Print
وارد بدر السالم

سنجار: سرديات ما قبل التاريخ

24 مايو 2024
أمكنة

 

(1)

سنجار قرية تحت جبل. غيمة خضراء انفصلت عن السماء، وحطّت على أرض خصيبة لا تعرف إلا الحياة والنمو والإثمار في أشجار الزيتون والجوز. هذا هو ملمح عابر من تاريخها الجغرافي. فما بين الجبل والأرض أيزيديون عراقيون قال التاريخ عنهم كثيرًا. اختلف الباحثون فيه وتناقضوا وتشتتوا في مراجعهم ومصادرهم، عراقيين وعربًا وأجانب. لكن الجغرافية الخضراء المحيطة بهم قالت إنهم أهل الأرض، وأحد الأقوام الأصيلة التي سكنتها، مزارعين وفلاحين وطقوسيين دينيين مسالمين، يقتفون آثار نوح عليه السلام كأبناء لأبٍ روحي، معتقدين بأنه عاش في بلاد ما بين النهرين، في "عين سفني"، حيث بنى سفينته العظيمة، فاتخذوا منه مثالًا يعمّر أرواحهم بالإيمان ويصلهم بالسماء التي لا يعبدون غير الله فيها. مثلما يعتقدون أن النبي إبراهيم الخليل هو الذي أسس الدين الأيزيدي ونشر مبادئه ومقدساته. وفي هذا يتفق الباحث الأيزيدي زردشت جعفر في أن النبي إبراهيم كان من معتنقي الأيزيدية كدين، وقوميته كردية، كونه ولد في (أورفا) الكردية. وقد يبدو هذا خيالًا في الاستنتاج، فالنبي إبراهيم كان ذا ديانة حنيفية مسلمة، حتى وإن كان كرديًا، أو كلدانيًا.
الإله الذي يؤمن به الأيزيديون هو ما نؤمن به نحن المسلمين والمسيحيين واليهود، بوصفه كلي القدرة. مصدر كل شيء، ولا شيء خارج إرادته كما يذكر الباحث هوشنك بروكا. لذلك من الطبيعي أن يكون الدين الأيزيدي موغلًا في التاريخ القديم (3500 ق.م) معاصرًا للديانات الطوطمية والأسطورية والشفاهية، متأثرًا بقليل أو بكثير من عباداتها في ما يخص عبادات الظواهر الطبيعية، فانتشر مع الأجيال في الجبال متركزًا في سنجار وبعشيقة على وجه الخصوص. وترك إلى الحاضر بعض مظاهره الأثرية الدينية، كمزار لالش النوراني في منطقة شيخان، وهذا المكان تحفة جبلية خضراء، تغمره الأشجار والأمطار والظلال والينابيع المتدفقة ورفرفة الطيور، حيث يرقد فيه ضريح الصوفي عدي بن مسافر، الأب الروحي المعاصر للأيزيديين، كمطور للدين الأيزيدي، وهو الذي دارت الاساطير والخرافات حوله كثيرًا، حتى عدّه بعضهم إلهًا، وصوّره بعض آخر على أنه صعد إلى السماء وأكل خبزًا وبصلاَ مع الخالق.
أمام مثل هذه الأساطير المتناقلة بين الأجيال، يطرح الباحثون أسئلة طبيعية عن ماهية الأيزيديين، فإن كانت ديانتهم سماوية فمن هو نبيهم. وإن كانوا ديانة وضعية فأين كتبهم المعتمدة والمقدسة. ثم ما هي حقيقة تأليههم ليزيد بن معاوية. وهل هم حقًا فرقة منحرفة عن الإسلام غايتها إعادة الحكم إلى الأمويين من العباسيين. مثل هذه الأسئلة المعتادة لا تنفي بأن معظم الباحثين يُرجعون الأيزيدية إلى الالف الثالث قيل الميلاد، ومن بقايا أقدم ديانة كردية من منطقة الحضارات العظمى، أي المعتقدات السومرية ــ البابلية القديمة. وهذه الإعادة التي يكرّسها المهتمون بالشأن الأيزيدي تنفي صلتهم بأية ديانة سماوية، بوصفهم موجودين قبل تاريخ الديانات الثلاث المعروفة بكتبها المقدسة (اليهودية ــ المسيحية ــ الإسلام)، بما يعني أن لهم صلة بالتاريخ الأسطوري والخرافي والشفاهي الذي تكشف البحوث الأركيولوجية بعضًا من متروكاتهم الأثريةً، لتغيّر كثيرًا من مفاهيم الوجود الديني والاجتماعي والشعائري لهم. وبالتالي، فإن القراءات الكثيرة لهذا المكوّن الديني والاجتماعي في سردياته العراقية القديمة جدًا له صلة بما قبل التاريخ المدوّن. وتكون القراءات له متباينة ومتناقضة وغير دقيقة في أحيانٍ كثيرة.

(2)

شنت "داعش" حربًا على الأيزيديين بذريعة أنهم ليسوا مسلمين، ويقدسون "الشيطان"


سنجار في تكوينها الجبلي الأخضر الجبلي المزدوج الذي يسكنه الأيزيديون العراقيون منذ قرون كان مجهولًا إلى حد كبير، بين أن تكون قرية زراعية، أو قضاءً إداريًا تابعًا لمحافظة نينوى، أو بلدةً لها سمات المدينة والقرية والطبيعة الفطرية. حتى في العراق كانت سنجار مجهولة كأي مكان بعيد عن المدن غارق في الطبيعة الجبلية يمارس دينًا أرضيًا غريبًا، وسكانه قليلو الاختلاط مع الآخرين من غير الدين الأيزيدي، لكنها تحولت بين ليلةٍ وضحاها إلى مكان عرفه العالم كله، وتناقلت مأساته وكالات العالم في أخبار متسارعة عام 2014، إذ خرجت سنجار من محليتها الغامضة والمهمّشة إلى أفضية العالم الواسع، وهو يتابع حلقات الكارثة فيها، وتوقف في أبرز محطاتها المروّعة من إبادة جماعية وترويع وترهيب وسبي وقتل واغتصاب، باحتلال داعش لها بتاريخ (3 أغسطس 2014) ليفرض على السكان المسالمين معتقدات محورة وهزيلة كان أحلاها مرًا. عندما قتل رجالها، واستعبد أطفالها، وسبا نساءها واغتصبهنّ، وباعهنّ في سوق الرقيق بين الموصل والرقّة السورية بطريقة مُهينة لا تمتّ إلى الأخلاق والدين بصلة، ولا تنتمي بأي شكل إلى الحضارة الإنسانية في قرن التطور العلمي والتكنولوجي والإلكتروني. وهذا يستدعي توضيحات مبسطة بشأن الأيزيديين وديانتهم، غير أننا نعرف سلفًا أن مثل هذا يستلزم كتابة مصدرية موسعة لا يتسع المجال لها هنا.

(
3)
سنجار هي شنگال باللغة الكردية.
مكان سكاني استثنائي شهد أثقل مأساة استثنائية عرفها التاريخ المعاصر، ودخل التاريخ البشري من هذا الباب القاسي والموحش في غزوة داعشية سجلت رقم 74 غزوة في تاريخ سنجار الشخصي بذريعة أن الأيزيديين ليسوا مسلمين، ويقدسون "الشيطان"، وغير مؤمنين بالإله والسماء والأنبياء، وبالتالي هم مِلّة كافرة استوجب اجتثاثها. وهذه نظرية داعش التي بررت قتل الناس هناك، وانتهاك أعراض النساء فيها. فحملت فتاوى ونصوصًا قرآنية محرّفة ليس لها مصداقية عقلية في الواقع الفعلي، ولا في الأدبيات الأيزيدية، ولا في التاريخ الأيزيدي كله، سوى أن هذا المكوّن تعرض إلى التهميش تاريخيًا، وسوء الفهم، وأحقاد المتطرفين في رؤية المكان بعين تحاول اختزال الدين الأيزيدي على ما تريده. إضافة إلى تجاهل فهم الآلية الأيزيدية التي تجعل من دينها ضابطًا أخلاقيًا صارمًا قلّما توفر في الديانات الأخرى.




وما لمسناه في زيارات متكررة وعلاقتنا الطيبة مع الأيزيديين نساءً ورجالًا يٌثبت أن الكتابات والبحوث النظرية على سفحٍ معرّض للانهيار. أما الوادي الميداني الذي نعرفه حق المعرفة فهو الأجمل والأكثر نقاء من تحايل الكتابات والفتاوى والنظريات التي قرأناها. وبالتالي فالدين الأيزيدي شأنه شأن أديان ما قبل التاريخ، تتناقله الأهواء والأمزجة والظروف العسكرية التي تهدد وجوده دائمًا.

(4)
تقع شنگال ــ سنجار في غرب محافظة نينوى شمال العراق بمسافة 80 كيلومترًا تقريبًا، وتشترك في حدودها الغربية مع سورية (مقابل الحسكة) وكل أرضها عبارة عن وادٍ فسيح تحت جبل سنجار الوعر البالغ طولًا حوالي 76 كيلومترًا، وعرضًا 13 كيلومترًا، وبارتفاع أكثر من 1460 قدمًا عن مستوى سطح البحر، ومن أمامه وخلفه القرى الأيزيدية الرافلة بخضرة الطبيعة وأشجارها ومياهها الجبلية وشلالاتها المتدفقة. لذلك نجد سكانها القليلين خليطًا متآخيًا من العرب المسلمين والمسيحيين والسريان على مر تاريخها الطويل. ومن ذلك التاريخ، تكونت ثقافات قديمة امتزجت ببعضها على مر تعاقب الأجيال فيها. وكوّنت آصرة إنسانية متماثلة في الحياة التي كانت متاحة للجميع. خاصة؛ بالرغم من أن التاريخ الأيزيدي شهد غاراتٍ واحتلالاتٍ من الإمبراطوريات الفارسية واليونانية والرومانية والإسلامية. وهذا يشير ضمنًا إلى حملات عسكرية كثيرة تناوبت على المكان من أجل إخضاعه لأسباب شتى، ليس أقلها السبب الديني الذي يحاصر الأيزيديين على مر العصور.

(5)
الأيزيديون أقلية سكانية ناطقة باللغة الكردية في سنجار. وأقلية ناطقة بالعربية في بعشيقة (بسبب قربهم واحتكاكهم بالجو العربي المتاخم لسورية والموصل). لذلك سنجد المفارقة اللغوية بين الأيزيديين هنا وهناك بلغتين لا تتشابهان. لكنهما تصبّان في نبعٍ ديني واحد. ومن هذه الحصيلة في اللغوية يُثار أكثر من تساؤل حول عدم فهم اللغة الكردية للبعشيقيين، وتبرير أنهم قريبون من المناطق العربية تاريخيًا غير مقنع بدرجة كبيرة. ولا يبدو هذا الإشكال اللغوي عابرًا تمامًا. ونترك ذلك لباحثي اللغة وأصولها ومرجعياتها اللسانية. أما عدم تداول اللغة العربية بين السنجاريين فهم أصل اللغة الكردية كما هو ثابت تاريخيًا، ولا ينكر ذلك كرد كردستان، فالأساس والأصل أيزيدي قديم (يعتقدون بأنها لغة الله التي خاطب آدم بها) غير أن الدين الأيزيدي ذاته لعب دورًا مضادًا في تقزيم اللغة وتحجيمها من جهته. بينما استثمر الكرد اللغة الأيزيدية ونشروها بين الأقوام الجبلية التي أخذت اللغة منهم وطورتها واعتاشت عليها، فالدين الأيزيدي منغلق على ذاته وغير تبشيري. يحكم على المجموع السكاني لديهم بعدم التزاوج والتكاثر من غير الأيزيديين، وحصر ذلك بين طبقاتهم الدينية، مما أدى إلى تقلص أعدادهم بشكل واضح. وهذا بدوره قلل من فرص علاقاتهم وتفاعلاتهم مع الآخرين، بينما سادت اللغة الكردية الجبل الكردي بامتداداته خارج العراق في سورية وتركيا وإيران وأرمينيا وأمكنة أخرى من العالم، حتى بدت الكردية كأنها لغة أصيلة للأكراد في كردستان كما يُعتقد اليوم.

(6)
تسود احتمالات الباحثين والمؤرخين، كما تسود التوقعات بينهم في أصل تسمية "سنجار" بين ما هو أسطوري وتاريخي ذي وقائع عسكرية، وبين ما هو واقعي تقريبًا على وفق تصورات وكتابات قديمة تربط اسم سنجار بقصة الطوفان التاريخية؛ حيث أن سفينة نوح لمّا مرّت بجبل سنجار اصطدمت به فقيل: "هذا سن جبل ـ جار ـ علينا" فسميت سن ـ جار ـ وهذه أسطورة في الحالات كلها. ويقال إنّ السلطان "سنجرين" ملك شاه أرسل ولده ليكون ملكًا عليها بعد سلطان خراسان. وأُخذَ التسمية من اسمه. كذلك سميت نسبة لجبل سنجار المطل عليها، والذي سمي بذلك نسبة لبطن سنجارة من قبيلة شمر الطائية. وثمة مَن يرى أن أصل الاسم للتسمية الكردية "شنكآل"، وهي مركّبة من كلمتين "شنك"، أي الجميل، و"آل" وتعني "الجهة"، أي الجهة الجميلة. مثلما شنكار، أو "شنكاري"، باللغة الكردية تعني الزراعة، و"كار" تعني العمل الزراعي. وهكذا فإن اسم "زنگار" يعني باللغة الكردية الزنجار، نسبة إلى جبلها الذي يتلألأ عندما تضربها اشعة الشمس بسبب المعادن الكثيرة التي توجد في الجبل، وخاصة عنصر الحديد. ويلاحَظ مع هذه التوقعات والاحتمالات أن الاسم يُقصد به طير من الطيور الجارحة، وهو النسر، وهذا الطير قوي ويحدث صوتًا عندما ينقض على فريسته؛ وأن أهل سنجار لديهم صفات الشجاعة وأجسامهم قوية، وهم أذكياء، ويعتقد بأنه جاءت التسمية من هذا الطير الجارح القوي، أو الاعتقاد بأن كلمة سنجار ــ شنكال ذات أصل سومري، وهي مركبة من كلمتين: شنكو، بمعنى الكاهن، وكال بمعنى العجوز، فيصبح المعنى الكاهن الكبير، أو أن الاسم اقترن باسم أحد أحفاد نبي الله إبراهيم، وكان اسمه (سنجار بن مالك)، الذي وطأ أرضها، وأنشأ عليها المدينة. ولعل ذكر "أبو مخزم السنجاري"، الذي كان يقود الجيوش من سنجار لصالح العلويين عندما قتلتهم الإسماعيلية بجبال الساحل السوري هو سبب التسمية. ولتقريب صورة الاسم وتأويله جاء من "زنج" التي تعني أسود، أو الصدئ، نسبة إلى قمة الجبل، وهذا تفسير آخر للمعنى. وليس آخر الاحتمالات ما جاء في المدونات المصرية، إذ ذُكر اسم (سنكار)، وهو الاسم الذي كان يستخدمه قدماء اليونانيين والرومان. وهنالك رأي يظهر فيه أن الاسم يعود إلى السلطان سنجر بن ميكائيل بن سلجوق، الذي ولد في سنجار سنة 477 هجرية، ويعتقد بأن هذا الرأي خاطئ إلى درجة كبيرة، ولا صحة فيه.

المشكلة التي واجهها الأيزيديون طيلة تاريخهم هي مشكلة دينية 


في هذه التعددية التاريخية الاحتمالية؛ التي لا تخلو من الخرافة والأسطورة والتفخيم وأهواء التأويلات، لا يمكن أن نقف على حقيقة التاريخ للمكان الموزع بين صفحات التاريخ. وكأنما التاريخ القديم نفسه يريد تجهيل التاريخ الذي يليه باختلاط أوراق سنجار في مدونات لا يمكن للمتقصي أن يقترب من نشأة المكان اجتماعيًا ودينيًا في الأقل، سوى ما هو متوارد من معلومات مكررة بين الباحثين، لكن سنجار؛ بغض النظر عن تأويل اسمها؛ احتفظت بأصالتها منذ القديم، بالرغم من الغزوات العسكرية التي أثّرت في قوامها السكاني، كما احتفظت وحافظت على دينها الوضعي بمرور الزمن في ما يسمى (علم الصدر) الذي يحتفظ به شيوخ وكهنة وسدنة لالش من دون أن يُطلعوا الآخرين عليه من غير الأيزيديين، وهذا العلم متوارث بين الأجيال، كما عند الدروز في سورية ولبنان.

(
7)
سنجار في كل الأحوال ذات نشأة يمتد عمرها إلى أكثر من ستة آلاف سنة. ولذلك يعتقد الباحثون بأن الأيزيدية أقدم من الزرادشتية، بل حتى أقدم من (فيدا الهندي). وما تشير إليه الأدلة المتعددة عن مصادر السكان الأوائل في الألف الثاني قبل الميلاد هم من "الحيثيين"، و"الميتان"، ومن ثم الآشوريين. وبعدها في عام 538 ق.م أصبحت سنجار تحت سيطرة الفرس. وإلى عصر أحدث من ذلك كان الأتابكة أول من حكم سنجار وجعل منها إمارة مزدهرة في عام 1229م. ومن ثم بدأت سيطرة القائد صلاح الدين الأيوبي عليها، والمماليك بعدهم، لكنهم سقطوا في قبضة المغول عام، بعد أن دمروا المدينة تدميرًا شاملًا، وقتلوا أهلها بالكامل.




وفي الحملة المغولية الثالثة، سيطر عليها تيمورلنك في عام 796هـ، ولم يُبقِ في سنجار بيتًا سليمًا واحدًا؛ وبعد سقوطها بيد الإمبراطورية العثمانية في حدود عام 1516 شهدت العشرات من الحروب، أو ما تسمى بالفرمانات التي كانت تشنها القوات ضد المدينة. وهذا تاريخ بعضه مدوّن وحقيقي، وآخر هو مطالعات في التاريخ، وفيه شيء من العبث التاريخي، مثلما فيه وقائع ضُخّمت مع الزمن. لكن من المؤكد والثابت تاريخيًا أن سنجار تعرضت إلى 74 غزوة داخلية وخارجية، آخرها غزوة داعش.

الدين الأيزيدي
المشكلة التي واجهها الأيزيديون طيلة تاريخهم هي مشكلة دينية على وجه التحديد. فأمام ديانات سماوية راسخة تاريخيًا، يبدو مثل هذا الدين خارجًا عن نسقية ما هو قار بين تلك الديانات. ولهذا واجه الأيزيديون طوال وجودهم في هذه المنطقة غزوات دامية أحالت سنجار إلى خرائب (ما تزال آثار غزوة داعش باقية حتى يومنا هذا)، وهذا ليس قليلًا في التاريخ، ولا نعرف أن مكونًا من مكونات أي مجتمع واجه تلك الكوارث التي استباحت كل شيء تحت ذرائع كثيرة، ليس أقلها ذريعة الاتهام بالكفر والخروج عن تعليمات السماء ومطالبها بالتوحيد. وإشكالًا مثل هذا لم يُتَح للأيزيديين أن يبيّنوا حقيقة ما يؤمنون به، أو يشرحوا معتقداتهم الدينية وطقوسهم الشعبية وأثرها في السلوك اليومي لهم، أو يشيروا إلى مرجعياتهم التاريخية بشكل صريح، أو يبرمجوا آلياتهم النفسية في علاقتهم بـ طاووسي ملك، وهو كبير الملائكة عندهم. وفي هذا أسطورة وخرافة واستدعاء قرآني لا مفر من أن نذكره في هذا النسق الأيزيدي الذي يعتمد كليًا على محتواه. فالمسلمون يسمونه ذلك الملاك بـ"الشيطان"، لأنه عصى أمر الله بالسجود لآدم كونه مخلوقًا من نار، وآدم من تراب. وهذه الإشكالية الاعتقادية مع ما فيها من تحوير جعلت من الأيزيديين في مرمى الأقوام التي ترى بأن الشيطان عاصٍ لأمر اللهً. أما وجوده وتبجيله المستمر في الديانة الأيزيدية فهو فلسفة قائمة على الحجة والمنطق الذي يرى فيه الأيزيديون من أنه صالح لكل زمن وفي أي مكان، باعتبار أن الله سبحانه وتعالى كان يأمر الملائكة بالسجود له لا لغيره. وبالتالي فإن طاووسي ملك ــ الشيطان ــ عزازيل أيضًا ــ لم يمتثل لأمر الله في النهاية، ولم يسجد لآدم. ومن هنا جاء التقديس للفكرة المتمردة التي يجد فيها الأيزيديون منطقًا عقلانيًا لا علاقة له بالكفر، إنما الله تعالى هو المرجعية الكبرى، وإليه ينتمون. وبالتالي فنسقهم الإيماني حتى اليوم هو إقامة الصلاة، مع إيمانهم بيوم الحساب والجنة والنار و(ليس هناك مفهوم العصيان في المعتقد الأيزيدي، بل ان النفس الإنسانية هي المسؤولة عن الشر..)، وهذه من الفلسفات القديمة التي سادت في حضارات كثيرة تأثرت بها الأيزيدية كمعتقد ودين، لنرى في مستقبل القراءات والبحوث أن الديانة الأيزيدية تستمد أصولها وجذورها التاريخية من المعتقدات الهندو ــ إيرانية، والهندو ــ أوروبية، والميزوبوتامية في بلاد النهرين، وتحتفظ بكثير من معتقدات الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، التي مرت بها في عموم تاريخها القديم. حتى أعيادهم هي امتداد لأعياد السومريين والبابليين. وفي مجمل الديانات القديمة فإنها تُعد من ديانات الطبيعة التوحيدية الأولى. لنتعرف على أن هذه الديانة هي (عبادة شمسية ميثرائية مقترنة بعبادة نابو ــ هو الملاك طاووس).

من داخل الدين سرى بين الأيزيديين إن الله خلق الكون ولم يأمر بنهايته


من داخل الدين، سرى بين الأيزيديين أن الله خلق الكون ولم يأمر بنهايته. وفلسفة انفصال الجسد عن الروح لم تزل راسخة في عقيدتهم، والطاووس رمز الخير والجمال، بالرغم من أن أقوامًا غير أيزيدية اتهمتهم بعبادته، والأمر ليس كذلك، وتقتضي الضرورة العلمية واليقينية بأن أدبيات الدين الأيزيدي، وكل سردياته التاريخية، لم تسجل ولا مرة واحدة بأن أفراده عبدوا الاصنام والأوثان، كغيره من الديانات الوثنية القديمة. أما وجود طاؤوسي ملك ــ الشيطان ــ عزازيل، فهو وجود طقوسي لا يمكن لهم أن ينفكّوا عنه، وهو ملاك السماء والشمس، ومن أكبر آلهة الأيزيدية، وبهذا المعنى يُعد الأيزيديون عبدة الله. وهم من أوائل الذين عرفوا حقيقة الوحدانية، إلى جانب إيمانهم بآلهة الظواهر الطبيعية. ويبدو هذا الاعتقاد راسخًا في البنية الروحية والعقلية في سردياتهم الدينية، إضافة إلى اقتباسات متعددة المنافذ من الزرادشتية، والمانوية، وغيرها.
يعتقدون بأن الطاووس هو كبير الملائكة، لذلك يقدسونه بوصفه رمزًا دينيًا، مثلما المسلمون يحجّون إلى الكعبة كرمز لبيت الله الحرام. والمسيحية التي تتخذ من خشبة الصليب علامة تقديس لها، واليهودية التي ترى في حائط المبكى رمزها الديني، والمندائية الصابئية تؤمن بأن الصليب الذي تلفه الخرقة البيضاء الطاهرة (رمزًا لطهارة دينها)، وجميع هذه العقائد تشترك في عبادة الله ووحدانيته التي يقرّونها صراحةً.
الأيزيدية ترى أن الخير من عند الله، وأفعال الشر من عند الإنسان، كونه يرتكب المعاصي والذنوب. وغير هذا يذكر الباحث خليل جندي ان طاؤوس ملك هو تغيير لكلمة تموز، أو تيئوس، وتعني الله. وهذه الرمزية الطاووسية تقابلها رمزية "الحيّة" ذات اللون الأسود التي ينظر لها الأيزيديون كقوة للخير، لإنقاذها سفينة نوح من الغرق، عندما وضعت ذيلها في ثقب في السفينة. والحيّة السوداء منقوشة بشكل بارز وواضح في المدخل الرئيسي لمعبد لالش.
وكما أن للطوائف المسلمة مرجعياتها الدينية، فإن للأيزيديين مرجعياتهم أيضًا، وأبرزهم المتصوف عدي بن مسافر (أحيانًا يسمونه الشيخ آدي، أو هادي)، وهذا له مقامٌ وضريح في معبد لالش، المحاط بغابات من الأشجار والغيوم والمطر، كمركز رئيسي لأيزيديي العالم، يحجّون إليه من كل مكان في العالم. وآدي صوفي مهاجر من بعلبك اللبنانية (القرن الثاني عشر)، دارت حوله أساطير وحكايات، حتى أصبح له ضريح ومزار معروف لم تستطع داعش الوصول إليه بسبب طبيعة المكان الوعرة. وهكذا يمكن أن نجد مع هذه الطقس الروحي الذي يمثله الشيخ عدي ــ آدي ــ هادي أضرحة وشيوخًا آخرين أعقبوا سلالته الصوفية الباقية حتى اليوم. لنصل أن للأيزيديين؛ غير ضريح لالش؛ أماكن خاصة للعبادة والصلوات كالأضرحة والمزارات: (خاس ــ مير)، وضريح الشيخ عمادين (عماد الدين)، وضريح الشيخ حسن، وضريح الشيخ شرف الدين. وتوجد كتابة تذكر تاريخ تأسيس ضريح شرف الدين سنة 1274، وضريح بير حج علي، وضريح مام ريش.

استدراك:
القضية الأيزيدية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف قتلى وأسرى ومغيبين ومفقودين من الرجال والشباب والنساء والأطفال، والمغتصبات من النساء والمخطوفات والمفقودات ما يوازي هذا الرقم، ألهمت كثيرًا من الروائيين العراقيين والعرب لتوثيق هذه المأساة الكبيرة في سرديات تتفاوت قيمتها الفنية من رواية إلى أخرى، وهذا بعضها:

ــ عين على الطريق ــ رواية ــ هونر كريم.
ــ سبايا سنجار ــ رواية ــ سليم بركات.
ــ جحيم شنكال ــ رواية ــ مهند صلاح.
ــ عرق سنجار  ــ محمد بوحوش.
ــ الأسِيف ــ رواية ــ سلمى الحفيتي.
ــ تحت سماء داعش ــ صلاح رفو.
ــ جحيم داعش ــ رواية ــ حسين حاجي أوصمان.
ــ سينو ــ رواية ــ مراد سليمان علو.
ــ تغريبة الأيزيدي ــ رواية ــ صائب خدر.
10ــ عذراء سنجار  ــ رواية ــ وارد بدر السالم.
11ــ بنات لالش ــ رواية ــ وارد بدر السالم.
12ــ حوريات الجبل ــ رواية  ــ وارد بدر السالم.

المصادر:
ــ الدين الأيزيدي ــ المعتقدات، الميثولوجيا، الطبقات الدينية ــ خليل جندي ــ تقديم سعد سلوم ــ الرافدين ــ بيروت  ــ (بلا تاريخ).
ــ اليزيديون وأصولهم ومعابدهم والأديرة المسيحية في كردستان العراق ــ المستشرق الفرنسي توماس بوا- ت: د. سعاد محمد خضر ــ المركز الأكاديمي للأبحاث ــ بيروت ــ الطبعة الثانية ــ 2013.
ــ الأيزيدية ــ حقائق وخفايا وأساطير ــ زهير كاظم عبود ــ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــ بيروت 2005.
ــ التنقيب في التاريخ الأيزيدي القديم ــ زهير كاظم عبود ــ دار سبريز للطباعة ــ أربيل 2006.
ــ الأيزيدية ــ زهير كاظم عبود ــ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــ بيروت 2011.
ــ لغز طاوسي ملك أو أصل الخير والشر في الأيزيدية ــ هوشنك بروكا ــ دار نشر تموز ــ دمشق 2014.
ــ اليزيدية ــ إشكالية المنهج ــ دراسة ونصوص وتعليقات ــ د. وليد محمود خالص ــ ج1  ــ عمّان 2016.

الهوامش:
ــ عين سفني: مدينة تتقاسمها محافظتا نينوى ودهوك. توجد فيها كنيستا مار يوسف، ومار كوركيس. وسبعة آثار وأضرحة دينية بينها أضرحة للشيخ عدي، والشيخ حنتوش، والشيخ علي شمس.
ــ الكتّاب العرب المسلمون يقولون إن الأيزيدية فرقة منشقة عن الإسلام ترجع إلى مؤسسها يزيد بن معاوية الأموي. وثمة من يرى بأنهم فرقة من الإباضية أتباع يزيد بن أبي أنيسة، وهذا ما يشير إليه الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل"، وآخرون يقولون إن الديانة الأيزيدية مزيج من اليهودية والمسيحية والإسلام والوثنية، أو هي بقية المزدكية.
ــ الذنوب في مجال العقيدة والدين الأيزيدي هي: تحريم الزواج من خارج الأتباع ــ وزواج المحارم ــ الكذب ــ والزنا ــ والرياء ــ وشهادة الزور ــ نقل الأخبار الكاذبة ــ والسرقة ــ والسيطرة على أموال الأيتام ــ والقتل المتعمد ــ والظلم ــ والنهب ــ وإيذاء الحيوانات ــ وقطع الأشجار المثمرة.
ــ  كان الفتح الإسلامي لسنجار مع أبي موسى الأشعري في سنة 20 من الهجرة بقيادة عياض بن غنم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
ــ إحدى زوجات الملك حمورابي كانت أيزيدية. ويورد الباحث المعروف ول ديورانت في "قصة الحضارة" أن حمورابي البابلي شن حروبًا قاسية على الأيزيديين بسبب تأثيرهم الديني ودعواتهم لعبادة إله واحد غير الآلهة التي يعبدها ملوك بابل.