هل يستطيع التابَع أن يتكلم؟ نعم، عبر الموت، هذا ما طرحته المفكرة الأميركية (من أصل بنغالي) غاياتري سبيفاك[1] . لكن ليس عبر أي موت، بل الموت من خلال قتل النفس، أو ما يسمى الانتحار، احتجاجًا على المنظومة الحياتية التي وُضِع داخلها الإنسان التابع. في عصرنا الحالي، عصر عبادة المشاعر كما يُسمّيه الفيلسوف الفرنسي ميشيل لَكروا، "التكلّم عبر الموت" لم ينحصر في المقاومة والسعي نحو التحرّر الجماعاتي فحسب، بل شمل أيضًا الموت من أجل الذات، وهنا تكون دوافع قتل النفس شخصانية، مثل نيل الاعتراف، العاطفي، المتمثل في تقدير الذات وحب الآخرين. في هذا المقال، نحاول طرح رؤى في تمثلات قتل النفس من أجل الاعتراف، سواء في التحرر الجماعاتي، أو الذاتي.
خلاص الجماعة
إنسان مهان لم ينل الاعتراف من دوائر السُلطة التابعة للدولة، أو المجتمع، بل ومنبوذ يعامل كأنه ليس له أي قيمة، يستطع أي إنسان ذو سُلطة صَفعه على وجهه. كان الحل هو إشعال النار في نفسه، من أجل الاحتجاج على الحياة اللامرئية المنبوذة التي يعيشها. ومن خلال هذا الاحتجاج، عبر الموت، قامت ثورة الياسمين التونسية. وهنا، قتل النفس يدخل حسب عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم، تحت مسمى الانتحار القدري/ Fatalistic suicide، وهو الذي يفضل فيه الإنسان الانتحار على أن يستمر في وجوده داخل الحياة الاجتماعية متمثلة في "النظام والمجتمع" اللذين يراهما أدوات قمع وتسلّط. هنا بوعزيزي، عبر الاحتجاج، قتل نفسه من أجل نيل الاعتراف. قتل نفسِه هو الاحتجاج الأول والأخير. احتجاج دخل حيّز القضايا الجماعاتية، عبر عن آخرين غير مرئيين، بل وتسبب بفعل ثورة وخلع نظام بن علي الديكتاتوري[2].
أيضًا، من تمثلات قتل النفس من أجل القضايا الجماعاتية عمليات القتل التي تحدث في فلسطين، لا سيما في القدس والضفة الغربية، والتي يقوم بها فلسطينيون بقتل مستوطنين إسرائيليين، سواء القتل عبر الدهس، أو الطعن، أو إطلاق الرصاص. هي عمليات، تعد قتلًا للنفس، انتحارًا قدريًا بشكل وبآخر. إذ هنا يعرف القاتل أنّه لا محالة مقتول، سواء وقتها، أو بعدها بقليل من الساعات، وهذا ما حدث في معظم العمليات التي نفذها فلسطينيون. هنا، قتل الآخر يعد قتلًا للنفس. دافعه نيل الاعتراف، المتمثل في السعي إلى التحرر. يرى بعضهم في قتل نفسه خطوة في مسيرة تحررية جماعاتية لا بد من خطوّها، على الرغم من أن هذا الفعل المقاوم انقسم إلى تضحية تأتي ضمن إطار فكري تنظيمي يسعى بشكل استراتيجي إلى التحرّر، وأُخرى تأتي مُطلقة من دون أي رهان سياسي، أو تحرري.
وهذه الثانية هي السمة الأساسية اليوم في قتل النفس. إذ إن منفذي عمليات القتل يعرفون أن لا تنظيم يقف وراءهم، ويوجد انعدام لأي سياسات استراتيجية تهدف إلى التحرر. هنا، تأسس رهان الموت على لا شيء سوى رفض وجود المُحتل، إنقاص المُحتل جسدًا، ليس إلّا. هذا أيضًا تجلى في عملية المُجند المصري محمد صلاح، حين نفذ عملية قتل جنود إسرائيليين في شهر مايو/ أيار الماضي، إذ قتل أربعة جنود إسرائيليين، وقُتل خلال الاشتباك معهم. لا يوجد أفق سياسي، أو تحرري، لمثل هذه العمليات، بل على العكس، النظام السياسي المصري الحالي هو الأكثر تقاربًا وتوافقًا مع النظام السياسي الإسرائيلي. إذن، لا يوجد أي دافع مؤسسي، سياسي أو مُجتمعي، رسمي أو غير رسمي، للإقبال على خوض عمليات قتال فردية، يعرف المُنفذ فيها أنّه سيُقتل مثلما سَيقتل. هذه هي التضحية المُطلقة، من دون أي أُفق مُشجع لها[3].
وهذا ما تعرفه العقلية الأمنية الإسرائيلية، ودائمًا ما تحاول السيطرة عليه. تجلّى هذا أيام هبة القدس (مايو/ أيار 2021)، إذ كانت الرسائل التهديديّة تتوالى على هواتف المقاومين المرابطين في الأقصى، خاصة سكان مدن 48، الذين يحملون الهُويات الإسرائيلية، حيث كانت تقول: "المخابرات الإسرائيلية رصدت أعمال شغبٍ، وسَتعاقب عليها"، في إشارة تقول للمقاومين الفُرادى أن الاشتباكات والفوضى ستنتهي، وسوف يحاسب كل فرد وحده، ويدفع ثمن مقاومته وحده. تحاول هذه التهديدات الأمنية إرجاع الفرد المُقاوم إلى هُوية الفردانية، الخلاص الفردي، لا الجماعاتي، تذكيره أنّه يقاوم من دون رهان سياسي، فلماذا يدخل معركة وحيدًا من دون تنظيم وأُفق.
خلاص الذات
في فيلم "هي فوضى" (2007) للمخرج المصري يوسف شاهين، يحاول بطل الفيلم، وهو أمين الشرطة (حاتم)، استمالة قلب جارته التي يهيم بها. وبعد فشله المُتكرر، اغتصبها، ومن ثم قتل نفسه. هذا القتل لو حدث بشكل قانوني أمام محاكمة عادلة، خصوصًا بعد اعتدائه جنسيًا على محبوبته (وهذا ما يتعارض تماما مع الحُب، الذي يؤخذ رضاء لا غصبًا) كان سيكون عاديًا بالنسبة للآخرين، ولن يتم التعاطف معه، شخص ارتكب جريمة وأخذ عليها عقابه. لكن ما حدث هو قتل نفسه، تخلص من ذاته المنبوذة من حبيبته، وطلب منها السماح، وبكى لأنه لن يراها مرةً أُخرى. هذا المشهد، مشهد قتل الذات نفسها، أعطى، نوعًا ما، تعاطفًا من الضحية، محبوبته ومن الآخرين. فقتل النفس، هنا، عبّر عن تضحية مُطلقة، من دون رهان على أي شيء، سوى نيل مشاعر الحب (الاعتراف) بعد الموت.
في عصرنا الحالي (عصر الثورة المرئية) يحاول الموت من أجل الذات أخذ نصيب من تمثلات قتل النفس. وهذا بعد اجتياح وسائل التواصل الاجتماعي الأشخاص والعلاقات، الفضاءات العامة والخاصة. الجميع الآن موجود، يعرض ذاته، عبر الصور، الفيديو. الجميع في انتظار تقييم الآخر له. الامتنان والإعجاب والانبهار لما يقدمه. هذه المشاعر المُوجهة للذات تُكملها، لا سيما الذوات التائهة والتي في حاجة إلى الاعتراف بها، عبر مديحها، أو أي تعبير يدلل أنّها مرئية موجودة.
وهذا ما يعرّف الذات التي لا تنال اعترافًا مرئيًا، كونها ذاتًا ناقصة، ويُمرضها بحالة من الاضطراب النفسي والمشاعريّ. بعد ذلك، تحاول الذات إثبات نفسها، عبر اللهث وراء كل شيء، بهدف إعجاب الآخرين. وهذا يتمثل في عرض الأعمال المهنية، سواء في الكتابة والرسم والغناء والهندسة، أو أيًا ما كان. عرض الجسد، المقولات، اليوميات البيتيّة. هنا الذات تُعري نفسها من أجل البحث عن نيل الرضى، اعتراف الآخرين الحسن بشأنها.
لكن في حالة إن لم يكن هذا المعروض مُجديًا، أو حتى لم يكن مجديًا بالشكل الكافي للذات، التي من المؤكد لن تشبع ولن ترضى، إلّا عندما تصبح مثل "أسطورة البطل المُنفرد"، كما يقول أستاذ علم النفس برايان ليتل[4]، كما أنها (في حالات بعينها) تنتظر هذا الإعجاب من آخرين بعينهم، وإن لم يُحصّلوه، تبقى ذواتهم ناقصة. كذلك الذات اللاهثة تسعى دائمًا إلى مزيد من الرضى والانبهار الأكبر. ساعتها تُفكر الذات (خصوصًا في حالة إن كانت مُشوهة ومُضطربة ومن حولها تتعرض للنَبذ والرفض)، في قتل نفسها، الخلاص من الذات، التضحية المُطلقة. وقتها هذه التضحية المُطلقة، والتي ستحقق تفاعلًا كبيرًا من الآخرين، كثير من الحب والتعاطف والرثاء لذات لم تجد حاضنًا آمنًا لها، وهذا، ربما، يكون دافعًا قويًا للذات المُضطربة والشاعرة بالنبذ لقتل نفسها، أو دافعًا لعرض عملية القتل نفسها على مرأى الجميع، مثلما فعل بعض المُنتحرين، في عرض قتلهم لأنفسهم في بثٍ مباشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
يُنمي هذا الدافع الفردانية (كأيديولوجية وممارسة)، والتي بدورها حلّت مكان السرديات الفكرية الكُبرى. استُبدل النضال من أجل الآخرين، للنضال من أجل الذات. ممارسة النضال التنظيمي من أجل الآخرين، كانت تتّسم بِوجود مرجعيات فكرية وحركية تُحدث الآخر، تُعارضه، الآخر المُتمثل في السُلطوية، السياسية، أو حتى الاجتماعية. وحول هذا يقول لَكروا على لسان الذات "بما أن العالم لا يمنحني فرصة للتأثير فيه، فإنه لا يبقى لي إلا أن أمارس قدراتي على نفسي" [5]. وهنا يصبح النضال من أجل الذات فقط، والذات هنا لا تُحدث سوى نفسها، تُجبرها على ممارسة أشياء من أجل تحقيق الاعتراف. الاعتراف الآتي من الآخرين. هذه الذوات تدخل دائرة ما يُسمّيه الفيلسوف السويسري من أصل كوري جنوبي بيونغ تشول هان، "مجتمع الاحتراق النفسي".[6] الجميع مُحترق يسعى للاعتراف أنه البطل المُنفرد، الذي لا شبيه له. وعند الفشل، يكون تدمير الذات، هو خلاص للذات نفسها من الألم، بما أن هذا الخلاص، ربما يحقق للذات مُرادها (الاعتراف وحب الآخرين)، حتى وإن كانت لن تستطيع رؤية هذا المراد.
العصر الحالي كما يسمّيه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، عصر انتهاء الشهادة، كما انتهاء البطولة، انتهاء التضحية بمسمّياتها وممارساتها المُختلفة[7]. وما يسود اليوم هو تمسّك مميت بالحياة، والابتعاد عن كل طرق الموت. لكن ما زال الخلاص له أصوات، عبر الموت، تتكلم، سواء جاء هذا التكلّم ضمن الخلاص الجماعاتي لقضية ما، قضية لها أفق استراتيجي للوصول لغايتها، أو حتى خلاص مُطلق، خلاص مقاوم يسبق، بلا أفق، الفعل السياسي، أو حتى خلاص ذاتي ينقذ الذات من متاهتها، عبر الموت، تحدث نفسها والآخرين. أنا هنا، أو أنا كُنت هنا، ولم أنل الاعتراف. إذًا، الخلاص هو الحل، من وإلى الذات.
مراجع
1 ـ غاياتري سبيفاك، هل يستطيع التَابع أن يتكلم، ترجمة خالد حافظي، ط1 دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع، السعودية 2020.
2 ـ إميل دوركايم، الانتحار، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، ط 1 دمشق 2011، ص 170، 265، 301.
3 ـ أحمد عبد الحليم، في التفكيك الناعم للمقاومة، موقع ضفة ثالثة، نشر في 4 أكتوبر 2021.
4 ـ برايان ليتل، أنا ونفسي ونحن: علم الشخصية وفن الرفاه، ترجمة وسام رجب، دار معنى للنشر والتوزيع، ط1 السعودية 2021، ص 180.
5 ـ ميشيل لاكروا، عبادة المشاعر، ترجمة أمين كنون، أفريقيا الشرق، المغرب، ط1 2017، ص28.
6 ـ بيونغ شول هان، مجتمع الاحتراق النفسي، ترجمة بدر الدين مصطفى، دار معنى للنشر والتوزيع، ط1 السعودية 2021، ص 58.
7 ـ زيغمونت باومان، الحياة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 بيروت 2016، ص 67.