبه في حقه في أثناء تجهيزه للدفن.
وحضور الجنازة أمر ملزم لأفراد المجتمع اليهودي، حتى لو تطلب أخذ إجازة من دراسة التوراة. ويبالغ التلمود في أهمية حضورها فينص على: "من تخلف عن حضور الجنازة كمن أراق الدم". ومن المفترض ألا يتم الدفن إلا في وجود ما يعرف بـ"المنيان"، الذي أشرنا إليه. ويلزم التقليد اليهودي بأن يتم دفن الميت في منطقة سكنه طالما كان لليهود مقابر فيها، فإن لم يكن أمكن حينها دفنه في منطقة أخرى، وينبع ذلك من اعتبارهم أن دفن الميت في غير منطقته التي عاش فيها إهانة للأموات الذين كان يفترض أن يدفن الميت بينهم.
وكان اليهود في البلاد العربية، أو غيرها من المجتمعات المحافظة، يحرصون على فصل الرجال عن النساء في أثناء السير بالجنازة، لما في ذلك من خطورة، ويكون الحرص أكبر في طريق العودة بعد الانتهاء من الدفن. لكن في اليمن كان من المحظور على نساء اليهود الخروج في الجنازة نهائيًا، ولو كان الميت امرأة... لكن حينما تراجع الالتزام الديني في بعض الأماكن أصبحت النساء يخرجن في الجنائز مع بقائهن في الخلف بمسافة كافية.
وكان حاخامات اليمن يوجهون بضرورة بكاء الميت بكاء شديدًا، ورفع الصوت والإكثار من ذكر محامده عند الموت. وإذا كان الميت رجلًا كانوا يحملون جثمانه في أثناء الجنازة ورأسه في اتجاه الطريق، ويهتفون بصوت عال، بدعوات بالرحمة له مصحوبة بصفات شجاعته وكرمه، أما إذا كان الجثمان لامرأة فتحمل وقدماها باتجاه الطريق وتسير الجنازة في صمت.
وعادة ما يكون التخوف من العفاريت مصاحبًا للمشيعين عند الذهاب بالجنازة إلى المقابر، لكنه يكون أكبر في طريق عودتهم؛ إذ يحرص المشيعون في أثناء عودتهم على سلوك طريق مختلف عن الذي ذهبوا منه من أجل تضليل الأرواح التي كانت تكمن لهم فيه، وأحيانًا كانوا يمسكون بكومة من أوراق الأشجار وفروعها ويلقونها خلفهم من دون الالتفات، كي يتفادوا أرواح الموتى. ومرد ذلك أن المقابر، وفقًا لنصوص التلمود، تعد مكانًا لتجمع أرواح الموتى، إضافة إلى ذلك فإن ثمة اعتقادًا شعبيًا بأن القبر المنعزل داخل المقابر يكون جاذبًا للعفاريت التي تكون مصاحبة لملاك الموت للإمساك بجثمان الميت، ولذلك كان التشديد على ألا يكون هناك قبر منعزل داخل المقابر.
وتشير هذه العادات إلى حقيقة أن التراث اليهودي يعتقد أن لروح الميت قدرات خاصة، وأن في إمكانها التأثير في الأحياء، وهذا التأثير ليس فقط في الجانب السلبي، بل الإيجابي أيضًا. وطبقًا للتلمود، فإن الأحياء يمكنهم التوسل بالأموات، خاصة الصالحين، أو الأولياء منهم، عند طلب الرحمة من الرب.
أما العزاء فينقسم لثلاث فترات متتالية تمتد لعام كامل؛ أولاها تمتد سبعة أيام، والثانية ثلاثين يومًا، والثالثة أحد عشر شهرًا. وخلال الفترة الأولى لا يسمح للمعزين من أهل الميت بترك بيوتهم، وفي بعض المجتمعات اليهودية لا يجوز لهم الطبخ فيها، على أن يقوم المعزون من الجيران بتولي احتياجاتهم من الطعام في هذه الأيام. أما أهل الميت من النساء، وخاصة أرملته، فيقمن بالنواح والصراخ تعبيرًا عن الحزن، وقد يستأجرون نائحات لهذا الغرض. وفي بعض الحالات يكون تعبير أهل الميت من النساء عن حزنهن بأفعال غريبة لإذلال النفس، كأن يخمشن وجوههن، أو يمتنعن عن الاستحمام والتطيب والنوم على فراش مريح، مع تفضيل بعضهن للصيام عن الطعام. وهنالك عادة منتشرة حاليًا بين اليهود عامة، حيث يقوم بيت الميت بتغطية مرايا البيت، أو وضعها تجاه الحائط، وذلك تخوفًا من أن ترى روح الميت صورتها في المرآة، وحينها لن تغادر البيت.
وفي ختام كل فترة من الفترات الثلاث، يتم إحياء الذكرى مصحوبة بالصلوات والعظات، ويتبعها وليمة للعائلة والأصدقاء.
المقابر ونظامها
تدل الأسماء المتعددة للمقبرة في اليهودية؛ حيث تسمى "بيت هاحاييم = منزل الأحياء"، أو "بيت عولام = منزل العالَم"، كما تسمى أيضًا "بيت عالمين = المنزل الأبدي"، على أن اليهودية تعد الموت مرحلة في دورة حياة الإنسان؛ حيث يكون للإنسان حياة وعلاقات اجتماعية بعد الموت، ولذلك فإن ترتيبات الجنائز والدفن يجب أن تتم وفق نظام اجتماعي يراعي الأحكام اليهودية حتى تكون مغادرة أي يهودي للدنيا وفق هذه الأحكام.
ويوجه التلمود بألا تقل المسافة بين المقبرة والمدينة عن 75 قدمًا، ما يعني ضرورة أن تكون المقبرة خارج المدينة، أو على أطرافها، وألا يدفن في القبر الواحد أكثر من جثمان، وأن تكون المسافة بين قبر وآخر أربعة أقدام ونصف قدم.
ومن المحظور السير فوق المقابر، أو وطؤها، أو الجلوس عليها، أو حتى الاستناد عليها، ويبررون ذلك بأنه عدم احترام للميت.
أما نظام الدفن داخل المقبرة فله ترتيب محدد؛ فتخصص قطعة من أجل قادة الطائفة، وأخرى للكهنة والحاخامات، وتخصص منطقة منعزلة لأولئك الذين عرفوا بالسلوكيات المشينة في حياتهم، سواء كانوا مهرطقين، أو مرتدين، أو ملحدين. كذلك لا يجوز دفن رجل بين امرأتين، أو العكس؛ ولذلك تنظم بعض المقابر ليكون فيها صف للرجال، وآخر منفصل للنساء، وأحيانًا تخصص قطعة كاملة داخل المقبرة للرجال، وأخرى للنساء، إضافة لذلك تخصص قطعة للنساء اللائي متن في أثناء الولادة، وقطعة للأطفال، وقطعة للأطفال الذين ماتوا عند ولادتهم، أو السقط من الأجنة. أما المنتحرون، أو من عرف بأنه ممسوس من الجن، أو من أصابه الجنون، فهؤلاء يدفنون على أطراف المقبرة، لكن الأشخاص الذين أداروا ظهرهم للطائفة، وعاشوا منفصلين عنها، فهؤلاء يعاملون بالمثل بعد مماتهم، ويدفنون خارج أسوار المقبرة.
وإذا أمعنا النظر في هذا النظام سوف نلاحظ ثلاث نقاط؛ أولاها أن نظام الدفن على هذا النحو يظهر أن إدارة الظهر للطائفة، والعيش منعزلًا عنها، وعدم الاهتمام بها أعظم إثمًا، بدليل دفن من يقترفه خارج أسوار المقبرة، بينما يدفن الملحد، والمرتد والمنتحر داخل أسوارها؛ حتى ولو كان على الأطراف. وهذا يعني أن نظام الدفن المشار إليه يرتبط في الأساس بمدى الالتزام الاجتماعي تجاه الطائفة، والقيام بواجباتها، أكثر من ارتباطه بمستوى الالتزام الديني. والنقطة الثانية هي أن هذا النظام هو انعكاس مصغر للتسلسل الهرمي الاجتماعي الذي كان كل واحد من الأموات يعيشه في حياته.
أما النقطة الأخيرة، فهي أن التراث اليهودي يرى أن الإنسان سوف تكون له حياة وصلات اجتماعية بعد موت الجسد، ولذلك كان الحرص على ألا يدفن الأشرار، ولا حتى متوسطي الإيمان بجوار الصالحين، إضافة لذلك فإنه يجب ألا يدفن شخصان كان أحدهما يكره الآخر في قبرين متجاورين، لأنهما حتى في موتهما لن يجدا الراحة معًا!
ولعل الملاحظة الأبرز هنا هي أننا لن نجد اختلافات كبيرة بين يهود العالم العربي وغيرهم من اليهود في ما يتعلق بالموت والجنائز من عادات، إلا بقدر انتشار الجهل، واختلاف المعارف والمستوى الثقافي.
وترتبط أغلب عادات الموت والجنائز بالموروث الديني التلمودي على وجه الخصوص، وهو موروث لا يخلو من خرافات تضاف إلى ما توارثه اليهود من خارج إطار الكتب الدينية، ومن البيئات التي عاشوا فيها. ويتعامل هذا الموروث مع الشخص حينما يكون مشرفًا على الموت، ومع جثمانه عند تطهيره بعد الموت، وعند الدفن، كما يتعامل أيضًا مع المقابر ومواصفاتها وزيارتها.
الاستعداد للموت... وتطهير الميت ودفنه
لليهود المغاربة حكمة تقول "الموت نعمة حينما يكون بين أفراد العائلة". ترتبط هذه المقولة بتقليد معقد يمارسه يهود المشرق، وهو تقليد لا يحدث إلا حينما يحدث الموت في البيت، ويعد ضروريًا من أجل علاقة المحتضر بمن حوله، ومن أجل حياته الأبدية بعد الموت، والاستيعاب في العالم الآخر. في هذا التقليد يقوم المحتضر بالاستعداد للموت بغسل يديه، وارتداء شال الصلاة، وتلاوة اعتراف مكتوب في وجود "المنيان"، وهو "نصاب من عشرة رجال بالغين على الأقل من أبناء الطائفة، لا تصح كثير من الأحكام الشرعية إلا به". ويدنو أفراد العائلة من فراش ذلك الشخص المريض للحصول على البركة، وتوقد الشموع حول الغرفة لطرد الأرواح. وبمجرد حدوث الوفاة يفتح الأهل نوافذ الغرفة حتى تدخل الملائكة لحمل روح الميت وأخذها إلى العالم الآخر، ثم يقوم الأهل بتغطية وجه الميت، وإبقاء جثمانه لمدة ساعة من دون حراك. يضعون بعدها الجثمان على الأرض ويغطونه بالكامل، وتوضع قطعة من الخشب أسفل الرأس لتسندها، وتكون الأرجل مواجهة لباب الغرفة.
وعادة ما يعهد بغسل الميت وتطهيره لما يسميه التقليد اليهودي باسم "حِڤرا كاديشا": أي جماعة الدفن"، وهي مجموعة تقوم بهذا العمل تطوعًا، من دون تقاضي أي مقابل، أو هدايا، ولذلك يحظون بالتقدير بين أفراد الطائفة. غير أن بعض المجتمعات، كاليمن مثلًا، لم يكن فيها مثل هؤلاء المتخصصين، فكان يعهد به لأي فرد من أفراد الطائفة. ولا يقوم الكهنة بهذه المهمة مطلقًا، لأن اليهودية تعد جثمان الميت نجسًا، ومن ثم تحظر على الكهنة لمس جثمان الميت حتى يظلوا طاهرين.
وكان الميت يغسل في ثيابه، ثم يتبع ذلك طقس يسمى "أشكال العذاب الأربعة" (الرجم، الحرق، قطع الرأس، الخنق)، وفيه يقوم متعهدو الطقس بتنفيذ أربع عقوبات رمزية على الميت كي لا يتعرض لمثل هذا الألم عند باب الجنة؛ فيرجم جسد الميت بثلاث حصوات صغيرة، أو سبع، وتمرر شمعة على ظهره، أو أظافره، تمثيلًا للحرق، ويمرر سكين على المتوفى تمثيلًا لقطع الرأس، ثم توضع ملاءة حول رقبته تمثيلًا للخنق. وفي أثناء محاكاة هذه العقوبات الأربع يقوم الحضور من أبناء الطائفة بالدعاء، ومديح الميت، من دون أن يلفظوا اسم الرب "يهوه"، ويستخدمون بدلًا من هذا الاسم كلمة "ها شيم"، وتعني الاسم، وهي تشير إلى الرب. ثم يلف جسد المتوفى بكفن من قماش كتان أبيض سليم من أطرافه، تخيطه نساء من جماعة الدفن من دون ربطه بأي عُقد.
وفي المغرب، كانت خياطة الكفن طقسًا منفردًا، يصحبه الغناء والرقص، وينتهي بوليمة في جوّ من البهجة والسرور. أما في ليبيا فكانت زوجة المتوفى، في حال كونها حاملًا، تمرّ من تحت نعش زوجها الميت أمام جميع المعزين قبل أن يحمل إلى خارج البيت. وقبل الجنازة مباشرة يقوم أحد أفراد فريق تجهيز الميت بتمزيق الثياب الخارجية لأحد المشيعين، ويصاحب ذلك دعاء "مبارك أنت يا رب، يا من تعدل في حكمك". وما زال هذا الطقس يمارس إلى اليوم عند جميع اليهود.
ويلزم التلمود بالتعجيل بدفن الميت بأسرع ما يمكن، لكنه يمنع من الدفن في يوم السبت، أو في عيد الغفران تحديدًا. والأصل ألا يوضع الميت من اليهود في تابوت؛ حيث يجب أن يبقى الجثمان ملامسًا للأرض اتباعًا للنص التوراتي، تكوين 3: 19: "لأنك تراب، وإلى التراب تعود"، لكن على الرغم من هذه الوصية، فإن اليهود أحيانًا قد يضعون موتاهم في توابيت خشبية بسيطة، وحينها يضعون بعض التراب في قاع التابوت، أو يصنعون فيه فتحات صغيرة من أسفله ليلامس تربة الأرض.
وعند الدفن يوضع الجثمان على الظهر، وقد يوضع أيضًا على جانبه الأيمن كأنه نائم، مع جعل وجهه للأعلى، والأغلب أن توجه أقدام الميت ناحية القدس حتى إذا قام عند البعث تمكن مباشرة من السجود، وإن كان هنالك من يجعل الرأس، وليس القدمين، في اتجاه القدس. ومن المفروض في حالة وجود جثمانين أن يدفن أسبقهما موتًا، فإن كان فيهما عالِم دفن أولًا، بغض النظر عن ذلك، وكذلك تدفن المرأة أولًا، وإن سبقها رجل في موته.
ومن المعتاد عند اقتراب مراسم الدفن من نهايتها أن يقوم القائم بالدفن بإبراء المتوفى من أي التزامات تجاه الآخرين حدثت في حياته، ثم يخاطب الميت، وكأنه حي، طالبًا منه أن يسامحه عن أي خطأ غير مقصود ارتكبه في حقه في أثناء تجهيزه للدفن.
وحضور الجنازة أمر ملزم لأفراد المجتمع اليهودي، حتى لو تطلب أخذ إجازة من دراسة التوراة. ويبالغ التلمود في أهمية حضورها فينص على: "من تخلف عن حضور الجنازة كمن أراق الدم". ومن المفترض ألا يتم الدفن إلا في وجود ما يعرف بـ"المنيان"، الذي أشرنا إليه. ويلزم التقليد اليهودي بأن يتم دفن الميت في منطقة سكنه طالما كان لليهود مقابر فيها، فإن لم يكن أمكن حينها دفنه في منطقة أخرى، وينبع ذلك من اعتبارهم أن دفن الميت في غير منطقته التي عاش فيها إهانة للأموات الذين كان يفترض أن يدفن الميت بينهم.
وكان اليهود في البلاد العربية، أو غيرها من المجتمعات المحافظة، يحرصون على فصل الرجال عن النساء في أثناء السير بالجنازة، لما في ذلك من خطورة، ويكون الحرص أكبر في طريق العودة بعد الانتهاء من الدفن. لكن في اليمن كان من المحظور على نساء اليهود الخروج في الجنازة نهائيًا، ولو كان الميت امرأة... لكن حينما تراجع الالتزام الديني في بعض الأماكن أصبحت النساء يخرجن في الجنائز مع بقائهن في الخلف بمسافة كافية.
وكان حاخامات اليمن يوجهون بضرورة بكاء الميت بكاء شديدًا، ورفع الصوت والإكثار من ذكر محامده عند الموت. وإذا كان الميت رجلًا كانوا يحملون جثمانه في أثناء الجنازة ورأسه في اتجاه الطريق، ويهتفون بصوت عال، بدعوات بالرحمة له مصحوبة بصفات شجاعته وكرمه، أما إذا كان الجثمان لامرأة فتحمل وقدماها باتجاه الطريق وتسير الجنازة في صمت.
وعادة ما يكون التخوف من العفاريت مصاحبًا للمشيعين عند الذهاب بالجنازة إلى المقابر، لكنه يكون أكبر في طريق عودتهم؛ إذ يحرص المشيعون في أثناء عودتهم على سلوك طريق مختلف عن الذي ذهبوا منه من أجل تضليل الأرواح التي كانت تكمن لهم فيه، وأحيانًا كانوا يمسكون بكومة من أوراق الأشجار وفروعها ويلقونها خلفهم من دون الالتفات، كي يتفادوا أرواح الموتى. ومرد ذلك أن المقابر، وفقًا لنصوص التلمود، تعد مكانًا لتجمع أرواح الموتى، إضافة إلى ذلك فإن ثمة اعتقادًا شعبيًا بأن القبر المنعزل داخل المقابر يكون جاذبًا للعفاريت التي تكون مصاحبة لملاك الموت للإمساك بجثمان الميت، ولذلك كان التشديد على ألا يكون هناك قبر منعزل داخل المقابر.
وتشير هذه العادات إلى حقيقة أن التراث اليهودي يعتقد أن لروح الميت قدرات خاصة، وأن في إمكانها التأثير في الأحياء، وهذا التأثير ليس فقط في الجانب السلبي، بل الإيجابي أيضًا. وطبقًا للتلمود، فإن الأحياء يمكنهم التوسل بالأموات، خاصة الصالحين، أو الأولياء منهم، عند طلب الرحمة من الرب.
أما العزاء فينقسم لثلاث فترات متتالية تمتد لعام كامل؛ أولاها تمتد سبعة أيام، والثانية ثلاثين يومًا، والثالثة أحد عشر شهرًا. وخلال الفترة الأولى لا يسمح للمعزين من أهل الميت بترك بيوتهم، وفي بعض المجتمعات اليهودية لا يجوز لهم الطبخ فيها، على أن يقوم المعزون من الجيران بتولي احتياجاتهم من الطعام في هذه الأيام. أما أهل الميت من النساء، وخاصة أرملته، فيقمن بالنواح والصراخ تعبيرًا عن الحزن، وقد يستأجرون نائحات لهذا الغرض. وفي بعض الحالات يكون تعبير أهل الميت من النساء عن حزنهن بأفعال غريبة لإذلال النفس، كأن يخمشن وجوههن، أو يمتنعن عن الاستحمام والتطيب والنوم على فراش مريح، مع تفضيل بعضهن للصيام عن الطعام. وهنالك عادة منتشرة حاليًا بين اليهود عامة، حيث يقوم بيت الميت بتغطية مرايا البيت، أو وضعها تجاه الحائط، وذلك تخوفًا من أن ترى روح الميت صورتها في المرآة، وحينها لن تغادر البيت.
وفي ختام كل فترة من الفترات الثلاث، يتم إحياء الذكرى مصحوبة بالصلوات والعظات، ويتبعها وليمة للعائلة والأصدقاء.
المقابر ونظامها
تدل الأسماء المتعددة للمقبرة في اليهودية؛ حيث تسمى "بيت هاحاييم = منزل الأحياء"، أو "بيت عولام = منزل العالَم"، كما تسمى أيضًا "بيت عالمين = المنزل الأبدي"، على أن اليهودية تعد الموت مرحلة في دورة حياة الإنسان؛ حيث يكون للإنسان حياة وعلاقات اجتماعية بعد الموت، ولذلك فإن ترتيبات الجنائز والدفن يجب أن تتم وفق نظام اجتماعي يراعي الأحكام اليهودية حتى تكون مغادرة أي يهودي للدنيا وفق هذه الأحكام.
ويوجه التلمود بألا تقل المسافة بين المقبرة والمدينة عن 75 قدمًا، ما يعني ضرورة أن تكون المقبرة خارج المدينة، أو على أطرافها، وألا يدفن في القبر الواحد أكثر من جثمان، وأن تكون المسافة بين قبر وآخر أربعة أقدام ونصف قدم.
ومن المحظور السير فوق المقابر، أو وطؤها، أو الجلوس عليها، أو حتى الاستناد عليها، ويبررون ذلك بأنه عدم احترام للميت.
أما نظام الدفن داخل المقبرة فله ترتيب محدد؛ فتخصص قطعة من أجل قادة الطائفة، وأخرى للكهنة والحاخامات، وتخصص منطقة منعزلة لأولئك الذين عرفوا بالسلوكيات المشينة في حياتهم، سواء كانوا مهرطقين، أو مرتدين، أو ملحدين. كذلك لا يجوز دفن رجل بين امرأتين، أو العكس؛ ولذلك تنظم بعض المقابر ليكون فيها صف للرجال، وآخر منفصل للنساء، وأحيانًا تخصص قطعة كاملة داخل المقبرة للرجال، وأخرى للنساء، إضافة لذلك تخصص قطعة للنساء اللائي متن في أثناء الولادة، وقطعة للأطفال، وقطعة للأطفال الذين ماتوا عند ولادتهم، أو السقط من الأجنة. أما المنتحرون، أو من عرف بأنه ممسوس من الجن، أو من أصابه الجنون، فهؤلاء يدفنون على أطراف المقبرة، لكن الأشخاص الذين أداروا ظهرهم للطائفة، وعاشوا منفصلين عنها، فهؤلاء يعاملون بالمثل بعد مماتهم، ويدفنون خارج أسوار المقبرة.
وإذا أمعنا النظر في هذا النظام سوف نلاحظ ثلاث نقاط؛ أولاها أن نظام الدفن على هذا النحو يظهر أن إدارة الظهر للطائفة، والعيش منعزلًا عنها، وعدم الاهتمام بها أعظم إثمًا، بدليل دفن من يقترفه خارج أسوار المقبرة، بينما يدفن الملحد، والمرتد والمنتحر داخل أسوارها؛ حتى ولو كان على الأطراف. وهذا يعني أن نظام الدفن المشار إليه يرتبط في الأساس بمدى الالتزام الاجتماعي تجاه الطائفة، والقيام بواجباتها، أكثر من ارتباطه بمستوى الالتزام الديني. والنقطة الثانية هي أن هذا النظام هو انعكاس مصغر للتسلسل الهرمي الاجتماعي الذي كان كل واحد من الأموات يعيشه في حياته.
أما النقطة الأخيرة، فهي أن التراث اليهودي يرى أن الإنسان سوف تكون له حياة وصلات اجتماعية بعد موت الجسد، ولذلك كان الحرص على ألا يدفن الأشرار، ولا حتى متوسطي الإيمان بجوار الصالحين، إضافة لذلك فإنه يجب ألا يدفن شخصان كان أحدهما يكره الآخر في قبرين متجاورين، لأنهما حتى في موتهما لن يجدا الراحة معًا!