بسبب انشغالي في الآونة الأخيرة في السفر بين الدوحة وأربيل، توقفت عن التدوين في كتابي الجديد، المختلف من نوعه، حيث أنقل فيه خلاصة حوارات مع أكثر من عشرين امرأة سورية حول مواضيع دقيقة تتعلق بأوضاع النساء عمومًا، والسوريات بعد الحرب خاصة. ولكن عقلي لم يكن يتوقف عن لومي طيلة الوقت، حيث تركت الصفحة مفتوحة قبل إنهاء الفصل الأول، وكأنني لا أملك الحق في التغيب عن الكتابة.
كنت أتحدث في مقدمة كتابي عن سبب تحولي المفاجئ، بالنسبة لي على الأقل، من الكتابة الإبداعية المحضة، حيث أكتب الرواية فقط منذ ثلاثين عامًا، إلى الكتابة عن عوالم الأخريات، بطريقة تُدخلهن بشكل مباشر في كتابتي، وكأنني أدخل منطقة جديدة من مناطق الكتابة غير مألوفة بالنسبة لي، أخرج فيها من عالم الخيال الروائي إلى عالم النساء الواقعيات، فأتركهن يتحدثن من دون تدخل مني.
لا أنكر أن العمل في الكتاب أرّقني كثيرًا، بل وأصابني بمرض جسدي، ظللت عاجزة خلال أيام عدة من التعامل مع الواقع، لأن معاناة النساء الحقيقية، المُغيّبة، المسكوت عنها، هي أشد غرابة من خيالي ككاتبة، وأشد قسوة من كل مشاهد العنف التي نحاول تدوينها إبداعيًا.
ولأنني مؤمنة بقدري كروائية، توصلت إلى نتيجة بأنني وُلدت امرأة لأقصّ حكايات النساء، وهكذا أجريت مؤخرًا تعديلًا على عبارتي "وُلدت لأروي"، التي استخدمتها في مقدمة روايتي "الراويات"، بتناص مع مقولة ماركيز "عشت لأروي".
هذا القدر صار يظهر لي من تلقاء نفسه، وصرت، من دون تصميم مني، أجدني محاطة بقصص نساء يتوجهن صوبي ليروين لي تجارب خاصة يودن إطلاعي عليها، والحصول على إجابات على أسئلة تؤرقهن، ينتظرن مني مساعدتهن على النجاة بطريقة ما.
في أربيل، حيث شاركت في ندوة في معرض الكتاب، وفي نهاية يوم مشاركتي، حصل لي أمر لم يحدث في حياتي من قبل. تعرضت لحادث صحي غريب، يتعلق بتكويني الجسدي الأنثوي.
خلال ساعات وجدت نفسي في مشفى النساء... وهنا سمعت صوت القدر يقول لي: عليك أن تفقدي دمًا هنا، لتأتي وتسمعي حكايات نساء لا يعرفنك ولا تعرفينهن، نساء لم يذهبن إلى المدرسة، ولا يعرفن من الحياة سوى بيوت أهاليهن، ثم بيوت الأزواج، ولا يتنقلن خارج هذه الدائرة إلا محاطات بمرافقين ومرافقات من العائلة.
في مشفى الولادة في أربيل، أمضيت ليلة ساحرة، كأنني موفدة للكتابة، ناسية آلامي الجسدية، غارقة في الإصغاء والتأمل والاستمتاع بعالم النساء الفطري، التلقائي، المظلوم بشدة لأنه غير مأخوذ على محمل الجد، إلا قليلًا.
ساندريلا في المشفى
لأنني غريبة عن البلد الذي لا أعرف كيف تتصرف فيه امرأة وحيدة حين تتعرض لعارض صحي، اتصلت بصديقة، ورحنا نجول من مشفى لآخر، وفي يوم الجمعة، الذي تعذر علينا العثور على طبيبة نسائية تعطينا موعدًا سريعًا، ولم تكن حالتي تتحمل الانتظار، إلى أن توجهت إلى مشفى الولادة الحكومي، ولأن الإجراءات كانت كثيرة، وهناك أوراق وأسئلة، لم تكن السيدة التي بصحبتي قادرة على التصرف، فهي غريبة مثلي، اتصلت بصديقتي فيينا، الكردية التي التقيت فيها قبل أشهر في ورشة الإقامة الإبداعية التي شاركت فيها هنا برعاية معهد غوته الألماني.
وصلت فيينا ترتدي ثوبًا ملونًا، وحذاء بكعب عالٍ، كان صوت خطواتها على بلاط المشفى لافتًا، فبدت وكأنها أميرة ملونة داخل مشهد بالأبيض والأسود.
في الغرف، في الممرات، أمام الأبواب الخارجية لأقسام المشفى المتعددة، تُشاهد النساء غالبًا باللون الأسود الطاغي، أو بملابس قاتمة تخفي خصوصيتهن.
لهذا كان منظرنا، فيينا وأنا، شبه استثنائي ومختلف: فيينا بثوبها متعدد الألوان، كأنها خارجة من حفلة، وأنا بثوبي الأزرق الطويل كأنني متوجهة إلى زيارة سعيدة.
كانت فيينا في طريقها لحضور مناسبة شخصية، ارتدت ثوبها الملون، وانتعلت حذاءها ذا الكعب العالي، حين اتصلت بها وهي في طريقها لصديقاتها، فقطعت عليها مشوارها وجاءتني بتلك الملابس. بعد وصولها إلي، اقترحت فيينا أن تذهب إلى بيتها، تغير ملابسها وتجلب لي بعض الأشياء التي ستلزمنا معًا، حيث سنمضي ليلتنا في المشفى.
قبل مغادرتها، أوصت النساء في الغرفة بالاعتناء بي، ثم تبخرت كما غابت ساندريلا فجأة من ذلك الحفل في قصر الأمير.
التضامن التلقائي بين النساء
ربما أكون محظوظة، أو أنها حال جميع النساء، لكن بعضهن لا ينتبهن لهذا، أن تكون إحدانا محاطة برعاية الأخريات.
جميع السيدات هنا غريبات عني: عراقيات، عربيات، أو كرديات، يقتربن مني شبه متنافسات لرعايتي، تنفيذًا لتوصية فيينا، التي لا أعرف ماذا قالت لهن بكرديتها المختلفة عن كرديتي: هي تتحدث السورانية، وأنا أتحدث الكرمانجية.
كانت إحدى السيدات تنهض من زاويتها قرب سرير الشابة التي وضعت جنينها في ذلك الصباح، وتأتي صوبي للكشف عن المصل الذي علقته لي الممرضة.
إحداهن جلبت لي الطعام، واعتذرتُ منها لأنني كنت أتألم ولم أشعر بالجوع، أو بالرغبة في الأكل، وأخرى قشرت لي برتقالة وقدمتها لي، فاعتذرت أيضًا، وثالثة جلبت لي زجاجة ماء مثلجة كنت أحتاجها حقًا.
أخذتُ، رغم أوجاع بطني، أراقب خلية تجمع النساء المذهلات، عالم مليء بالدفء الإنساني، الدقة، التنظيم، التضامن.
نساء أميات، بسيطات، يمتلئن بالمحبة والطاقة الإيجابية والعطاء، مفاهيم فطرية لدى المرأة في الشرق خاصة.
أمهات صغيرات وورشة كتابة في المشفى
الصبية التي وضعت طفلها في صباح وصولي لم تتجاوز الثامنة عشرة، كانت أمها القادمة من ريف حلب تتحدث الكردية التي أعرفها، إلى جوارها صبية وضعت طفلة في اليوم نفسه، تستلقي على سرير مقابل، قادمة من مديمة الدليم، تتحدث أمها العربية...
عادت فيينا مرتدية ملابس مختلفة، ورحت أمزح معها: عادت سندريلا من حفلتها التنكرية، واسترجعت أصلها البروليتاري!
سيبدو غريبًا وغير مفهوم لكل من أخبره عن هذه التجربة: أنا سعيدة لأنني مرضت وذهبت إلى المشفى، لأنني لم ألتق منذ سنوات بعيدة بهذا النوع من النساء، اللاتي أبعدتني الحياة عنهن، خاصة حياتي في أوروبا خلال عشرين عامًا.
حين وضعت الستارة بيننا، لأحظى ببعض الخصوصية، اعترضت إحدى السيدات بلطف: جميعنا نساء هنا، فلماذا تضعين الستارة؟
هنا شعرت أنني أتصرف وفق عقليتي الغربية، وأن هذه الستارة تشكل بالنسبة لهن حاجزًا نفسيًا، فتذرعت بالحاجة إلى النوم، وخشية أن يسقط عني الغطاء. كانت حجة لأخفي حرجي من سلوكي، وفي الوقت نفسه عدم قدرتي على الاسترخاء والاستجابة للعقاقير المهدئة للألم، والتي تحتوي أيضًا آثارًا جانبية تجبرني على النوم.
بين النوم واليقظة، كنت أستمع لقصص النساء الزائرات، أو المرافقات للأمهات الشابات، القاصرات.
ــ خطبوها لأوروبا، لكنها قالت لي هذا الصباح، يا ماما لو أنني الآن ألد في أوروبا، وأنت بعيدة عني، كنت سأموت.
سمعت هذه الجملة، فأجبت من سريري، وكأنني أتحدث في الحلم:
ــ لو كانت ابنتك في أوروبا، لاعتبر زواجها مخالفًا للقانون، إنها قاصر!
لا أعرف بماذا أجابتني الأم الشابة، التي لا تتجاوز الأربعين عامًا، وهي ترافق طفلتها التي تزوجت العام الفائت في السادسة عشرة من عمرها، لكنني في الفجر، قرابة الساعة الرابعة، تابعت حديثي مع الأم التي جاءت ووقفت قرب سريري مستغلة فرصة مرور الممرضة التي أيقظتني وهي تضع لي المصل الجديد، فراحت تحكي لي قصة بناتها الثلاث: هذه التي معها في المشفى، وأختها الأصغر منها التي تزوجت في سن الرابعة عشرة، والصغيرة التي تشعر بالخوف من الزواج، والتي رفضت المجيء إلى المشفى...
كانت المرأة تحكي لي تفاصيل حياتها مع حماتها وكناتها وبناتها، وكأنها تعرفني منذ سنوات، لم أكن أبذل أي جهد لاستدراجها بالكلام، فالنساء هنا، وفي مناسبات كهذه، في أمكنة مغلقة عليهن، يمتلكن العذر المبرر لتغيبهن عن سلطات الزوج والعائلة، يمتلكن هنا فقط المساحة الاستثنائية لسرد قصصهن للغريبات.
مريضة، متألمة، أنوس بين الصحو والنوم، أبتسم لفيينا أمامي: أشعر أنني في ورشة كتابة مختلفة، أسمع لهذه النسوة، وأسجل حكاياتهن، من دون أن تدرك أي منهن أنني كاتبة، أو معنى أن أكون كاتبة، يمنحنني فرصة الاطلاع على عوالمهن الداخلية ومشاعرهن وانكساراتهن...
الأم القاصر تنظر لي كأنها تتوسل حلًا لدي: إنها تشعر بالألم وتحتاج من يفهمها. صبية جميلة لا تزال ملامح الطفولة تتدفق من بشرتها وعينيها ولسان حالها يقول: كنت أتمنى لو أنني كنت الآن في طريقي إلى المدرسة، أو الجامعة، لكن عاداتنا لا تصغي للنساء.
تقول فيينا: القانون هنا لا يسمح بزواج القاصرات، لكن الأهالي يتحايلون على القوانين عبر الزواج الشرعي...
أحاول أن أفكر بكتابي من جديد، وأقول لنفسي: إذا نجوت من هذا المرض المباغت، سأخصص حياتي القادمة لتدوين عالم النساء. إنهن قدري الذي يلاحقني ككاتبة، ولم يعد في إمكاني تجاهل نداء هذا القدر.
كنت أتحدث في مقدمة كتابي عن سبب تحولي المفاجئ، بالنسبة لي على الأقل، من الكتابة الإبداعية المحضة، حيث أكتب الرواية فقط منذ ثلاثين عامًا، إلى الكتابة عن عوالم الأخريات، بطريقة تُدخلهن بشكل مباشر في كتابتي، وكأنني أدخل منطقة جديدة من مناطق الكتابة غير مألوفة بالنسبة لي، أخرج فيها من عالم الخيال الروائي إلى عالم النساء الواقعيات، فأتركهن يتحدثن من دون تدخل مني.
لا أنكر أن العمل في الكتاب أرّقني كثيرًا، بل وأصابني بمرض جسدي، ظللت عاجزة خلال أيام عدة من التعامل مع الواقع، لأن معاناة النساء الحقيقية، المُغيّبة، المسكوت عنها، هي أشد غرابة من خيالي ككاتبة، وأشد قسوة من كل مشاهد العنف التي نحاول تدوينها إبداعيًا.
ولأنني مؤمنة بقدري كروائية، توصلت إلى نتيجة بأنني وُلدت امرأة لأقصّ حكايات النساء، وهكذا أجريت مؤخرًا تعديلًا على عبارتي "وُلدت لأروي"، التي استخدمتها في مقدمة روايتي "الراويات"، بتناص مع مقولة ماركيز "عشت لأروي".
هذا القدر صار يظهر لي من تلقاء نفسه، وصرت، من دون تصميم مني، أجدني محاطة بقصص نساء يتوجهن صوبي ليروين لي تجارب خاصة يودن إطلاعي عليها، والحصول على إجابات على أسئلة تؤرقهن، ينتظرن مني مساعدتهن على النجاة بطريقة ما.
في أربيل، حيث شاركت في ندوة في معرض الكتاب، وفي نهاية يوم مشاركتي، حصل لي أمر لم يحدث في حياتي من قبل. تعرضت لحادث صحي غريب، يتعلق بتكويني الجسدي الأنثوي.
خلال ساعات وجدت نفسي في مشفى النساء... وهنا سمعت صوت القدر يقول لي: عليك أن تفقدي دمًا هنا، لتأتي وتسمعي حكايات نساء لا يعرفنك ولا تعرفينهن، نساء لم يذهبن إلى المدرسة، ولا يعرفن من الحياة سوى بيوت أهاليهن، ثم بيوت الأزواج، ولا يتنقلن خارج هذه الدائرة إلا محاطات بمرافقين ومرافقات من العائلة.
في مشفى الولادة في أربيل، أمضيت ليلة ساحرة، كأنني موفدة للكتابة، ناسية آلامي الجسدية، غارقة في الإصغاء والتأمل والاستمتاع بعالم النساء الفطري، التلقائي، المظلوم بشدة لأنه غير مأخوذ على محمل الجد، إلا قليلًا.
ساندريلا في المشفى
لأنني غريبة عن البلد الذي لا أعرف كيف تتصرف فيه امرأة وحيدة حين تتعرض لعارض صحي، اتصلت بصديقة، ورحنا نجول من مشفى لآخر، وفي يوم الجمعة، الذي تعذر علينا العثور على طبيبة نسائية تعطينا موعدًا سريعًا، ولم تكن حالتي تتحمل الانتظار، إلى أن توجهت إلى مشفى الولادة الحكومي، ولأن الإجراءات كانت كثيرة، وهناك أوراق وأسئلة، لم تكن السيدة التي بصحبتي قادرة على التصرف، فهي غريبة مثلي، اتصلت بصديقتي فيينا، الكردية التي التقيت فيها قبل أشهر في ورشة الإقامة الإبداعية التي شاركت فيها هنا برعاية معهد غوته الألماني.
وصلت فيينا ترتدي ثوبًا ملونًا، وحذاء بكعب عالٍ، كان صوت خطواتها على بلاط المشفى لافتًا، فبدت وكأنها أميرة ملونة داخل مشهد بالأبيض والأسود.
في الغرف، في الممرات، أمام الأبواب الخارجية لأقسام المشفى المتعددة، تُشاهد النساء غالبًا باللون الأسود الطاغي، أو بملابس قاتمة تخفي خصوصيتهن.
لهذا كان منظرنا، فيينا وأنا، شبه استثنائي ومختلف: فيينا بثوبها متعدد الألوان، كأنها خارجة من حفلة، وأنا بثوبي الأزرق الطويل كأنني متوجهة إلى زيارة سعيدة.
كانت فيينا في طريقها لحضور مناسبة شخصية، ارتدت ثوبها الملون، وانتعلت حذاءها ذا الكعب العالي، حين اتصلت بها وهي في طريقها لصديقاتها، فقطعت عليها مشوارها وجاءتني بتلك الملابس. بعد وصولها إلي، اقترحت فيينا أن تذهب إلى بيتها، تغير ملابسها وتجلب لي بعض الأشياء التي ستلزمنا معًا، حيث سنمضي ليلتنا في المشفى.
قبل مغادرتها، أوصت النساء في الغرفة بالاعتناء بي، ثم تبخرت كما غابت ساندريلا فجأة من ذلك الحفل في قصر الأمير.
التضامن التلقائي بين النساء
ربما أكون محظوظة، أو أنها حال جميع النساء، لكن بعضهن لا ينتبهن لهذا، أن تكون إحدانا محاطة برعاية الأخريات.
جميع السيدات هنا غريبات عني: عراقيات، عربيات، أو كرديات، يقتربن مني شبه متنافسات لرعايتي، تنفيذًا لتوصية فيينا، التي لا أعرف ماذا قالت لهن بكرديتها المختلفة عن كرديتي: هي تتحدث السورانية، وأنا أتحدث الكرمانجية.
كانت إحدى السيدات تنهض من زاويتها قرب سرير الشابة التي وضعت جنينها في ذلك الصباح، وتأتي صوبي للكشف عن المصل الذي علقته لي الممرضة.
إحداهن جلبت لي الطعام، واعتذرتُ منها لأنني كنت أتألم ولم أشعر بالجوع، أو بالرغبة في الأكل، وأخرى قشرت لي برتقالة وقدمتها لي، فاعتذرت أيضًا، وثالثة جلبت لي زجاجة ماء مثلجة كنت أحتاجها حقًا.
أخذتُ، رغم أوجاع بطني، أراقب خلية تجمع النساء المذهلات، عالم مليء بالدفء الإنساني، الدقة، التنظيم، التضامن.
نساء أميات، بسيطات، يمتلئن بالمحبة والطاقة الإيجابية والعطاء، مفاهيم فطرية لدى المرأة في الشرق خاصة.
أمهات صغيرات وورشة كتابة في المشفى
الصبية التي وضعت طفلها في صباح وصولي لم تتجاوز الثامنة عشرة، كانت أمها القادمة من ريف حلب تتحدث الكردية التي أعرفها، إلى جوارها صبية وضعت طفلة في اليوم نفسه، تستلقي على سرير مقابل، قادمة من مديمة الدليم، تتحدث أمها العربية...
عادت فيينا مرتدية ملابس مختلفة، ورحت أمزح معها: عادت سندريلا من حفلتها التنكرية، واسترجعت أصلها البروليتاري!
سيبدو غريبًا وغير مفهوم لكل من أخبره عن هذه التجربة: أنا سعيدة لأنني مرضت وذهبت إلى المشفى، لأنني لم ألتق منذ سنوات بعيدة بهذا النوع من النساء، اللاتي أبعدتني الحياة عنهن، خاصة حياتي في أوروبا خلال عشرين عامًا.
حين وضعت الستارة بيننا، لأحظى ببعض الخصوصية، اعترضت إحدى السيدات بلطف: جميعنا نساء هنا، فلماذا تضعين الستارة؟
هنا شعرت أنني أتصرف وفق عقليتي الغربية، وأن هذه الستارة تشكل بالنسبة لهن حاجزًا نفسيًا، فتذرعت بالحاجة إلى النوم، وخشية أن يسقط عني الغطاء. كانت حجة لأخفي حرجي من سلوكي، وفي الوقت نفسه عدم قدرتي على الاسترخاء والاستجابة للعقاقير المهدئة للألم، والتي تحتوي أيضًا آثارًا جانبية تجبرني على النوم.
بين النوم واليقظة، كنت أستمع لقصص النساء الزائرات، أو المرافقات للأمهات الشابات، القاصرات.
ــ خطبوها لأوروبا، لكنها قالت لي هذا الصباح، يا ماما لو أنني الآن ألد في أوروبا، وأنت بعيدة عني، كنت سأموت.
سمعت هذه الجملة، فأجبت من سريري، وكأنني أتحدث في الحلم:
ــ لو كانت ابنتك في أوروبا، لاعتبر زواجها مخالفًا للقانون، إنها قاصر!
لا أعرف بماذا أجابتني الأم الشابة، التي لا تتجاوز الأربعين عامًا، وهي ترافق طفلتها التي تزوجت العام الفائت في السادسة عشرة من عمرها، لكنني في الفجر، قرابة الساعة الرابعة، تابعت حديثي مع الأم التي جاءت ووقفت قرب سريري مستغلة فرصة مرور الممرضة التي أيقظتني وهي تضع لي المصل الجديد، فراحت تحكي لي قصة بناتها الثلاث: هذه التي معها في المشفى، وأختها الأصغر منها التي تزوجت في سن الرابعة عشرة، والصغيرة التي تشعر بالخوف من الزواج، والتي رفضت المجيء إلى المشفى...
كانت المرأة تحكي لي تفاصيل حياتها مع حماتها وكناتها وبناتها، وكأنها تعرفني منذ سنوات، لم أكن أبذل أي جهد لاستدراجها بالكلام، فالنساء هنا، وفي مناسبات كهذه، في أمكنة مغلقة عليهن، يمتلكن العذر المبرر لتغيبهن عن سلطات الزوج والعائلة، يمتلكن هنا فقط المساحة الاستثنائية لسرد قصصهن للغريبات.
مريضة، متألمة، أنوس بين الصحو والنوم، أبتسم لفيينا أمامي: أشعر أنني في ورشة كتابة مختلفة، أسمع لهذه النسوة، وأسجل حكاياتهن، من دون أن تدرك أي منهن أنني كاتبة، أو معنى أن أكون كاتبة، يمنحنني فرصة الاطلاع على عوالمهن الداخلية ومشاعرهن وانكساراتهن...
الأم القاصر تنظر لي كأنها تتوسل حلًا لدي: إنها تشعر بالألم وتحتاج من يفهمها. صبية جميلة لا تزال ملامح الطفولة تتدفق من بشرتها وعينيها ولسان حالها يقول: كنت أتمنى لو أنني كنت الآن في طريقي إلى المدرسة، أو الجامعة، لكن عاداتنا لا تصغي للنساء.
تقول فيينا: القانون هنا لا يسمح بزواج القاصرات، لكن الأهالي يتحايلون على القوانين عبر الزواج الشرعي...
أحاول أن أفكر بكتابي من جديد، وأقول لنفسي: إذا نجوت من هذا المرض المباغت، سأخصص حياتي القادمة لتدوين عالم النساء. إنهن قدري الذي يلاحقني ككاتبة، ولم يعد في إمكاني تجاهل نداء هذا القدر.