لا تبتعِد، على وجهِ العُموم، عمارة الباوهاوس Bauhaus (بيتُ البِناء building house) عن رُؤى عمارةِ الحداثة، وَعن واقعيّة ما بعد الرومانسية، وإنْ كانت، بشكلٍ من الأشكال، مالت، منذُ بداياتِها، نحوَ سِمات المدرستيْن التشكيليّتيْن التكعيبيّة والتعبيريّة، متأثّرة، إلى ذلك، بأفكارِ الفنان الإنكليزيّ وِليَام مُوريس (1834 ـ 1896)، ومحاولاتِه الدّمج بين الحرْفةِ وَالفن.
أمّا أهم سِمات مدرسة الباوهاوس، في ِرأيي، في العمارة والتّصميم وفنونٍ أُخرى، فهُو عكسُها الصّرامةَ الألمانيةَ الرائيةَ بِضرورة إزالةِ الحواجِز بين الأبعادِ الفنيّة لِلتصميم، وأبعادِهِ الوظيفيّة، ذاهبةً إلى أنّ الخطوط المستقيمة، والأقْواسَ الصّريحة، والعُلاقات الواضحة بين مفرداتِ المجسّم (البُنيان)، ما هي سوى ردّ فعلٍ على المُبالغة الزُّخرفية، والإسرافِ التشكيليّ التجميليّ.
رؤى ما بعد الحرب
ليسَ إلصاقًا فاقدًا لِلمعنى، ربطُ انبثاقِ عمارةِ الباوهاوس، مع تداعياتِ ما بعدَ الحربِ العالميّة الأُولى. صحيحٌ أن بعدَها المدرسيّ انطلقَ مع بداية الحرب في العام 1914، داخل مدينة فايمر (وسطَ شرقِ ألمانيا في ولايةِ تورنْغِن)، حيث كان مقرّها هناك، لكنّ اتضاحَ معالِمها الجوهريّة تجلّى في الزَّمان والمكانِ بعد انتهاء الحرب. وخِلال ذلك، جرى ما جرى من إقالةِ المهندس المعماريّ البلجيكيّ هِنري فَان دِي فيلْدي كليمَنس (1863 ـ 1957)؛ مِن إدارةِ مدرسة الفنِّ الصناعيِّ لِكونه بلجيكيًّا فقط لا غير، ثم تعيينُ المهندسِ المعماريِّ الألمانيِّ فالتر غِروبيوس (1883 ـ 1969) مكانه. كلُّ هذه الإرهاصاتِ، وغيرِها، أسهمت في تكريسِ سِماتٍ، من دونَ سِواها، للمدرسةِ التي ظلّت خلال الأعوام الّلاحقة للعامِ 1919 تتبلوَرُ، وتحدّدُ ملامحَها، وتتلمّسُ وجهاتِها. وبعدَ نفْي الآخرين الذي مورِس مع أوّل الحرب، عاد غروبيوس وانْفتح على العالَم، مستقدمًا لمشروعِ الباوهاوس أمهرَ المصوّرين والمِعماريين والمثّالين (النحّاتين) والصنّاع المُتميّزين، أمثال: الفنان التجريديّ الروسيّ فاسِيلي كانْدنسكي (1866 ـ 1944)، والرسّام الألمانيّ بُول كِلي (1879 ـ 1940)، والفنّان التجريديّ الألمانيّ/ الأميركيّ جوزيف ألْبرز (1888 ـ 1976)، والفنّان الهولنديّ بيِيت مونْدريان (1872 ـ 1944)، وغيرهم.
مسوّغات
هَدَفَت مدرسةُ الباوهاوس، بشكلٍ أساسيٍّ تأسيسيّ، إلى دمجِ مجالاتِ الفنون الجميلة والتطبيقيّة والحرفيّة، وبالتّالي، إزالةِ الحدودِ في ما بينها لتتجسّد كأنّها التوافقيّةُ بينَ الحياةِ والفنِّ، متبنيّةً هذا الهدفَ بوصفِه مسوّغها الوجوديَّ الأسطعَ تعبيرًا عن نفسِها، وتمثّلًا لِرؤاها وتطلّعاتها.
هو، إذًا، بحثٌ عن قواعِد صارِمةٍ تتناسبُ مع القرن العشرين، يقول غروبيوس حولَ ذلك: "يحتاج التصميمُ إلى تعاونِ الجهودِ جميعِها وتضافرِها، من دونِ التفرِقة بين فنٍّ جميلٍ وفنٍّ تطبيقيّ"، مقترحًا لتحقيق ذلك: وضْعُ تصميماتٍ مبتكرةٍ بطريقةٍ تناسبُ التقنياتِ الحديثةَ لمعالجةِ عيوبِ الصّناعة، تحقيقُ الجانبِ الوظيفيِّ مع الاحتفاظِ بالصفاتِ الجماليةِ للتّصميم لِتحسين الذّوق العام الألمانيّ، وبالتالي، ربّما، أراد أن يقول، الأوروبيّ، وحتّى، العالميّ، تماشيًا مع الروح الألمانيةِ السائدةِ أيامَها، الرائيةِ أنّها فوقَ العالَم، أو دليلُه الصّارمُ الحاسمُ الذي لا يأتيه الباطل من بينِ يديهِ وَلا من خلفِه.
من المقترحاتِ التي تبنّاها مؤسّسُ الباوهاوس، إلى ذلك: الجمْع بين الفنون المرئيّة والعِمارة، تحقيقُ الوحدةِ بينَ الفنونِ والحِرف وتحالفِ المهندسينَ المعماريينَ والمصورينَ والنحاتينَ، بغرضِ تشْييدِ المدرسةِ الناهضةِ من خلال عناصرِ البِناء كافّة، وأجزائِهِ جميعِها.
بِهذه المسوّغات، صار لِرؤىً معماريّةٍ جديدةً مدْرسة، وصار لَها أنصارَها، ومعالمَها، وصارَ لِهذه المدرسةِ أفكارَها الاشتراكيّة وقتَها، مستوفيةً مسوّغاتها بالدّعوة إلى المساواةِ بين الفنانينَ والحرفيينَ بعيدًا عن الطبقيّة، والنظرةِ الاستعلائيّة، متبنيّةً شكلًا من أشكال التّكافل الاجتماعيّ.
مسوّغاتٌ جميلة، وعناوينُ انطلاقٍ واعِدة، ولكنَّ السؤالَ الجوهريّ هُنا هو كيف تجسّدت هذه الرؤى والأفْكار في التصاميم المعماريّة التي أنجزها معماريونّ ينتمونّ إلى مدرسة الباوهاوس، أو تأثّروا بِها؟
عمارة الْباوهاوس
الابتعادُ عن الزخْرفةِ، والتركيزُ على الأشكالِ الهندسيةِ البسيطةِ مثلَ الدوائرِ والمكعّباتِ والخطوطِ المستقيمةِ، والتقليلُ من الفراغِ التعبيريّ التخيليّ، وتحييدُ مركزيةِ النسبِ المقدّسة، وتبنّي مفهومِ الاقتصادِ الهندسيّ، جعلُ العلاقاتِ البِنائيةِ في مرتبةٍ أعلى، وقيمةٍ أهم من المُنْتَجِ المعماريّ النهائيّ، وربطُ كلِّ ذلك بقدراتِ المُصمِّم المنظوريّةِ ورؤاه البصريّة.
كأني بالباوهاوسيينَ سَعوا منذ انطلاقتِهم، وفقَ فلسفةٍ براغماتيّة (يا فرْحةَ جون ديوي (1859 ـ 1952) البراغماتيُّ الأميركيُّ الأكثرُ صراحةً)، لِما يَسْهُلُ فهمُه، ويسهُلُ تنفيذُه، ويسهُلُ تبنّيه. وكأنّي بِهم، بحثوا، أساسًا، عن مِدْماكٍ محايدٍ يلبّي، كَما افترضوا، احتياجاتٍ وظيفيةً ونفسيةً جوهريّة.
حِيادٌ ذهبوا إلى أنّه محصلةٌ لِتطوّرِ آليات السوق، وتجدّد عروقِه، وفرضتهُ، إلى ذلك (هذا الحِياد)، عمليات الإنتاج الصناعيّ الضّخمة التي رأتْ النّور مع مطالعِ القرن العشرين، وقادَ إليهِ تسيّدُ الكمِّ على حسابِ النّوع، وانتشارُ التّنميطُ، وتغوّلُ التِّكرار، وصعودُ العقلانيّةُ المنطقيّة.
من تأثيرات الْباوهاوس على العمارة، إلى ذلك، توحيدُ المعاييرِ والتّجارب في المفردةِ المعمارية، العنايةُ بمفهومِ التصميمِ الصناعيّ، الابتعادُ عن التزيينِ والزُّخرفة، تجنبُ التقليدِ نحوَ الاعتمادِ على الوظيفيّةِ فقط لا غير، الاقتصارُ على الأساسياتِ والذَّهاب نحوَ البُعد العقلانيِّ في البِناء، الوضوحُ والبساطةُ وأحاديةُ اللون، تصميمُ زوايا قائمةٍ باستخدامِ الزّجاج المكوِّن للجِدار الستائريّ (غلافٌ خارجيٌّ لِلمبنى)، جدرانُه غيرُ إنشائيّة، يعزلُ قاطنيهِ عن الخارج، ويُصنع من مواد خفيفةِ الوزنِ لِتقليل كُلف الإنتاج، مع استخدام الفولاذ وبلوكّات الطّوب، ما يشكّل، بمجملِه، أنماطًا من المباني تتّسم بِالكفاءةِ والعقلانيّة.
هم يعتقدونَ أنّهم، في أبعادِ عمارتِهم الفنيّة والثقافيّة، وحتّى الفلسفيّة، بحثوا عن قواعدَ مشتركةٍ وقياسيةٍ للغةِ البصريّة، وَأعادوا الاعتبارَ للشروطِ الفسيولوجيةِ والنفسيةِ لِبني البَشَرِ واحتياجاتِهم الوظيفيّة.
دوّامةُ الأسئِلة
فَهل حقًا فعلوا ذلك؟ وَهل حقًا نجحوا في تمثّلِ عصرِهم، وما بعدَ عصرِهم، تمثّلًا معماريًّا مقنعًا وأخلاقيًّا؟ هل حقّق الحسُّ الهندسيُّ المتقشّف كلَّ هذه الشّعارات والتّنظيرات؟ هل فعل ذلك، هذا التوازنُ الصارمُ بين الصرحيّةِ والخِفّة؟ هل أدّى اِلْتحامُ الكتلِ الإسمنتيّةِ بِفراغاتٍ يحْميها الزجاجُ، المطلوبَ مِنه، وأفْضى، بالتّالي، إلى استقرارٍ منهجيٍّ تطبيقيٍّ كامِل؟ هل تجلّت الباوهاوس بوصفِها مدرسةً طليعيةً مستقبليّة؟
دوّامةُ أسئلةٍ تنتظرُ الإِجابة.
نعم، صحيحٌ أن الخراطةَ والّلحام أصبحا جزءًا لا يتجزأ من عناصر الوجود المعماريّ الساعي إلى تذويبِ القطيعةِ بين تلك العناصر، وأنّ دراسةَ الأبعادِ الرمزيّة والتعبيريّة انصهرتْ في عملياتِ التّشكيل والإبداع الفنّيِّ (قضايا التّكوين والإِيقاعِ والتّحليل البصريّ وبناءِ المشهد)، وأصبحت أكثرَ جديّةً وفاعليّة، لكنّ كل ذلك سارَ بالتّوازي مع منهجيةٍ حدّدت فضاءاتِ الالتِماعِ الإبداعيّ وَألْجَمَتها على صعيدِ المَبنى، ملتزمةً بِمعاييرَ غيرِ وِجْدانيةٍ على صعيدِ المَعنى.
مآثِر
لكنْ، والحقّ يُقال، لم يمضِ كلُّ ذلك من دونِ مآثِر لِمدرسةِ الباوهاوس لا بدّ من الإقرارِ بِها، ومنها، أنّه، وللمرَّة الأولى، يشيّدُ تقابلٌ أساسيٌّ بين عناصرِ الفنِّ التجريديّ، ومبادئِ الإنتاجِ الكمّيّ. ويُراعى الانتباهُ للتجاربِ المهنيّة الأساسيّة في تعاملِها مع الموادِّ الخَام الأوليّة، ما ارْتقى بالمادةِ الأوليّةِ إلى مصافِ كونِها أداةَ تعبيرٍ تواصليّةٍ بين مستخدمها ومتلقّي مُخرجاتِها.
ومن مآثرِ عمارةِ الباوهاوس اندماجُها في النسيج الحضاريّ والبيئيّ، واستخدامُ معمارييها وفنّانيها خاماتٍ مختلفةً ومتنوّعةً صبّت في مجملِها، وَعبْرَ قوالِبها المعماريّة، في صالحِ نظرةٍ كليّةٍ موحّدةٍ تجمعُ بين الحركيّةِ، والعمليّةِ، والوظيفيّة.
كما أن مدرسةَ الباوهاوس نَسَفَت الثوابتَ الكلاسيكيّة، داعِيةً إلى التّجريب وَحاضّةً عليه.
موجباتُ تعاطُف
وإنْ كان من موجباتِ تعاطفٍ مع المدرسة التي مَلأت الدّنيا وشَغَلت الناس، فهُو أنّها، ومنذُ انطلاقتِها، اصطدمت بالروحِ المُحافِظةِ لِبرجوازيةِ مدينةِ فايمر الألمانيّة، وأنّها أثارت خلال صيرورتِها عداوةَ الأكاديمياتِ التقليديّة. وخلال الزّمن النازيّ، لاحقَتها التُّهم (الترويجُ للأفكارِ الشيوعية، اتّباع سياسةٍ دعائيةٍ مؤيدةٍ للثّورة الروسية، وَما إلى ذلِك)، وَنُسِجَت لِتعطيلِها المؤامرات، ما أدّى إلى انتقالِ أكاديميّتها سنة 1925 إلى مدينةِ دِيساو الصناعيّة.
وَلا ننْسى من أبوابِ التعاطفِ معْها أنّها "ترعرعَتْ بينَ حربيْن" على رأيِ الفنان التشكيليّ والباحثِ والناقدِ السوريّ السوربونيّ أْسعد عُرابي، وأضناها التنقّل بين أميركا وأوروبا (محترفات الشواطئ الأوروبية، خصوصًا في إنكلترا).
عُرابي، على كلِّ حال، كان أشارَ في مقالٍ نشره له ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 25 نيسان/ أبريل 2020، تحت عنوان "التواصل بين الباوهاوس والعمارةِ العربيةِ الإسلاميّة"، أن المعرضَ الأوّل لِمدرسةِ الباوهاوس الذي نظّمه رائدُها غروبيوُس في العام 1923، شفَّ عن تأثرِ أهمِّ معروضاتِه، الواضحِ، في العمارة الإسلاميّة، خصوصًا اسْتلهامُها جمالياتِ مئذنةِ الملويّة في المسجدِ الجامعِ في مدينةِ سامِراء (سُرُّ مَن رَأى)، التي بناها الخليفةُ المنصور، وَقد تكون، بدورِها، امتدادَ تأثُّرٍ بِتقاليد معابدِ الزقوراتِ الحلزونيّةِ في الحضاراتِ العراقيّةِ القديمةِ (برجُ بابل نموذجًا).
نَماذج
كثيرةُ هي النّماذجُ التي يمكن الاستشهاد بِها بوصفِها تجليّاتٍ لعمارةِ الباوهاوس، ولكننّا سنكتفي هُنا بالإشارة إلى بعضِها: لوحة "كرسيٌّ أفريقيّ" التي أنجزها في العام 1921، الفنان الأميركيّ مارسيل برونر (1902 ـ 1981)، وهي عبارةٌ عن كرسيٍّ منقوشٍ من الخشب، مُستلهمًا إيحاءاتِ الفنّ الأفريقيّ.
وَمنها، كذلك، العملُ الإنشائيّ "المنظّم الضوئيّ" ثلاثيّ الأَبْعاد الذي صمّمه عام 1930 الفنان المجريّ موهلِي ناجي باستخدام بلاسْتيك وَكروم وصفائِحَ معدنيّة.
إلا أن مقرَّ الْباوهاوس "الباوهاوس في دَاساو"، الذي صمّمه مؤسّس المدرسة والتر غِروبيوس ما بين عاميّ 1925 و1926، يبقى النّموذج الأكثرَ تمثيلًا لِسماتِ تلك العمارة بزجاجِ نوافذِه، وهيكلِه المكوَّنِ من الخرسانةِ المسلَّحةِ والطّوب، وأسقفِه التي تُشْبِهُ المشْروم، وإشراكِه الطّلبة في تنفيذِ الديكورِ الداخليّ لِلمبنى، وغيرِها من سماتِ عمارة الباوهاوس التي ما تزال تجدُ لَها موطِئ قدمٍ في قرنِ العالَم الواحدِ والعشْرين، ولَها مكاتبُ في أميركا (22 مكتبًا)، وبريطانيا (17)، وفرنسا، وألمانيا، ودولٍ أُخرى كثيرَة.
ولعلّ أعقدَ التباسٍ حولَ الباوهاوس هوَ شدُّها مِن شعرِها لتكونَ من ضحايا المحرقةِ النازيّة، على اعتبارِ أنّها هَرَبَتْ مِن أتونِ النّار، مع الذين هربوا من يهودِ ألْمانيا، إلى واحاتِ أميركا، إلى الحريّة والرأسماليّة والديمقراطيّة الانتقائيّة.
أمّا أهم سِمات مدرسة الباوهاوس، في ِرأيي، في العمارة والتّصميم وفنونٍ أُخرى، فهُو عكسُها الصّرامةَ الألمانيةَ الرائيةَ بِضرورة إزالةِ الحواجِز بين الأبعادِ الفنيّة لِلتصميم، وأبعادِهِ الوظيفيّة، ذاهبةً إلى أنّ الخطوط المستقيمة، والأقْواسَ الصّريحة، والعُلاقات الواضحة بين مفرداتِ المجسّم (البُنيان)، ما هي سوى ردّ فعلٍ على المُبالغة الزُّخرفية، والإسرافِ التشكيليّ التجميليّ.
رؤى ما بعد الحرب
ليسَ إلصاقًا فاقدًا لِلمعنى، ربطُ انبثاقِ عمارةِ الباوهاوس، مع تداعياتِ ما بعدَ الحربِ العالميّة الأُولى. صحيحٌ أن بعدَها المدرسيّ انطلقَ مع بداية الحرب في العام 1914، داخل مدينة فايمر (وسطَ شرقِ ألمانيا في ولايةِ تورنْغِن)، حيث كان مقرّها هناك، لكنّ اتضاحَ معالِمها الجوهريّة تجلّى في الزَّمان والمكانِ بعد انتهاء الحرب. وخِلال ذلك، جرى ما جرى من إقالةِ المهندس المعماريّ البلجيكيّ هِنري فَان دِي فيلْدي كليمَنس (1863 ـ 1957)؛ مِن إدارةِ مدرسة الفنِّ الصناعيِّ لِكونه بلجيكيًّا فقط لا غير، ثم تعيينُ المهندسِ المعماريِّ الألمانيِّ فالتر غِروبيوس (1883 ـ 1969) مكانه. كلُّ هذه الإرهاصاتِ، وغيرِها، أسهمت في تكريسِ سِماتٍ، من دونَ سِواها، للمدرسةِ التي ظلّت خلال الأعوام الّلاحقة للعامِ 1919 تتبلوَرُ، وتحدّدُ ملامحَها، وتتلمّسُ وجهاتِها. وبعدَ نفْي الآخرين الذي مورِس مع أوّل الحرب، عاد غروبيوس وانْفتح على العالَم، مستقدمًا لمشروعِ الباوهاوس أمهرَ المصوّرين والمِعماريين والمثّالين (النحّاتين) والصنّاع المُتميّزين، أمثال: الفنان التجريديّ الروسيّ فاسِيلي كانْدنسكي (1866 ـ 1944)، والرسّام الألمانيّ بُول كِلي (1879 ـ 1940)، والفنّان التجريديّ الألمانيّ/ الأميركيّ جوزيف ألْبرز (1888 ـ 1976)، والفنّان الهولنديّ بيِيت مونْدريان (1872 ـ 1944)، وغيرهم.
مسوّغات
هَدَفَت مدرسةُ الباوهاوس، بشكلٍ أساسيٍّ تأسيسيّ، إلى دمجِ مجالاتِ الفنون الجميلة والتطبيقيّة والحرفيّة، وبالتّالي، إزالةِ الحدودِ في ما بينها لتتجسّد كأنّها التوافقيّةُ بينَ الحياةِ والفنِّ، متبنيّةً هذا الهدفَ بوصفِه مسوّغها الوجوديَّ الأسطعَ تعبيرًا عن نفسِها، وتمثّلًا لِرؤاها وتطلّعاتها.
هو، إذًا، بحثٌ عن قواعِد صارِمةٍ تتناسبُ مع القرن العشرين، يقول غروبيوس حولَ ذلك: "يحتاج التصميمُ إلى تعاونِ الجهودِ جميعِها وتضافرِها، من دونِ التفرِقة بين فنٍّ جميلٍ وفنٍّ تطبيقيّ"، مقترحًا لتحقيق ذلك: وضْعُ تصميماتٍ مبتكرةٍ بطريقةٍ تناسبُ التقنياتِ الحديثةَ لمعالجةِ عيوبِ الصّناعة، تحقيقُ الجانبِ الوظيفيِّ مع الاحتفاظِ بالصفاتِ الجماليةِ للتّصميم لِتحسين الذّوق العام الألمانيّ، وبالتالي، ربّما، أراد أن يقول، الأوروبيّ، وحتّى، العالميّ، تماشيًا مع الروح الألمانيةِ السائدةِ أيامَها، الرائيةِ أنّها فوقَ العالَم، أو دليلُه الصّارمُ الحاسمُ الذي لا يأتيه الباطل من بينِ يديهِ وَلا من خلفِه.
من المقترحاتِ التي تبنّاها مؤسّسُ الباوهاوس، إلى ذلك: الجمْع بين الفنون المرئيّة والعِمارة، تحقيقُ الوحدةِ بينَ الفنونِ والحِرف وتحالفِ المهندسينَ المعماريينَ والمصورينَ والنحاتينَ، بغرضِ تشْييدِ المدرسةِ الناهضةِ من خلال عناصرِ البِناء كافّة، وأجزائِهِ جميعِها.
بِهذه المسوّغات، صار لِرؤىً معماريّةٍ جديدةً مدْرسة، وصار لَها أنصارَها، ومعالمَها، وصارَ لِهذه المدرسةِ أفكارَها الاشتراكيّة وقتَها، مستوفيةً مسوّغاتها بالدّعوة إلى المساواةِ بين الفنانينَ والحرفيينَ بعيدًا عن الطبقيّة، والنظرةِ الاستعلائيّة، متبنيّةً شكلًا من أشكال التّكافل الاجتماعيّ.
مسوّغاتٌ جميلة، وعناوينُ انطلاقٍ واعِدة، ولكنَّ السؤالَ الجوهريّ هُنا هو كيف تجسّدت هذه الرؤى والأفْكار في التصاميم المعماريّة التي أنجزها معماريونّ ينتمونّ إلى مدرسة الباوهاوس، أو تأثّروا بِها؟
عمارة الْباوهاوس
الابتعادُ عن الزخْرفةِ، والتركيزُ على الأشكالِ الهندسيةِ البسيطةِ مثلَ الدوائرِ والمكعّباتِ والخطوطِ المستقيمةِ، والتقليلُ من الفراغِ التعبيريّ التخيليّ، وتحييدُ مركزيةِ النسبِ المقدّسة، وتبنّي مفهومِ الاقتصادِ الهندسيّ، جعلُ العلاقاتِ البِنائيةِ في مرتبةٍ أعلى، وقيمةٍ أهم من المُنْتَجِ المعماريّ النهائيّ، وربطُ كلِّ ذلك بقدراتِ المُصمِّم المنظوريّةِ ورؤاه البصريّة.
كأني بالباوهاوسيينَ سَعوا منذ انطلاقتِهم، وفقَ فلسفةٍ براغماتيّة (يا فرْحةَ جون ديوي (1859 ـ 1952) البراغماتيُّ الأميركيُّ الأكثرُ صراحةً)، لِما يَسْهُلُ فهمُه، ويسهُلُ تنفيذُه، ويسهُلُ تبنّيه. وكأنّي بِهم، بحثوا، أساسًا، عن مِدْماكٍ محايدٍ يلبّي، كَما افترضوا، احتياجاتٍ وظيفيةً ونفسيةً جوهريّة.
حِيادٌ ذهبوا إلى أنّه محصلةٌ لِتطوّرِ آليات السوق، وتجدّد عروقِه، وفرضتهُ، إلى ذلك (هذا الحِياد)، عمليات الإنتاج الصناعيّ الضّخمة التي رأتْ النّور مع مطالعِ القرن العشرين، وقادَ إليهِ تسيّدُ الكمِّ على حسابِ النّوع، وانتشارُ التّنميطُ، وتغوّلُ التِّكرار، وصعودُ العقلانيّةُ المنطقيّة.
من تأثيرات الْباوهاوس على العمارة، إلى ذلك، توحيدُ المعاييرِ والتّجارب في المفردةِ المعمارية، العنايةُ بمفهومِ التصميمِ الصناعيّ، الابتعادُ عن التزيينِ والزُّخرفة، تجنبُ التقليدِ نحوَ الاعتمادِ على الوظيفيّةِ فقط لا غير، الاقتصارُ على الأساسياتِ والذَّهاب نحوَ البُعد العقلانيِّ في البِناء، الوضوحُ والبساطةُ وأحاديةُ اللون، تصميمُ زوايا قائمةٍ باستخدامِ الزّجاج المكوِّن للجِدار الستائريّ (غلافٌ خارجيٌّ لِلمبنى)، جدرانُه غيرُ إنشائيّة، يعزلُ قاطنيهِ عن الخارج، ويُصنع من مواد خفيفةِ الوزنِ لِتقليل كُلف الإنتاج، مع استخدام الفولاذ وبلوكّات الطّوب، ما يشكّل، بمجملِه، أنماطًا من المباني تتّسم بِالكفاءةِ والعقلانيّة.
هم يعتقدونَ أنّهم، في أبعادِ عمارتِهم الفنيّة والثقافيّة، وحتّى الفلسفيّة، بحثوا عن قواعدَ مشتركةٍ وقياسيةٍ للغةِ البصريّة، وَأعادوا الاعتبارَ للشروطِ الفسيولوجيةِ والنفسيةِ لِبني البَشَرِ واحتياجاتِهم الوظيفيّة.
دوّامةُ الأسئِلة
فَهل حقًا فعلوا ذلك؟ وَهل حقًا نجحوا في تمثّلِ عصرِهم، وما بعدَ عصرِهم، تمثّلًا معماريًّا مقنعًا وأخلاقيًّا؟ هل حقّق الحسُّ الهندسيُّ المتقشّف كلَّ هذه الشّعارات والتّنظيرات؟ هل فعل ذلك، هذا التوازنُ الصارمُ بين الصرحيّةِ والخِفّة؟ هل أدّى اِلْتحامُ الكتلِ الإسمنتيّةِ بِفراغاتٍ يحْميها الزجاجُ، المطلوبَ مِنه، وأفْضى، بالتّالي، إلى استقرارٍ منهجيٍّ تطبيقيٍّ كامِل؟ هل تجلّت الباوهاوس بوصفِها مدرسةً طليعيةً مستقبليّة؟
دوّامةُ أسئلةٍ تنتظرُ الإِجابة.
نعم، صحيحٌ أن الخراطةَ والّلحام أصبحا جزءًا لا يتجزأ من عناصر الوجود المعماريّ الساعي إلى تذويبِ القطيعةِ بين تلك العناصر، وأنّ دراسةَ الأبعادِ الرمزيّة والتعبيريّة انصهرتْ في عملياتِ التّشكيل والإبداع الفنّيِّ (قضايا التّكوين والإِيقاعِ والتّحليل البصريّ وبناءِ المشهد)، وأصبحت أكثرَ جديّةً وفاعليّة، لكنّ كل ذلك سارَ بالتّوازي مع منهجيةٍ حدّدت فضاءاتِ الالتِماعِ الإبداعيّ وَألْجَمَتها على صعيدِ المَبنى، ملتزمةً بِمعاييرَ غيرِ وِجْدانيةٍ على صعيدِ المَعنى.
مآثِر
لكنْ، والحقّ يُقال، لم يمضِ كلُّ ذلك من دونِ مآثِر لِمدرسةِ الباوهاوس لا بدّ من الإقرارِ بِها، ومنها، أنّه، وللمرَّة الأولى، يشيّدُ تقابلٌ أساسيٌّ بين عناصرِ الفنِّ التجريديّ، ومبادئِ الإنتاجِ الكمّيّ. ويُراعى الانتباهُ للتجاربِ المهنيّة الأساسيّة في تعاملِها مع الموادِّ الخَام الأوليّة، ما ارْتقى بالمادةِ الأوليّةِ إلى مصافِ كونِها أداةَ تعبيرٍ تواصليّةٍ بين مستخدمها ومتلقّي مُخرجاتِها.
ومن مآثرِ عمارةِ الباوهاوس اندماجُها في النسيج الحضاريّ والبيئيّ، واستخدامُ معمارييها وفنّانيها خاماتٍ مختلفةً ومتنوّعةً صبّت في مجملِها، وَعبْرَ قوالِبها المعماريّة، في صالحِ نظرةٍ كليّةٍ موحّدةٍ تجمعُ بين الحركيّةِ، والعمليّةِ، والوظيفيّة.
كما أن مدرسةَ الباوهاوس نَسَفَت الثوابتَ الكلاسيكيّة، داعِيةً إلى التّجريب وَحاضّةً عليه.
موجباتُ تعاطُف
وإنْ كان من موجباتِ تعاطفٍ مع المدرسة التي مَلأت الدّنيا وشَغَلت الناس، فهُو أنّها، ومنذُ انطلاقتِها، اصطدمت بالروحِ المُحافِظةِ لِبرجوازيةِ مدينةِ فايمر الألمانيّة، وأنّها أثارت خلال صيرورتِها عداوةَ الأكاديمياتِ التقليديّة. وخلال الزّمن النازيّ، لاحقَتها التُّهم (الترويجُ للأفكارِ الشيوعية، اتّباع سياسةٍ دعائيةٍ مؤيدةٍ للثّورة الروسية، وَما إلى ذلِك)، وَنُسِجَت لِتعطيلِها المؤامرات، ما أدّى إلى انتقالِ أكاديميّتها سنة 1925 إلى مدينةِ دِيساو الصناعيّة.
وَلا ننْسى من أبوابِ التعاطفِ معْها أنّها "ترعرعَتْ بينَ حربيْن" على رأيِ الفنان التشكيليّ والباحثِ والناقدِ السوريّ السوربونيّ أْسعد عُرابي، وأضناها التنقّل بين أميركا وأوروبا (محترفات الشواطئ الأوروبية، خصوصًا في إنكلترا).
عُرابي، على كلِّ حال، كان أشارَ في مقالٍ نشره له ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 25 نيسان/ أبريل 2020، تحت عنوان "التواصل بين الباوهاوس والعمارةِ العربيةِ الإسلاميّة"، أن المعرضَ الأوّل لِمدرسةِ الباوهاوس الذي نظّمه رائدُها غروبيوُس في العام 1923، شفَّ عن تأثرِ أهمِّ معروضاتِه، الواضحِ، في العمارة الإسلاميّة، خصوصًا اسْتلهامُها جمالياتِ مئذنةِ الملويّة في المسجدِ الجامعِ في مدينةِ سامِراء (سُرُّ مَن رَأى)، التي بناها الخليفةُ المنصور، وَقد تكون، بدورِها، امتدادَ تأثُّرٍ بِتقاليد معابدِ الزقوراتِ الحلزونيّةِ في الحضاراتِ العراقيّةِ القديمةِ (برجُ بابل نموذجًا).
نَماذج
كثيرةُ هي النّماذجُ التي يمكن الاستشهاد بِها بوصفِها تجليّاتٍ لعمارةِ الباوهاوس، ولكننّا سنكتفي هُنا بالإشارة إلى بعضِها: لوحة "كرسيٌّ أفريقيّ" التي أنجزها في العام 1921، الفنان الأميركيّ مارسيل برونر (1902 ـ 1981)، وهي عبارةٌ عن كرسيٍّ منقوشٍ من الخشب، مُستلهمًا إيحاءاتِ الفنّ الأفريقيّ.
وَمنها، كذلك، العملُ الإنشائيّ "المنظّم الضوئيّ" ثلاثيّ الأَبْعاد الذي صمّمه عام 1930 الفنان المجريّ موهلِي ناجي باستخدام بلاسْتيك وَكروم وصفائِحَ معدنيّة.
إلا أن مقرَّ الْباوهاوس "الباوهاوس في دَاساو"، الذي صمّمه مؤسّس المدرسة والتر غِروبيوس ما بين عاميّ 1925 و1926، يبقى النّموذج الأكثرَ تمثيلًا لِسماتِ تلك العمارة بزجاجِ نوافذِه، وهيكلِه المكوَّنِ من الخرسانةِ المسلَّحةِ والطّوب، وأسقفِه التي تُشْبِهُ المشْروم، وإشراكِه الطّلبة في تنفيذِ الديكورِ الداخليّ لِلمبنى، وغيرِها من سماتِ عمارة الباوهاوس التي ما تزال تجدُ لَها موطِئ قدمٍ في قرنِ العالَم الواحدِ والعشْرين، ولَها مكاتبُ في أميركا (22 مكتبًا)، وبريطانيا (17)، وفرنسا، وألمانيا، ودولٍ أُخرى كثيرَة.
ولعلّ أعقدَ التباسٍ حولَ الباوهاوس هوَ شدُّها مِن شعرِها لتكونَ من ضحايا المحرقةِ النازيّة، على اعتبارِ أنّها هَرَبَتْ مِن أتونِ النّار، مع الذين هربوا من يهودِ ألْمانيا، إلى واحاتِ أميركا، إلى الحريّة والرأسماليّة والديمقراطيّة الانتقائيّة.