Print
محمد جميل خضر

الحرب والعمارة: غزّة نموذجًا... غزّة دائمًا

18 مايو 2024
عمارة
من فوق جبل المِنطار، دكّت المدفعية العدوانية البريطانية التي كانت منصوبة هناك آثار غزّة التي تعدّ من أقدم المدن التي شيّدها الإنسان، ودمّرت كثيرًا من معالمها الثقافية والعمرانية والحضارية في أحياء الدرج والزيتون والشجاعية. جريمة مروّعة ارتكبها التحالف الاستعماري ضد الدولة العثمانية وحواضرها في الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918)، فهل كان مشهد التدمير ذاك معزولًا عن سياقاته التاريخية والوقائعية والميدانية حول آثار الحروب على العمارة؟ طبعًا لا، ولكن التدمير المنهجي الذي تعرضت له غزّة المدينة (القلب الحضاريّ الحضريّ التجاريّ النابض الذي يحتوي على 400 مبنى أثريٍّ وتاريخيٍّ)، وغزّة القطاع، يكشف عن نيّة مبيّتة من لدن أعدائنا جميعهم لاستهداف عمارة غزّة على وجه الخصوص، بالقدر نفسه، إن لم يكن أكثر، الذي استُهدف به إنسان غزّة من أوّل الزمان وحتى هذا الزمان.

ولكن لماذا عمارة غزّة؟

لأن عمارة مدينة ما تضيء المدى المدينيّ والحضاريّ والثقافيّ والاقتصاديّ والجماليّ والوجدانيّ الذي بلغته هذه المدينة، أو تلك. ولأن مدينة غزّة أغاظت أعداءها بغض النظر عن دوافع عدوانهم على إحدى أهم حواضر كنعان المؤسس؛ أغاظهم رسوخُ مبانيها، شكلُ تجاورها مع البحر، وبِما يبزّ في نواح عديدة حتى تجاور حيفا ويافا مع البحر نفسه، أغاظهم دفءُ سكناها، الدهشةُ الطالعةُ من معالمِها الأثريّة والعمرانيّة القديمة والجديدة.

تدميرٌ منهجيٌّ

على أن كل الدمار الذي تعرضت له غزّة على مدى التاريخ كوم (بما في ذلك الهجوم المغوليّ في القرن الثالث عشر)، والدمار الذي تتعرّض له حاليًا (منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023) كوم؛ فالتدميرُ الحاليُّ منهجيٌّ (مُمنهج) يستهدف عن سبقِ إصرارٍ وترصّد معالمَها الثقافية وأوابدَها التاريخية والأثرية. وبحسب ما أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية، فإن 32 مؤسسة ومركزًا ومسرحًا في قطاع غزة تضرّرت بشكل جزئي، أو كامل، من جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل ضد الفلسطينيين، بالإضافة إلى عشرات المباني الأثرية والتاريخية والمتاحف، ومئات اللقى والمعالم التراثية. وقالت الوزارة في بيانٍ بِمناسبة "اليوم العالمي للتراث" إن أضرار المؤسسات الثقافية في غزة شملت أيضًا: "تدمير 12 متحفًا، وتخريب ما يقارب 2100 ثوب قديم، وقطع تطريز من المقتنيات الموجودة في المتاحف، أو ضمن المجموعات الشخصية". كما تمّ بحسب البيان "هدْمُ قرابة 195 مبنى تاريخيًا يقع معظمها في مدينة غزة، منها ما يستخدم كمراكز ثقافية ومؤسسات مجتمعية، بجانب تضرر تسعة مواقع تراثية، و10 مساجد وكنائس تاريخية تشكل جزءًا من ذاكرة القطاع".
ويبدو أن كنيسة القديس بريفيريوس تشكّل هدفًا مغريًا في كل مرّة تتعرّض فيها غزّة لِعدوان، وكما فعل العدوان البريطانيّ عام 1914، فعل العدوان الإسرائيلي الأمر نفسه بعد 110 أعوام؛ فالكنيسة التي تقع في حيّ الزيتون شرقي مدينة غزة، والتي تعدّ ثالث أقدم كنائس العالم، حيث بُنيت في بداية القرن الخامس الميلادي، وسمّيت بهذا الاسم نسبة للقديس بريفيريوس الذي نشر الديانة المسيحية في قطاع غزة، تعرّضت في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لقصفٍ من طائرات الاحتلال الإسرائيلي، ما أدّى إلى ارتقاء 20 شهيدًا، وجرح عدد كبير من المدنيين، إضافة إلى إصابة قاعاتها الرئيسية بِأضرار جسيمة.
الكنيسة العريقة، وحتى الترميم العثماني في عام 1895 (وهو الترميم الذي منحها شكل سفينة)، كانت تحظى بطرازٍ معماريٍّ بيزنطيٍّ، وتزيِّن جدرانَها وسقفَها المقبّب المرفوع على أعمدة رخامية صورٌ ورسوماتٌ لشخصياتٍ مسيحية كان لها أثر مهم في التاريخ، مثل الملكة هيلانة، بالإضافة إلى نقوشٍ وتراتيلٍ تروي محاربة القديس بريفيريوس للوثنيينَ في غزة، ونشره الديانة المسيحية في القطاع بأوامرَ من الإمبراطورية البيزنطية. ويتلاحمُ برجُها بمئذنةِ المسجد التاريخي "كاتب ولاية".

يريدون خاسئين أن تصبح الخيام الهوية المعمارية الوحيدة للقطاع 

أما لماذا تتعرّض كنيسةٌ لكلّ هذا العدوان من بريطانيا (المعمدانية) و(إسرائيل) الصهيونية؟ فلا جواب واضحًا عندي إلا أنهما يعبّران بعدوانهما الفاضح على كنائس غزّة، عن رفضهما لِتاريخيّة المدينة، وبعدها الحضاريّ الجامع الساطع. ولأن وجود هذه الكنائس كل هذه القرون ينسف أكاذيبهما وأكاذيب الغرب الاستعماري كلّه حول تطرّف غزّة وإرهابية أهلها.
كنيسة بيزنطيةٌ أُخرى يعود تاريخ بنائها إلى عام 444 ميلادية، تعرّضت في القطاع إلى تدميرٍ صهيونيٍّ مقصود وَممنهج، وهذه المرّة شمالًا، حيث جباليا وأهلها يذيقون العدو المهزوز ويلاتٍ منوّعةً وغيرَ مسبوقةٍ. الكنيسة التي تتكوّن من ثلاثة أرْوقة (رئيسي وأوسط (للصلاة)، وثالث للتعميد)، وتحتوي أرضيتها على لوحات فسيفساء تضم نقوشًا وزخارفَ هندسيةً تروي قصص الحياة في العهود القديمة، استهدفتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي خلال العدوان الحالي، ما أدّى لأضرارٍ جسيمة وتصدّعات تهدّد بُنيتها الأساسية.




في حيّ الزيتون أيضًا، وأيضًا، تعرّض حمّام السّمرة لِعدوان قصفيٍّ غاشمٍ أدّى إلى تدميره بشكلٍ شبْه كامل. والحمّام الذي أنشئ في العهد العثماني على مساحة 500 متر مربع، ثم أعيد ترميمه وتجديده في العصر المملوكي، على عهد الملك سنجر بن عبد الله المؤيدي، وسمّي بهذا الاسم نسبة للسامريين الذين عملوا فيه لفترة من الزمن، يزهو بِعمارة أخّاذة تشمل شكله الخارجيّ وتوزيعه الداخليّ، إذ تتوسّطه داخليًّا نافورة مياه ثُمانية الشكل، تعلوها قبّة معشّقة بفتحاتِ زجاجٍ ملوّنٍ يسمح بِمرور ضوء الشمس، وتتّصل القاعة بممراتٍ تقود لإيواناتِ تغييرِ الملابس ومغْطس المياه الدافئة وحمّام البخار، ثم سُلَّمٌ لِأعلى يُطل على القِباب والأخشابِ التي تستعمل وقودًا لتسخينِ المياه.
في سعيٍ محمومٍ لِطمس الهوية الفلسطينية، ومحوِ كلِّ متعلّقاتها من المكان والزمان والذاكرة، استهدف العدو الصهيوني من ضمن ما استهدف "بيت السّقا الأثريّ" الواقع في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، الذي شيّده أحمد السقّا، أحد أكبر تجّار غزّة حينها، في القرن السابع عشر (تحديدًا عام 1661) في عهد السلطان العثماني محمد الرابع، وكان في الزمن القديم ملتقى لِتجار غزّة.
تبلغ مساحة بيت السّقّا حوالي 700 متر مربع، له باب رئيسي طوله متران، وساحة من دون سقف بلاطها رخامي، ومَضافة، وبعض الغرف الأخرى، يحتوي على سلم ينقسم إلى شقّين يؤدّي كل منهما إلى غرف معيشة تتزيّن بأقواس حجرية. وهو يتميّز بقبابِهِ المقوّسة التي تتدلّى منها الثريّات ذات الطابع الأثريّ القديم. كما يتميّز بحجارتِهِ الرُخامية وأعمدتِهِ الرومانيّة. استخدم في بناء البيت الحجر الرمليُّ والمقدسيُّ، وحجر الكِركار، ويحتوي سقفُهُ على رملٍ محشوٍّ بالفخّار، وهو ما يجعله باردًا في الصيف، ودافئًا في الشتاء.
بقي أن نعلم أن العدوان الجديد على بيت السّقّا ليس أوّل عدوان عليه، فقد تعرّض لقذيفة في عام النكبة، وتعرّض لعدوان في حرب 2014، حيث أعيد ترميمه وقتها وتحوّل إلى مركز ثقافي، إلى أن جاء التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ليكون البيت على موعد متوقّع لكل من يعرف منهجية العدو العقائديّة الحاقدة، مع عدوان جديد ومحاولة هدمٍ جديدة.
وكما أسلفنا، شمل العدوان القصفيّ استهداف معالم أُخرى كثيرة، من بينها، كما أوردنا، المسجد العمري، ومسجد السيد هاشم، وغيرهما، وغيراتهما.

تاريخٌ من الكراهية

الحجم المهول من تقصّد تدمير آثار غزّة المدينة والقطاع يكشف عن عقلية استعمارية احتلالية إحلالية حاقدة. وبمرورٍ سريعٍ على ما تعرّضت له المدينة وما حولها خلال الحرب العالمية الأولى، كما أسلفنا، على سبيل المثال، سنلحظ أوّل ما نلحظ استهداف حواضر بعينها بشكلٍ متكرّر، والكشف عن دلالاتٍ بعينِها من وراء كل هذا الاستهداف كمًّا ونوعًا.

كنيسة القديس بريفيريوس تزهو بعمارة أخّاذة 

في الحرب العالمية الأولى، دافع العثمانيون عن غزّة بشراسة، وقتلوا عند أسوارها ثلاثة آلاف من جنود العدوان التحالفيّ الأوروبيّ/ الأميركيّ/ الروسيّ. التحالف من جهته، ردّ على الدفاع العثمانيّ المستميت بدكِّ المدينة وأحيائها، خصوصًا آثار حي الزيتون: مسجد الشيخ منصور، مسجد كاتب ولاية، مسجد محمد العجمي، مسجد الشمعة، وكنيسة القديس بريفيروس. حي الدرج، بدوره، لم يسلم من العدوان المدفعيّ الحقود، فدمّر العدوان التحالفيّ الجامع العمري الكبير، وجامع السيد هاشم، إضافة إلى مساجد أخرى وزوايا منها زاوية الشيخ محمد الهلّيس، ومسجد القلعة، ومسجد الشيخ تاج الدين الباز. أما في حيّ الشجاعية فقد دمّر العدوان مساجد المِنطار، والسيدة رقية، والظّفردمْري.




بعد الحرب، وبعد تقسيمةِ سايكس بيكو، تولّى الانتداب البريطاني الاستعماري الذي جثم فوق صدر غزّة 30 عامًا؛ من عام 1918 وحتى عام 1948، أمر التدمير والتخريب تحت حججٍ وذرائعَ واهِية. فعلى سبيل المثال، هدم جامع الشيخ الأندلسيّ، وحمّام المباشر، تحت ذريعة شقّ شارع فهمي بيك، علاوة على ما تعرّضت له آثار غزّة وحواضرَها وأوابدَها خلال فترة الانتداب من إهمال؛ مساجد وزَوايا وتَكايا وأسْبلة وحمّامات وخَانات وقصورٍ ومَقابر بدأت تتداعى ويعْتريها الخراب، وصولًا للانهيار، ومن ثمّ الاندثار. بعضها تحوّل إلى خِرَب (جمع خِربة، أو خرابة)، وقليلٌ منها حوّله طمّاعون غير مسؤولين إلى دَكاكين، أو لِملكية خاصة بوضع اليد.
في فترة الإدارة المصرية من عام 1948 إلى 1967، وبسببِ شقِّ شارع الوحدة الموازي لِشارع عمر المختار من جهة الشمال، جرى هدم سُوباط المفتي، ومسجد الشيخ فرج ومقامَه، وهُدِمت أسوار المدينة القديمة. كما قررت الإدارة المصرية حلّ الأوقاف الأثرية، فَبِيع على إِثر ذلك القرار (غير المفهوم) "أجمل آثار المدينة"، مثل بيمارستان المنصوري (هو نفسه خان الزيت في فترة زمنية لاحقة لزمنِ البيمارستان في قلب المدينة). هذا الأثر التاريخي المهم والبديع هُدِم وتحوّل إلى عمارة سكنية!
في عدوان عام 2008، هُدِم قصر الضيافة، ومجمّع السرايا العسكري الذي دمّره سلاح الجو الصهيوني بالكامل تقريبًا. أما مبنى محكمة بلدية غزّة (من المباني ذات القيمة التاريخية) فقد تعرّض لتدميرٍ جزئيٍّ.

سماتٌ وتحوّلات

غزة كانت تتميّز قديمًا بسماتٍ عمرانية لافتة، منها: الوحدة العضوية، التنقّل التدريجيّ للفراغ من العام إلى الخاص، توجّه المباني للداخل، تعرّج الشوارع النافذ، ومنها غير النافذ، معظم مداخل طرقها مغلقةٌ بِعقود، اتّسام نسيجها العمرانيّ بِالبساطة، بِما يعكس وظائف المكوّنات المختلفة لِمبانيها وعاداتها الاجتماعية السائدة، كما أن المباني العامة كانت، في الغالب، هي نواة التشكيل العمرانيّ المحيط بِها.
اليوم، وبعد كل ما تعرّضت له من تدميرٍ وأضرارٍ بشريّة، أو طبيعية، مقصودة أو غير مقصودة، فقد بات نسيجُها العمرانيّ والحضريّ المعاصر يتكوّن من وحداتٍ منفصلةٍ لا يوحّدها اتصالٌ عضويٌّ، وشوارعها اليوم عريضةٌ ونافذةٌ، ومبانيها متوجّهة نحو شوارعها، ولا يخلو الأمر من تعقيدات تعتري بعض أشكال مبانيها وَبما لا يتماهى مع وظيفيّتها (أشكال لا تعبّر، بالضرورة، عن وظيفة المبنى).
على كل حال، فإن أهم العوامل التي أسهمت بالتغيرات المنظورة في العمارة الغزّيّة هي النموّ السكانيّ المضطرد وغير المسبوق، تقدم تكنولوجيا البناء، تطوّر وسائل المواصلات، إلا أن الحروب التي عاشتها غزّة بدءًا من الحرب العالمية الأولى (الحروب القديمة التي خاضتها، أو تعرضت لها غزّة، لم تكن أسلحتها مدمّرة للعمارة بهذا القدر الحديث والمعاصر)، ما اضطر أهلها في حالات بعينها إلى هدمِ مباني حجرية قديمة، واسْتبدالها بِمبانٍ خرسانية. كما أن نكبة عام 1948 أدّت إلى انتشار المخيمات في غزة وما حولها من مدن القطاع، وإقامة بعضها (داخل غزّة البلد) على شكل عشوائيات من دون تخطيط مسبق، كما هي حال مخيم الشاطئ، الذي أقيم جزءٌ مهمٌّ مِنه فوق أراضٍ حكومية، وعلى أنقاض مواقع أثريّة (يقال إن تحت مخيم الشاطئ آثارًا مهمة لم يكشف النقاب عن معظمها، وبعضها لم يحظ باللازم من أعمال الترميم والصيانة)، وكل هذا وذاك (الحروب، أو تداعياتها، أو متعلّقاتها) أسهم بإحداث شرخٍ وجوديٍّ في عمارة غزّة، وأصاب تطلّعاتها نحو تأسيس هوية حضرية حضارية عمرانية معمارية تخصّها وحدها وتعكس عمقَها الحضاريّ والمعرفيّ والتاريخيّ، بضررٍ بالغ، لن يقف في وجهِهِ إلا إرادة أهلها التي بات الواحد منّا يراهن عليها (تلك الإرادة) وهو مُغمض العينين.
بقي أن أقول إنني لم أسهب في تشعبات موضوع أثر الحروب في العمارة الإنسانية، وقضايا إعادة الإعمار، وما أفضت إليه الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، من ظهور الاتجاهات الواقعية في العمارة الحديثة، بهدفِ التصدّي للدّمار الذي خلفته الحرب، وما حملته هذه الاتجاهات من تنميط وتكرار وتوحيد قياسيٍّ وامتداد رأسيٍّ وتنامي أولوية الوظيفة على حساب الشكل وسِمات أخرى. وما أفضت إليه الحرب، كذلك، وفي المقابل، من ظهور الاتجاهات العاطفية التي عكست ردود فعل غاضبة، وشملت أساليب تعبيرية وإيحاءات حسيّة وظهور مجموعة الطراز De Stijl، وما إلى ذلك من تأثّرات عمرانية معمارية بالحرب وويلاتها، لم أسهب، ولن أفعل، فغزّة تشكّل نموذجنا، وغزّة أوّلُنا وآخرُنا.