Print
محمد جميل خضر

وهْران: رحلةُ الحَسَراتِ من العراقةِ إلى الإِهْمال

19 أكتوبر 2024
أمكنة
سألجُ إلى ضفافِ وهْران باعترافيْن، قد يكونا محرجيْن، ولكنهما، بالتأكيد، طريفان، والأهم أن لهما علاقة بالإبحار الذي اخترته عبورًا من خليج المدينة الجزائرية الساحلية العريقة الخصبة نحو تفاصيلها؛ الاعتراف الأول أورده على لسان زوجتي التي فاجأتني وأنا أورد لها اعترافي، أنها ظلّت، حتى فترة قريبة، ربما، تعتقد أن "الشرق الأوسط" الذي يتصارع الجميع حوله، هو الدوّار الذي يحمل الاسم نفسه (دوّار أو تقاطع الشرق الأوسط)، القريب من مخيم الوحدات في العاصمة الأردنية عمّان حيث كانت تقيم حتى زواجنا قبل 35 عامًا، وكانت تقول لنفسها هل يستحق الدوّار الصغير المؤدّي إلى أربع مقابر كل هذا الصراع والتسابُق والتزاحُم والمؤامرات وهَجْمَة القارّات! أما الاعتراف الذي يخصّني أنني عندما قرأت رواية "الطاعون" للفرنسي ألبير كامو ثمانينيات القرن الماضي، ظننتُ أيامها، وإن بعض الظن إثم، أن مدينة وهران التي تدور أحداث الرواية في ربوعها، ويستوطنها الموت/ الطاعون، هي مدينة فرنسية. وسبب الالتباس الذي وقعت فيه شابًا في العشرينيات من عمري مردّه أن الطبيب برنار ريو بطل الوراية وبطل تخليصها من الطاعون المُفترض (لم يغزُ الطاعون مدينة وهران على مدى تاريخها، بل عانت في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1849) من وباء الكوليرا الذي حصد أرواح المئات من سكانها حين كان عددهم قليلًا في ذلك الزمان)، يتحدث عن المدينة بصيغة الملكية (مدينتنا) ويصف الناس بأنهم (مواطنينا)، ولا يتطرّق ولا مرّة داخل صفحات الرواية الـ 302 صفحة، للمكوّن العربيّ الأمازيغيّ الجزائريّ داخل المدينة، وهو يقيم حوارات النص بمرجعيات فرنسية، ويؤسس هواجسه على أساس أن الناس في وهران (الذين تجعلهم الرواية فرنسيين بالضرورة)، يواجهون خطرًا واحدًا هو خطر الوباء الذي حصد بحسب أحداثها أرواح نصف سكّان المدينة، فلا خطر له علاقة باستعمارهم لِمدينة ليست لهم، ولا خطر آت من رفض المدينة لِعبودية الاستعمار، ولا خطر وجوديّ إلا خطر وباء مفترض. هي قصة محليّة، إذًا، (فرنسية بالضرورة)، يعالجها أحد رواة المدينة (الفرنسيين بالضرورة) من خلال تتبع ما قام به طبيبٌ بطلٌ من أبطالها (هو أيضًا فرنسي بالضرورة) في سياق مواجهته المحنة، ومن خلال إظهاره شجاعة هذا الطبيب الذي لم يهرب من واجبه المهنيّ المقدّس وكان يزور المصابين ويواصل الإقامة معهم لعلاجهم من جهة ورفع معنوياتهم من جهة ثانية!

جبال الأطلس 

سُقتُ هذه المقدمة الطويلة لأصل إلى استنتاج مفاده أن الاستعمار الأوروبي لمعظم بلادنا العربية، والاحتلال الصهيوني الإحلاليّ لِفلسطين يصدّق بضراوةٍ مريضةٍ أن بلادنا حق لهم، وهذا، تمامًا، أكثر ما يمكن أن نعاينَه حين تناولِنا مدينة وهران بالقراءةِ والتجْوال في معالِمها وتاريخِها وأقوامِها وتنوّعِها وَماضيها وحاضرِها المسكونِ بِحَسَراتِ تراجعِ المدينة، ورشْقِها بِالعشوائيات، وإدارةِ الظهرِ الرسميّ لها، وتحوّلِ معظمِ أبنائها إلى طيور مهاجرة، أو قلوب حائرة، أو أوجاع غائرة. لقد تعامل الأوروبيون على وجه العموم، والفرنسيون على وجه الخصوص، مع الباهية (أحد أسمائِها) بوصفها مدينتَهم (مدينة فرنسية، أو إسبانية)، حتى أن كثيرًا من الفرنسيين صعقوا عندما اندلعت فيها شرارة الثورة الجزائرية، والتحق صفوةُ شبابها بِالمقاومة، وبعضهم أصبح من قادة ثورة التحرير المجيدة، وفي المقدمة منهم أحمد زبانة (أول القادة المحكومين بالإعدام الفرنسي من الثوار الجزائريين)، ومن رموز "جبهة التحرير الوطني" إضافة إلى زبانة: العربي بن مهيدي، وعبد الحفيظ بوصوف، وزدور محمد إبراهيم قاسم ابن سي طيب المهاجي وغيرهم. "الغريب" في أوهامهم غير السويّة هذه أن المدينة استعصت مطالع القرن التاسع عشر على المستعمر الفرنسي الامبراطوري عامًا كاملًا بعد سقوط الجزائر في أيدي الفرنسيين بقيادة شارل العاشر ملك فرنسا غير المحبوب الذي احتل دولة بحجم الجزائر ومكانتها ومساحتها "لِتشتيت انتباهِ مواطنيهِ بعيدًا عن المشاكل الداخلية" بحسب ما يحلّل (ولا يحرّم) بعض المؤرخين، وكما لو أن الزمان يعيد نفسه، حيث يواصل محلّلون متفرّغون وخبراء غيرُ مُنتخبين تكرار فرضيات ممْجوجة حول أن نتنياهو إنما يواصل جرائم الإبادة الجماعية في غزّة ولبنان فقط من أجل تأجيل محاكمة جمهور عصابته له على  القضايا المرفوعة ضده، وعلى إخفاقه المدوّي في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر! فكيف يفرْنسونها وهي التي رفضتهم أكثر من غيرها، وقاومتهم بضراوة منذ أول أيامهم في بلادنا.
ولأن الاستعمار الفرنسي لِوهران كان لئيمًا واستحواذيًا وبِما يصل إلى الضم (الأبديّ)، فإن الانتقام الثوريّ الجزائري داخل حدود وهران كان عنيفًا حيث يُصرُّ المؤرّخون المأجورون على التطرّق إلى مذبحة دامية وقعت هناك يوم الخامس من تموز/ يوليو 1962، ضد من سرقوا المدينة واستباحوا أهلها ومقدراتها وميناءها عقودًا طويلة من الزمان.
قد لا يحمل اعترافي الطرافةَ التي حملها اعترافُ رفيقة دربي، لكنه يشير من دون مواربة إلى منهجيات الاستعمار، ويفكّك أوالياتِه، ويهرمسُ أجنداتِه، ويجعلني حين اكتشفت أن وهران جزائرية حتى النخاع، أرفع من شحنات غضبي (المرفوعة أصلًا) ضد كل استعمار، خصوصًا استعمار وهران فهو أبى أن يتركها إلا خرابًا، مشتّتة الوِجهات، ضائعةَ الانتماءات، ولولا تلامذةٌ أفْذاذ لأحد قاماتها الكبرى من طراز الإمام المجدّد سيدي الهواري (1350-1439)، ورجال آمنوا بعد الله بقدسية أرضهم وأرض أجدادهم، وفنانون بقيمة أحمد وهبي (1921-1993، واسمه الحقيقي أحمد دريش التيجاني) عميد الأغنية الوهرانية، ورفيق دربه الغنائي القامة الوهرانية بلاوي الهواري (1925-2017)، حيث الفقد والغياب والغائبين والثائرين والحنين لوطنٍ حرٍّ لا يحكمه الآخرون هي روح الموضوعات التي تجوب رحابها أغنيات الهواري ووهبي وكل من أسس ثقافة جزائرية أصيلة، وصولًا لفن "الراي" الجزائري الوهراني المتشبّع ثقافات الآخرين قبل أن يسكبها داخل الروح الوطنية الشجيّة الأبيّة المسكونة بأمواجِ بحر الحضارات جميعها، المحلّقة فوق أعالي الأطلس الكبير والأوراس، الرافضة أي ترويض كما هو حال نمور الجبال وأُسود الأسطورة الوهرانيّة الباقية.

جبل مرجاجو 

روح وطنية رافضة للاستعمار مهما تغطى بعناوين وادعى بريق علم، أو تقدم، أو مدنية، بدأ يلتقي روّادها في "مقهى الوداد" أربعينيات القرن الماضي. حيث بدأت تنمو بذور الروح الوطنية الجزائرية وتكبر براعمها، ليصبح المقهى الرابض في قلب المدينة مركز تجمعٍ للأحزاب التي كانت تمثل مختلف الاتجاهات في ذلك الوقت.  
بالنسبة لِسيدي الهواري فلا بد من نقطة نظام أقول فيها لأصحاب نظرية أن سيدي هواري ليس من وهران رغم احتفاء المدينة به وارتباطه بها، إن غليزان التي ينحدر الشيخ منها وينتسب إليها، كانت جزءًا لا يتجزأ من وهران، ثم جزءًا لا يتجزأ من مستغانم، ولم تصبح ولاية مستقلة (تضمّ 13 دائرة و38 بلدية) إلا في العام 1984، ما يعني أن السيّد من وهران وهي منه، ثم إن الرهان هنا ليس على المكان الذي ولد فيه الهواري، بل على المكان الذي تمثّلَ نهجَه، وحافظَ على إرثِه.    

حداءُ الوَجع...
في أغنيات مثل "يا المنفي" و"يا وهران رحتي خسارة" يطلع صادحًا نبض الوجع المقيم الذي يسكن حواري وهران جميعها ويرتدّ صداه من تلمسان غير البعيدة عن وهران، وإن كنتم في شكٍّ حول مدى تقارب الولايتيْن فما عليكم سوى سؤال الراحل عبد الملك مرتاض (1935-2023) الأديب والناقد والمفكّر والأكاديميّ الذي مثّل المدينتيْن، ومثّل الجزائر جميعها، خير تمثيل محليًّا وعربيًا وعالميًا.
حسن سلطان يندب المدينة مغنيًّا: "وهران وهران رحتي خسارة... هجروا منك ناس شطارة... قعدوا في الغربة حيارى... والغربة صعيبة وغدّارة... يا فرحي على ولاد الحمري... أولاد مدينة وسيدي الهواري... عدّيت معاهم صغري... ليهم غنّي طول عمري... محلا سهريات بلادي... القصبة والقلالي يصادي... يا اللي ماشي ليها غادي... وصّوا يتهلّوا في بلادي... عمري ما ننسى بلادي أرضي وأرض أجدادي... وصّيت أنا على الناس... تركوا دينهم وتبعوا الكاس... يكفينا من الكاس والمايدة... راها عشرة عشرة بلا فايدة... وعْدي على الطحطاحة وعْدي (الطحطاحة: ساحة بحي المدينة الجديدة الشعبي يتوسطها نصب تذكاري لشهداء الجزائر).... كان زينها زين الودادي... رجعت غمّة في فؤادي... وليت نبكي وانّادي..." وبصوته المتحشرج شجنًا شالعًا غنّاها أيضًا الشاب خالد باللحن نفسه وتقريبًا التوزيع نفسه.
أغنية واحدة كانت كفيلة بأن تجعل مدينة وهران الجزائرية، أو الباهية كما يحب أهلها أن ينادوها، أو يونيكا كولونيا (Unica Colonia) اسمها أيام الرومان، مدينةَ الوجع والغربة والحنين.
ومن أغاني المدينة أيضًا: "عالسلامة مضياف اليوم... زغرتي يا وهران"، و"وهران الباهية ليل ونهار الزاهية" لِليلي العباسي... ولسامية بن نابي: "وهران يا عز شبابي وصبايا"، و"يا بلاد سيدي الهواري" لِمريم عابد، كما غنّى لها الشاب مؤمن (أو مومن بالجزائرية المحكية)... بدوره الشاب خالد يغنّي متلوّعًا: "روحي يا وهران"... الشاب نجيّم "روحوا نزوروا... هيا نزوروا" المتضمنة دعوة لزيارة مقام سيدي الهواري... ولـ"سيدي الهواري... سيدي البشير" يغنّي الشاب حسني.





في سياق حدائِها المسكوب داخل مقامات اللحن يسطع في وهران لونان غنائيان واحد يحمل خصوصية وهرانية ساطعة هو "الراي"، وآخر يحمل نكهة مغاربية عامة هو "المَلْحون". والملحون هو كل شعر شعبي مكتوب باللهجة المغاربية سواء كان بدويًا أو حضريًا.
ومن شعراء المَلْحون: مصطفى بن إبراهيم مبدع الغزل المخبول (هذا اليوم سعيد مبارك يامنه)، محمد رمعون الندرومي الذي يغنّي للخضر العادل حبيب الشعب، عيسى بن علال الشلالي عاشق الهوى الشمالي، لخضر بن خلوف الراجي رضا المحبوب، عبد الله بن كريو الغواطي المتصاحب ملحونه مع نايات الروح، عبد القادر الخالدي (يا طويل الرقبة، وزندها يشالي وغيرها)، محمد بن قيطون الذي ضاع قلبه في هوى الملاح، محمد لحلو، محمد بن مسايب الذي أغانيه أعياد وأمازيغ، ميلود شقراني لمعسكري الملوّع بذي المرسَم المزيون، الهاشمي بن سمير الذي ذاق من الشوق مرّ اللوعات، أحمد بن تريكي (يا عشّاق الزين)، عبد القادر بطبجي (عبد القادر يابو علام)، قدور بن عاشور (ولفي مريم)، محمد الندرومي (قولي لي بالله يالشمعة) وغيرهم.  

معالِم... 
ميناؤها البحري الحيويّ الخليجيّ، ومجاورتها لِمدينة أرزيو النفطية، جعل منها حاضرةً اقتصاديةً مهمةً من حواضر الجزائر والمغرب العربي.
الباهية جارة جبل الأُسود... كان اسمها وادي الهاران... ومن أسمائها "إيفري" الكهوف المنثورة في خاصرات جبالها... الصنوْبر الحلبيّ الذي يطوّق نحر جبل مرجاجو يلقي عليها كل يوم تحية الصباح...
بِمناخها المتوسطيّ، وشمسِها الصافية المشرقة، تمدّ وهران يديّ ضفافِها للعذبِ من ماء الفرات... تقول للمشرق العربي البعيد في الجغرافيا القريب في الإرث والمصير إننا منكَ يا شرقَنا وأنتَ مِنّا.
النحّام الورديّ يجوب سبْخاتِها... يمشي مشي القيافةِ في أجلى معانيها... ولأنه مثلُ أبنائِها من الطيور المهاجرة، فسرعان ما يلوّح بما هو أقل من الوداع، وأقل من الاستقرار الممتد الراسخ في الأرض... يغيب النحّام ثم سرعان ما يعود... يصدمه ما آلت إليه المدينة من أسى... يرفرف مرّة ثانية نحو البعيد... تمامًا كما هو حال كل الغائبين الراغبين بالعودة من أهل وهران وشيبِها وشبابِها.

مقام السيد هواري 

ليس النحّام وحده من يواصل زيارة موئل الصوفية النضيرة، الكراكي أيضًا، وجمهرةٌ من الزقْزاقيات، ولا ننسى طائر الشهرمان بديع الألوان... يجيؤونَها من جبل طارق، حيث التاريخ يضرب صحوتَنا ضربَ المطارق...
حي الصيادين بروح إسبانية... مركب الأندلسيات... المرسى الكبير... في الشرق منها بلدات من مثل كاناستيل (المنزه)، وعين فرانين، وكريشتل... ولن ننسى رأس العين فلدينا في الأردن مكان يحمل الاسم نفسه.
نصف سكانها هذه الأيام من الشباب، والبركة كما يقولون في الشباب، ونحن ننتظر منهم إيقافَ حَسَرات المدينة ورسْمَ خططٍ واضحةِ المعالِم لاستعادةِ مكانتِها وروحِها والحفاظِ على إرثِها وتجديد عطائِها متعدّد الوجوه والحقول؛ في العمارةِ والنّضارةِ والتجارةِ والثّقافة (المسرح والموسيقى والغناء والأدب والرسم والموروث والخصوصية الشعبية).





في عمارتِها تنوّعٌ أخّاذ، وفيها، أيضًا، دلائل أن بعض من سكنوها حاولوا طمس عمارة من سبقهم (تشييد كنيسة مكان مسجد على سبيل المثال، وحاليًا تشييد مكتبة عامة مكان كنيسة).
معظم قِبابها ومقاماتِها وأضرحتِها تحمل روحًا صوفية لا تخفى على عيان. وأما غرباؤها فقد حظيوا بمقبرة تحمل اسمهم "مقبرة لغْريب".
تحيطها مساحات خضراء (كانت تحيطها أكثر ولهذا تكبر بين ضلوع أهلها الحسرة)... في قلبها بعض الحدائق التي تتجاور مع عشوائيات تُدمي القلب، منها متنزّه ليتونج بالحي العتيق سيدي الهواري (صار اسمه حديقة عبد الحميد ابن باديس) الذي (كان) يتضمّن عددًا من الحدائق المعلّقة على سفح شاطوناف، وهو اليوم مساحة لِبعض المِهرجانات ومتنفسًا للعائلات المخنوقةِ بِالعشوائيات.
كان للمدينة سور حصين، وَلها أبواب، ومن أبوابها "باب الواد" الذي يحمل اسم أحد أبواب بيت المقدس (سأفرد لاحقًا مادة مستقلة تلقي ضوءًا على المدن والمعالِم العربية التي تحمل الاسم نفسه، خصوصًا في بلاد الشام) وكان فيها حصون (منها حصن المرسى الكبير)، أما الإسبان فلم ينسوا أن يفردوا فيها مساحة لِمصارعة الثيران! وفيها بئر الجير، جبل مرجانو غربها، ومقام عبد القادر الجيلاني غرب قلبها وفوقَ قِمم وجدانِها.
المسرحي الجزائري عبد الله علولة الذي خطفه الإرهاب من وسطنا، استحق أن يحمل المسرح الوحيد في المدينة اسمه وهو صاحب الانتقال من العلبة الإيطالية إلى مسرح الشارع/ الحلقة/ الساحات. وفيها مسرح في الهواء الطلق يحمل اسم المغدور الآخر حسني الشقرون (أو الشاب حسني) وهُو مطرب جزائري حقق خلال سنوات قليلة حتى اغتياله في عام 1994 الأكثر دموية ضمن العشرية الجزائرية الدموية، شهرة عالمية (بدأ الشاب حسني مسيرته الفنية عام 1986، وطالته يد الغدر في 29 أيلول/ سبتمبر 1994، أي أن عطاءه لم يدم سوى ست سنوات). وعلى سيرة المسرح فلا بد من التعريج على الفنانة المسرحية الجزائرية الوهرانيّة المبدعة فضيلة حشماوي. وفي سايق الفنون يتميّز الخطّاط نور الدين كور (أو كور نور الدين) ابن وهران بأعماله المُتقنة على صعيد الخط العربي وحروفياته. ومن أعلامها أيضًا، البرفيسور نصر الدين براشد أستاذ الإلكترونيات في جامعة محمد بوضياف الوهرانيّة.
إلى ذلك تقام في وهران مهرجانات سنوية غنائية وسينمائية، إضافة لِمهرجانات خاصة بقصائد المديح النبويّ متأثرة بتاريخها الصوفي العريق، وأُخرى تتعلّق بِالورود متأثّرة بزمنِها الاستعماري الغابر.
والسؤال: لماذا لم يكن أبناؤها مثل الطّرفاء النبتة الأثْليّة المتوسطيّة الراضية المرضيّة التي تتكيّف مع ظروف المدينة جميعها، ولا تبْرحها قانعةً بقليلٍ من الخُضرة وكثيرٍ من ملح المدى؟         

لمْحة تاريخيّة...
أسلافها هم الطوارق الأمازيغ... تناوبتها الحضارات، الرومان والفرس وقبلهم الفينيقيون. بقيت وهران مهجورة عقود ممتدة من تاريخها، وصولًا إلى العام 902 ميلادية، عندما قررت مجموعة من البحارة العرب المسلمين الأندلسيين، وبدعم من أُمراء قرطبة، إيجاد مركز تجاري يربط الأندلس مع ولاية تلمسان الجزائرية، فاستوطنوا المدينة، واستصلحوا خليج المرسى الكبير وطوّروه.
حكمها يوسف بن تاشفين... ثم وقعت بقبضة قوات عبد المؤمن بن علي الكومي الموحديّة... حيث حظيت خلال حكم الموحدين بقدر معقول من الاستقرار والازدهار دام زهاء قرن من الزمان، طوّروا خلاله الميناء وجدّدوا أحواض السفن.
انطلاقًا من سنة 1609 وبعد صدور مرسوم الطرد من إسبانيا، رست عدة أفواج من الموريسكيين (العرب والمسلمين الأندلسيين) بِوهران لتصبح مدينتَهم وملاذَهم.
العثمانيون بدورِهم أدلوا بدلوهِم وأخذوا نصيبهم من المدينة وعلى فترتيْن.
نابليون منح يهودها الجنسية الفرنسية، ثم ضعوا، لو تكرمتم، ألف خط تحت هذه المعلومة.
نهايات القرن التاسع عشر كان عديدها 100 ألف داخل الأسوار.
كليمون اخترع فيها عام 1892 نوعًا جديدًا من البرتقال. التهجين جرى في حديقة دار الأيتام بمسرغين، فما كان من المبهورين إلا أن منحوا المنتج الجديد اسم كليمونتين. اختراع كليمون استهلّ أربعة عقود حتى نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، شهدت المدينة خلالها ازدهارًا استفاد منه المستعمِر تحت عيون المستعمَر المغلوب على أمره.
ولا ننسى أن المَرسى الكبير شكّل ساحة من ساحات معارك الحرب العالمية الثانية.

قالوا فيها...
ابن خلدون وصفها قائلًا "وهران متفوقة على جميع المدن الأخرى بتجارتها وهي جنة التعساء. من يأتي فقيرًا إلى أسوارها يذهب غنيًا". أما الإدريسي فقد أنصفها قائلًا: "وهران على حافة البحر، تواجه الميرية على الساحل الأندلسي ويفصلهما يومين من الإبحار. المرسى الكبير هو ميناء ليس له مثيل في كامل الساحل البربري، تقصده سفن الأندلس غالبًا. وهران وافرة الثمار. سكانها هم رجال أفعال، أقوياء وفخورين". بدورِهِ يقول ابن خميس إن المدينتين الساحليتين في المغرب العربي اللتيْن أعجب بهما هما "وهران خازر وجزائر بولوغين".
ليون الإفريقي قال فيها: "وهران مدينة كبيرة تتوفر على مرافق وجميع أنواع الأشياء اللائقة بمدينة طيبة كالمدارس، الحمامات، المستشفيات والفنادق، يحيط بالمدينة سور جميل عال".
الكاردينال الإسباني غونزالو سيسنيروز (فرانثيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس) الذي وصلها بهدف ضمّها للزمن الكاثوليكي، وبعد أن وقعت عيناه وقلبُه على المدينة ومشاهدِها وروعتِها، هتف قائلًا "هذه أجمل مدينة في العالم"، ثم شَرَعَ ببناء كنيسةٍ على أنقاض مسجد ابن البيطار.
و"نشوفك يا الباهية قدّامي … الرقيب بصره عامي... والحسود في غفلة وأنا معاك تحت خيام الليل المخيمة".
تحاول عاصمة الراي الجزائريّ إعادة رسم ملامح زهوها الذي كان... تتهجّى، مستعينةً بروح شبابها، مفردات تجفيفها منابع الحسرات... ترصد إدارتُها ميزانية إيقاف الهجمة العشوائية في البناء والعمل وفي التعامل مع الخدمات المدنيّة، ومع موزاييكِها متنوّع المشارب ومتعدّد الأصول... تحسِب الكُلفَ عاقدةً العزْمَ أن تنهضَ المدينةُ من جديد وأنْ تحيا الجزائر.