Print
ليديا مولاند

كيف أدخلت الفيلسوفة النسوية هيلينه شتوكر نيتشه للمعتمد المكرّس

20 يوليه 2024
اجتماع
ترجمة: سارة حبيب
رغم سمعة نيتشه ككاره للنساء، كان عمله مصدر إلهامِ ناشطة رائدة في مجال حقوق المرأة في بدايات القرن العشرين.

 

يُعدّ كوستين آلاماريو، الذي هو على الأرجح المؤلف وراء الاسم المستعار "منحرف العصر البرونزي"، إضافةً جديدة إلى القائمة الطويلة من الشخصيات السياسية اليمينية ذات النظرة للعالم القائمة على كراهية للنساء. "استغرق الأمر 100 عام من وجود النساء في الحياة العامة ليدمرن حضارة تدميرًا كليًا تقريبًا"، يكتب آلاماريو. ولاستبدال حكم النساء هذا، ينادي بوجود "طبقة من الرجال يكونون قادرين على توجيه المجتمع نحو أخلاقيات تحسين النسل". وهو يزعم وجود أوراق اعتماد فلسفية لهذه النظرة للعالم. فعمله المنشور عبر منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والكتاب الذي نشره بنفسه "عقلية العصر البرونزي" (2018)، يستوحي من فيلسوف يتمتع هو ذاته بسمعة كراهية النساء: فريدريك نيتشه. تاق نيتشه على نحو شائن إلى ما أسماه "الكائن الأعلى" الذي سينقلب على المبادئ الأخلاقية التقليدية ويحرّر الأقوياء من قيودها الخانقة. وهذا التوق كان أحيانًا مقترنًا مع كراهية واضحة للنساء اللاتي يُعقن الرجال، مطالبًا إياهن بأن يكنّ عطوفات ومدجّنات لا مستهترات وقويات. ويبدو أن هذا الاقتران يتوافق جيدًا مع آراء آلاماريو، ما جعله ينال امتيازَ تمثيل "الجماعة المتطرفة النيتشوية" من المتطرفين المحافظين.
ليست سمعة نيتشه ككاره للنساء شيئًا جديدًا، كانت راسخة ومناقَشَة بشكل مستفيض خلال حياته. لكنّ هذا لم يمنع امرأة بالغة الذكاء من تبني القضية النيتشوية وفعلِ ذلك، للمفارقة، باسم تمكين النساء. لقد جعلها اتباعها لنيتشه إحدى أقوى النسويات الألمانيات في جيلها. كما أتاح لها أن تمكّن نيتشه ورؤيته المستهجَنة هذه حول انتصار الأقوياء.
وُلدت هيلينه شتوكر عام 1869 ضمن التقييدات الخانقة لما يشكّل قابلية الاحترام في البرجوازية الألمانية. وبعد سخطها على القيود الدينية والثقافية في أثناء مراهقتها، اكتشفتْ نيتشه في الحادية والعشرين من عمرها "من تلك اللحظة فصاعدًا... اهتمامي، سعادتي، إثرائي من خلال نيتشه... لم يتوقف قط"، كتبتْ شتوكر بعد عقود. "لم أشعر بأني مرتبطة هذا الارتباط العميق بأيّ نفس فانية أخرى". عند نيتشه، وجدتْ شتوكر ازدراءً لاذعًا للمعايير البالية، رؤية لبشرية متحررة من التقاليد، وحثًّا على أن يكون المرء نفسَه، مهما كان الثمن. "أدين له بامتنان خاص لأنه حررنا من الدوغمائية والتقيد الحرفي بالقانون، ولأنه أتاح لأولئك الذين يعيشون من ثروته الكبيرة حرية داخلية تمكنهم من تطوير كينونتهم"، كتبتْ شتوكر. عام 1901، دافعتْ شتوكر عن أطروحتها حول الجماليات الفلسفية، ما جعلها إحدى أوائل النساء الألمانيات اللواتي ينلن درجة الدكتوراة. وفي محاضرات ومقالات لها، بدأت بتعزيز فكر نيتشه، مُساعدةً بذلك في قذفه من الهوامش المُخزية للأوساط الأكاديمية إلى المكانة الرئيسية التي يتمتع بها الآن في المعتمد المكرَّس الفلسفي.




لكنْ، كراهية النساء عند نيتشه شكّلت مشكلة. في كتابه "في جينالوجيا الأخلاق" (1887)، وأعمال أخرى، تصور نيتشه مجتمعَ نخبٍ منعتق من التعاطف مع الضعفاء، وغير مقيّد بالروابط التقليدية. وماذا كانت النساء، في المجتمع الذي عاش فيه نيتشه وشتوكر، سوى "الضعفاء"؟ ألم يكن مطلبهن بإخلاص الرجال، وحسن تصرفهم، رادعًا كابحًا لقوة الرجال الطبيعية؟ ألا تعيق حاجتهن للحماية "إرادة القوة" التي كانت، وفقًا لنيتشه، الشيءَ الوحيد الذي بوسعه أن ينقذ البشر من انحدارهم؟
مع هذا، لم تشكّ شتوكر أبدًا على ما يبدو في مقدرتها على أن تطالب برؤية نيتشه حول الحرية لنفسها، وللنساء جميعهن. فمنذ عام 1892، بدأتْ باستخدام نيتشه لمناقشة أن تقويض قيود المجتمع سيتيح للنساء أن يصبحن حرات وقويات. كما نسبت إليه الفضل بتدمير الأخلاق الزاهدة التي زعمتْ أنها وجدت "شيئًا منحطًا ودنِسًا" في النساء. مدحت شتوكر كراهية نيتشه للخنوع والتخاذل، حاثّة قراءها بالقول إن "الوقت قد حان لصراع جديد، سعيد". بدلًا عن القيود التقليدية، تصورت شتوكر "أخلاقًا جديدة" تقوم على القوة والسعادة. وهذه الأخلاق الجديدة لا تعِد بأقلَ من "بشرية جديدة رجالًا ونساء كائنات نيتشه العليا الذين يُتاح لهم أن يقولوا نعم للحياة ولأنفسهم"، كتبتْ شتوكر. "كونُ الوقت قد حان أيضًا لتصبح النساء أكثر وعيًا بهذه السعادة العليا التي لا يستحقها سوى البشر، هو إيماني الذي لا يتزعزع". وكانت تعرف أن هذا يعدّ شيئًا جريئًا. "تقولون إننا نطالب بالكثير؟" تحدّتْ قراءها. "أوه، نحن لا نطالب به"، أكدتْ لهم. "نحن نأخذه بأنفسنا؛ طريقة التشريع الوحيدة المعقولة في العالم".

وُلدت هيلينه شتوكر عام 1869

مع هذا، ازدراء نيتشه للنساء سبّب إحراجًا. فتناولت شتوكر المشكلة وجهًا لوجه. في مقالة كتبتها عام 1901 حملت عنوان "كراهية النساء عند نيتشه"، تقرّ شتوكر أنه غالبًا ما هاجم النساء، لا سيما الذكيات منهن، وهدّد بإحضار سوط معه عند زيارتهن. لكنَّ الأحمق وحده، حسب زعمها، يمكن ألا يلاحظ أن نيتشه كان يقصد هذا على نحو تهكمي. تقرّ شتوكر كذلك أن نيتشه عرّف سعادة الرجال على أنها إرادة محضة، وسعادة النساء، في المقابل، على أنها إخضاع أنفسهن لإرادة الرجال. مع هذا، تصرّ أن هذا لا يصح إلا على النساء المشوهات بفعل المجتمع الفاسد الذي استهجنه نيتشه. وتشير إلى مقاطع يتخيل فيها نيتشه نساءً "نبيلات، ذوات عقل حر"، نساءً "يجاهدن لأجل رِفعة جنسهن". كما تؤكد هي ذاتها أن نيتشه "تحدث بكلمات صادقة رائعة عن النساء... لدرجة أن بوسعنا أن نرى أنفسنا سعيدات، وإن كان كلّ الرجال أعداء للنساء". وبتبرئتها لسمعة نيتشه تبرئة كاملة، عادت شتوكر إلى التعبير عمّا يُعد عند نيتشه "دين السعادة... الذي يحوّل كل شيء أرضيّ إلى مُذهّب وسماوي"، وإلى تأمل لاهث حول "نوع البشر الذي سيغدو ممكنًا في هذه الحالة!".
في سعيها إلى هذه الإمكانية المُسكِرة، قامت شتوكر بما يبدو أقل فعل نيتشوي ممكن: عملتْ على مساعدة الضعفاء. وأصبحت إحدى النسويات الرائدات في جيلها، مكرِّسةً حياتها للقضاء على الظروف البائسة التي أبقت النساء معوزات واتكاليات. حاربت شتوكر لأجل حق الإجهاض، إجازة الأمومة مدفوعة الأجر، والحماية القانونية للأمهات العازبات. ونشرت اعتراضات قوية على المعايير التي سمحت للرجال بزيارة بائعات الهوى لكن طالبتْ النساء بالعفة، ثم نبذتْ النساء بسبب الأمراض المنقولة جنسيًا التي يلتقطنها من أزواجهن. أصبحت شتوكر محاضِرةً معروفةً عالميًا، مستخدِمةً رؤيتها حول تحرر النساء لتنادي بظروف عمل أفضل للنساء، بالإضافة إلى حق حصولهن على تعليم عالٍ. كما نادتْ، وهو ما تسبب بالرعب لمناصريها المحافظين، بالحرية الجنسية وتلبية الاحتياجات الجنسية، مناقِشةً أنه لا يمكن للنساء أن يبلغن إمكانيتهن النيتشوية إلا في حالة الحب المتحقق تمام التحقق، جسديًا كما روحيًا. ساعدتْ شتوكر كذلك على تأسيس "رابطة حماية الأمهات والإصلاح الجنسي"، وحررت صحفًا تعبّر عن آراء المجتمع. وفي مقالة تلو الأخرى، ناقشت أنه يجب السماح للنساء بأن يخترن متى ينجبن أطفالًا وممّن، ويجب أن توفر لهن الرعاية الصحية التي تتيح للأطفال أن يكبروا. "يطالب متبعو الأخلاق الجديدة بأن تكون كل أم ألمانية قادرة على رعاية طفلها"، كتبتْ شتوكر. ولتحقيق تلك الغاية، تضيف، "يجب أن تتوفر الشروط القانونية الأساسية" لازدهار النساء.




رغم نسوية شتوكر التقدمية، تلوثت نظرتها للعالم بثيمة نيتشوية أكثر قتامةً يتردد صداها أيضًا في كتابات آلاماريو. كانت شتوكر جزءًا من الجناح "المتطرف ــ الاجتماعي" لحركة تحسين النسل: مجموعة تضمنت نسويات أردن أن يضْمَن للنساء إمكانية أن يكون لديهن أطفال أصحاء "طبيعيون". وهذا أيضًا كان جزءًا من فكرة "بشرية جديدة" نيتشوية تكون خاليةً من الأمراض والتشوه. لم تنادِ شتوكر صراحةً بالتعقيم الإجباري، أو القتل الرحيم. ولم تكن، حسب علمي، مؤمنةً بتحسين نسل عرقي. لكنها أعطت مساحةً في صحيفتها لآخرين كانوا كذلك، واقترحت هي ذاتها أن "على المجتمع أن يمنع الحمْل" بين أولئك الذين يعانون من أمراض وراثية. وفي عالم تخلقه "أخلاقها الجديدة"، تخيلت أيضًا أنه سيكون من الضروري "إيجاد وسائل لمنع من يعانون من أمراض مستعصية، أو فاسدي الأخلاق، من التكاثر". كذلك، استخدام شتوكر لتعابير نيتشوية اعتمدها النازيون لاحقًا، مثل Übermensch (الكائن الأعلى)، و"Weltanschauung" (النظرة للعالم)، لطّخ أيضًا سمعتها. كما أن صداقتها الدائمة مع أخت نيتشه من القوميين الآريين إليزابيث فورستر نيتشه يجب أن تجعلنا نتوقف وقفةً جديةً.
سيسارع بعض دارسي نيتشه للإجابة بأن هذا كلّه غير منصف لنيتشه. لكن نيتشه غالبًا ما ينجو بفعلته. يكتب فلاسفة يثيرون إعجابي بشكل مؤثر عن كون نيتشه قادرًا على مساعدتك على تحقيق الذات، مواجهة الاكتئاب، وأن تصبح متعاونًا بشكل أفضل في العمل. إن نيتشه المصوَّر على هذا النحو يمكن ألا يبدو أكثر من مدرب مساعدة ذاتية ودود، مُشجعًا إياك على أن تكون صادقًا مع نفسك، بغض النظر عمّا يقوله مديرك، أو شريكك، أو مجتمعك. صحيح أن هذا النوع من الإلهام يمكن أن يوجد عند نيتشه. وصحيح أيضًا أن المعتمد المكرّس الفلسفي كان ليغدو أفقر بغيابه. لكنْ، علينا أيضًا أن نعترف أن فلسفته توفّر أرضيةً خصبةً لنوعِ عبادةِ البطل السلطوية التي يمثّلها آلاماريو، والتي ينشط في نشرها لجمهور يزداد اتساعًا ناشطو ومدونو اليمين ــ المتطرف المحافظون.
كذلك، وكجزء من تحليله لآلاماريو، ومكانته بين مفكري جناح اليمين في صحيفة نيويورك تايمز، يحذر الصحفي ديمون لينكر من أنه "من الصعب معرفة مدى الجدية التي يتوجب بها التعامل مع كل هذا". فمن الواضح أن آلاماريو يكون أحيانًا كاريكاتوريًا وساخرًا عمدًا، محطِّمًا قواعد النقاش تمامًا كما يريد أن يحطم النظام الاجتماعي. هذا، أيضًا، قد يكون تعلمه من نيتشه الذي جعله خليطه المكون من الميثولوجيا، المفارقة الساخرة، والهزل محبّبًا لجحافل من الطلاب الجامعيين، لا سيما، حسب تجربتي، الذكور منهم.
من المهم الإشارة هنا إلى أن شتوكر ذاتها لم تأخذ على محمل الجد المخاطرَ الجلية في رؤية نيتشه حول الهيمنة النخبوية. وبينما تابعتْ العمل لأجل تحرير النساء بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ الفاشيون الألمان باستخدام نيتشه للدعوة إلى عصر "ما بعد ليبرالي". لقد أسموا "الأرستقراطيين الطبيعيين"، مثل بينيتو موسوليني، وأدولف هتلر، "أحفادًا روحيين" لنيتشه. كذلك، راح ألفريد بويملر، دارس نيتشه الرسمي في الرايخ الثالث، وأستاذ الفلسفة في برلين، ينادي بما يصفه ستيفن أشهايم على أنه "إعادة تأكيد [نيتشوية] للقيم والجماعة الذكورية الحربية البطولية". مثل هذه المناقشة جعلت شتوكر، التي تجرأت على تطبيق فلسفة نيتشه التحررية على النساء، منبوذةً. وجعلتها سمعتها العالمية كنسوية تعرف أن اعتقالها كان وشيكًا عندما استلم النازيون السلطة عام 1933. لهذا، هربت بين ليلة وضحاها: أولًا إلى سويسرا، ثم إلى إنكلترا، ثم السويد. ومع اقتراب الجيوش النازية كثيرًا، استقلّت أخيرًا "سكة الحديد العابرة لسيبيريا" عبر روسيا، وسفينةً بخاريةً من اليابان إلى سان فرانسيسكو. ثم، بعد عقد من وجودها في المنفى، توفيت في ملجأ معدم في مدينة نيويورك. وعلى بعد محيط منها، كانت النخب التي ألهمها نيتشه لا تزال تسعى إلى نسخة من "بشرية جديدة" دمرت حضارةً تقريبًا: ليس خلال 100 عام، كما يزعم اتهام آلاماريو ضد النساء، بل خلال العقد القصير الأخير من حياة هيلينه شتوكر الشغوفة الملهَمة بنيتشه.

(*) ليديا مولاند: أستاذة لمادة الفلسفة في كلية كولبي، الولايات المتحدة، حيث تدرّس الفلسفة الأخلاقية، فلسفة الجمال، وتاريخ الفلسفة الحديثة. من كتبها: "هيغل عن الهوية السياسية: الوطنية، القومية، الكونية" (2011)، "فلسفة الجمال عند هيغل: فن المثالية" (2019)، "ليديا ماريا تشايلد: حياة أميركية راديكالية" (2022).