Print
وارد بدر السالم

في شيخوخة الفراغ

29 أغسطس 2024
اجتماع

 

 (1)

ثلاث ثورات غيّرت نمط الحياة بتمامها: الزراعة، الصناعة، والإلكترونيات. وغيّرت معها علاقات الإنسان بواقعه، بالطبيعة، بكل ما يحيط به من وجود مادي. إذ أدخلت في ثورة الصناعة الآلة بوصفها عاملًا مساعدًا، بعد أن استغنت عن العضلة البشرية التي كان يعتمدها إنسان التاريخ، فحاصرته بالزمن والوقت والمسافة والليل والنهار؛ لكن تلك الآلة، بمستوياتها التشغيلية المتعددة، أضافت للجسد فراغًا لا يمكن أن نتخطاه في ضوء مسلّمات عملية ناجزة وملموسة يتصارع معها على مدار الحقب الزمنية الفائتة. فمنذ العصر الزراعي وحتى العصر الإلكتروني، واجه الجسد البشري الكثير من الفراغ النفسي والبدني، بما يمكن أن نسميه بالإنهاك أو المشقّات التي تفترعه منذ قرون طويلة، عضليًا ومن ثم آليًا في زمن كان وما يزال مفتوحًا في تراتبية حِقَبيّة ظلت مستمرة إلى يومنا هذا، خاضعة حتميًا إلى تطورات الحياة التكنولوجية والإلكترونية والعلمية بشكل عام.

(2)

لم يكن الإنسان القديم يشعر بالفراغ الشخصي ولا يعرفه. كان عقله فطريًا مثل جسده، وكلاهما تدرّب على صعوبات الطبيعة ومتغيراتها ومخاطرها، فاكتسب مناعة مضاعفة في مواجهة الأخطار، لذلك لم يشعر بالفراغ بالشكل الذي يعاني منه إنسان اليوم. لكنه؛ كنتيجة لممارسته الحياة بشكل عضلي؛ كان يشعر بالإرهاق والتعب والمشقة، وهذه حالات طبيعية في ظروف الإنسان القديم، الذي كان على تماس مباشر مع الطبيعة، بما فيها من حرث وزراعة وصيد ومخاطر جسيمة من فيضانات وتقلبات جوية وانهيارات جغرافية وعواصف ورياح وما إلى ذلك.

قديمًا كانت العضلة هي الآلة البشرية، وكان الجسد قادرًا على أن يفهم معنى العمل ونوعيته وأهميته له، كونه إنتاجًا يستفيد منه، متمثلًا بالزراعة والصيد قبل أن تتدخل الآلة البدائية في تنظيم الحياة إلى حدّ كبير. وكانت القوة البدنية من أكثر العوامل المثالية التي تُنجِز مهام العمل أيًا كان. فقد كان الجسد/ الرجالي والنسائي على حد سواء/ موكلًا بها/ وهو آلة استثنائية، متحركة، لِما فيها من حواس قادرة على التمييز والمرونة والمطاولة واحتواء الإنهاك والتعب، وحتى القرف. لذلك نجد الحياة القديمة عبارة عن قرية وطبيعة وزراعة وصيد، مما تطلب مجهودات جسدية استثنائية للتواصل مع الحياة والطبيعة. بينما تطورت الحياة الحديثة والمعاصرة بسبب اختراع الآلة وأصبحت مدينة أوسع من القرية؛ لكن تعقّد الفراغ فيها هو أيضًا تطور، مثلما تطور وتعقّد الإنهاك في الحياة المدنية المعاصرة. ومن هذا نرصد جانبين من الإعياء الجسدي، قروي ومديني، عضلي وآلي. ومن ثم يمكن تحديد الفراغ كعامل من عوامل المتاهة الشخصية والجماعية الذي تعاني منه شعوب ما بعد الآلة الصناعية.

(3)

هناك مشقات ظاهرية يمكن رؤية علاماتها بارزة على الجسد، وثمة أخرى لا تظهر ماديًا بقدر ما تترك من أثر على الجسد. تكمن في الأعصاب على وجه التحديد، لذلك فالبشرية خُلقت ليكون الإعياء وسيلتها لأن تبقى وتتطور من دون كلل ولا تهاون. وليس من قبيل المصادفات في الطبيعة أن يكون هناك الضواري والكواسر والجوارح، فالبشرية القديمة كانت تتعامل مع أضدادها المفترسة ببسالة الجسد وقيمته المعنوية وما فيه من قوة بلاغية تمّ تدريبها مع الوقت، حتى لو بأسلحة صيد بدائية صنعها من الأغصان والأشجار وموجودات الطبيعة الأخرى؛ ليبقى معتمدًا على الكثير من الانتباهات والطاقات التي يفرزها الجسد في مواجهة الضد له. لذلك نجد القول مناسبًا هنا بأن نمر على مفاهيم المشقة والتعب والإعياء والإنهاك والفراغ، عبر فقرات وخطوط عامة تشير إلى كل هذا؛ فالمفردات، مهما تعدّدت، هي واحدة في أن تترك أثرها النفسي والمعنوي، لتجسم الطيف الإنساني في عصوره الزمنية المتعاقبة التي مرت البشرية بها. مثلما يجدر بنا المرور على كيان مخيف اسمه الفراغ، كناتج عن شيوع الآلة الصناعية ودورها في تقليص زمن العمل البشري إلى ساعات نهارية أو ليلية، وما تركه من أثر نفسي على المجموع البشري في إرهاصاته اليومية.



(4)

بحث علم الاجتماع مقاربات بيانية ونظرية وميدانية منذ ابن خلدون وأوغست كونت في المجتمعات العربية والغربية، ولم يترك مجالًا من مجالات الحياة إلا وتناولها بالمعاينة والبيانات والأدلة والاستقصاء والتأويل والشرح. لكنه ترك بيولوجية الإنسان ومشاكلها المتفاقمة إلى الحيّز الطبي، فظل يبحث عن أسبابها المجتمعية والسيكولوجية سواء بشكل فردي أم جماعي. وكأننا لم نعثر على نظريات في علم الاجتماع عن موضوعة الفراغ الذي يحيط بالجنس البشري، بوصفه قوة نفسية ضاغطة، لها آثار سلبية منظورة كبيرة. فالفراغ حالة استهلاكية أكثر من كونها منتجة. والإرهاق البدني يدوّره الجسد بمرور الوقت، على أنه يتكرر ويُدوّر ويتكرر. حتى الدراسات البحثية قليلة فيه، كظاهرة اجتماعية بين الشعوب المنتجة والمستهلكة. ومثلما يولد العمل في الطبيعة، يولد الفراغ منها كوقت حر يبتعد فيه الإنسان عن العمل والآلة والالتزامات الوظيفية. أما الفراغ فقد يكون مكانًا ولا يكون. وهو في حالاته كلها زمن بطيء يحيط بالإنسان، وأحيانًا يُحبطه، مثيرًا فيه الكثير من الكآبة والحزن واللا جدوى. وفي الحالتين ثمة مشكلة تولدها تلك الحالة الملتبسة في تعريفاتها الكثيرة: الفلكية والفيزيائية والهندسية والنفسية. كونها واقعًا يوميًا مُعاشًا من شمال الحياة وشرقها إلى جنوبها وغربها.

(5)

الفراغ مكان وزمن لا يمكن رؤيته. بل يمكن الإحساس به.

الدوام اليومي في وظيفة لا تنتهي كلها عوامل تساعد على الفراغ والعزلة والوحدة، لا سيما في عصر الإلكترونيات؛ عصر العولمة وما بعد الحداثة ومتطلباته الاقتصادية والنفسية التي وضعت الإنسان في دائرة أضيق من قفص العصفور (Getty)


(6)

الجسد تاريخ وهوية. ثقافة مجتمعية يحملها في كل العصور، ليكون بصمة استثنائية في الشخصية الفردية، مثلما هو بصمة اجتماعية عامة. ولكي يكتسب نشاطه المعتاد، يتوجب تشغيله ضمن حدوده النفسية والاعتبارية، فهو ملاذ آمن للروح والنفس والرغبات. يختزن طاقات إيجابية كبيرة، ولهذا ينبغي أن لا يُثار أو يُستفز أو يُحاط بطاقات سلبية عنيدة. وما دام إنسان ما قبل وبعد التاريخ يعدّه آلة تشغيلية، فهو معرّض للعطب والخراب، تتحكم فيه بعض العوامل القاسية، كالعمر المتقدّم، واستنفاد طاقته الطبيعية في العمل الشاق وتحميله أكثر مما يحتمل من واجبات، ثم الفراغ المتحصل من عطبه وخرابه. هذا يتسبّب في كآبة الوقت وتضخمه من دون وجود عوامل ساندة تحيي الكثير من موت خلاياه وبعضًا من نشاط الأعصاب فيه واستفزازها، وبالتالي فعوامل مثل هذه يحتاج فيها الجسد إلى ترميم، وقوة نفسية تعالج ما تأخر من استجاباته. وكل اضطراب في البنية الجسدية وراءها إجهاد وفراغ زمني، وتأخر في الاستجابات الطبيعية لحاجاته اليومية، لذا نرى إنسان التاريخ وما بعده يلجأ إلى القوى الغيبية، والطقوس الدينية، لتسكين روح الجسد وضخ القوة المعنوية فيه، وهي قوة نفسية ملائمة لإعادة تشغيله. حتى إنسان الحداثة التي تلت تاريخ الإنسان الحضري لجأ فيها إلى صيدلية الطبيعة، وما ادّخرته من وسائل طبية وشعبية وطوطمية لمعالجة أسباب العطب، أي معالجة الفراغ المتخلف عن تأخر الجسد في استجاباته الشكلية في الأقل.

(7)

الطب الشعبي تدخّل في إعانة الجسد منذ زمن قديم، والفراغ كأحد أمراض المجتمعات الصناعية وما بعدها ليس مرضًا عضويًا، بقدر ما هو مرض نفسي، يتسبّب بالكسل والإحباط واللاجدوى والاكتئاب وزيادة العمر، حينما يجري الزمن ببطء قاتل فيه، مما يؤدي إلى تكلّس الجسد وتقويض أنسجته وعضلاته وزيادة أو قلة افرازاته. لذلك يمكن أن نقول إن السعادة أو نقيضها تتمثل في الانتاج، وأن سلة الأدوية الشعبية ليست سوى تماثلات شفائية مؤقته. فالمرأة الستينية تبحث عن الثوم كما أوصتها جارتها العجوز للتقليل من خطر الإصابة بأمراض القلب وخفض ضغط الدم والكوليسترول. أما الزنجبيل فهو الأكثر استعمالًا منذ خمسة قرون كعلاج لأمراض الغثيان والألم والقيء وتسكين الآلام، ومثله الكركم الذي يُستعمل في الطبخ، كونه مضادٌ للميكروبات وآلام المفاصل والالتهابات المزمنة، والميرمية كعشبة تساعد في تحسين وظائف الدماغ وتعالج الأكزمة وحَب الشباب والصدفية. والبقدونس الذي يخفف من احتباس السوائل في الجسم بسبب خصائصه المدررة للبول. والنعناع لعسر الهضم والغازات والتشنجات، والبابونج الذي يقلّل من التوتر العصبي ويعمل على تخفيف أعراض الاكتئاب، والزعتر البري الغني بالفيتامينات والمعادن. والقرفة المضادة للبكتيريا والمساعِدة في خفض سكر الدم. حتى نساء الدورة الشهرية لجأن منذ زمن بعيد؛ في تقليل أو تأخر أو إيقاف نزيف الدورة عبر صيدلية الطبيعة وما توفره لها من أعشاب ساندة لصحتها النفسية، كالزنجبيل والبقدونس والكركم واليانسون والكمون وورق الآس وزهرة الرمان وبذور الكتان وسواها من الأعشاب التي تسهم إلى حد ما في ترميم الجسد من الداخل والخارج. وبالتالي فإن المجتمعات الأكثر حيوية هي التي تنتج مجتمعات بينية، رياضية، هواياتية، عندما تؤسّس وجودها الجسدي عبر الهوايات، وخرق فائض الوقت وقيمته المضادة للإنتاج، في تعضيل القوة الفكرية بالقراءات المختلفة، أو اللجوء إلى التجمعات الرياضية، السباحة والسفرات الجماعية؛ كرة القدم؛ اليوغا، الأعمال المنزلية اليدوية، ترصيف الحدائق وريّها، متابعة الأخبار أو الأفلام التلفازية، الرسم، الكتابة، وزيارات الأقارب البعيدين والقريبين، في محاولات لا تنتهي لتطويق الفراغ والقضاء عليه نسبيًا باعتباره ندًا للإنتاج والسكون. في حين وجدت بعض المجتمعات أن اختراق الوقت يتم بالخمور والتسكع والاستهلاك العاطفي والجنسي والاستسلام للشيخوخة الجسدية، بوصفها فراغًا طويلًا قد ينتهي بالموت، وهذه نهاية إشكالية عدمية تكرّس قيم اليأس والكآبات الإنسانية. ولهذا، فإن مفرداتٍ لا تُعدّ، تتدخل في رسم النهايات البشرية في استسلامهم لمرض الجسد عندما تصبح شيخوخة الفراغ غولًا صعب المراس، فيتحول إلى مرض داهم.


(8)

المرأة الشرقية أكثر فراغًا من الرجل الشرقي، بحكم وجود تسبيبات اجتماعية ودينية ووظيفية وبيتية لتربية الأطفال، والقيام بواجبات الرجل التي لا تنتهي. وقد وضعتها الأعراف الاجتماعية والدينية بهذا الموضع الخطأ، من دون مراعاة لأمراض الفراغ المتكرر في حياتها التي قد تكون طويلة، لهذا فإن المرأة الشرقية، وإن تطبّعت على هذا الوجود الملفق عليها، تحاول استثمار أوقاتها، وتعدّها بمنزلة الوظائف، كالطبخ وتنظيف البيت وغسل الثياب ونشرها والمشغولات المنزلية الخفيفة التي تدرأ عنها وحشة الفراغ، إضافة إلى التعب والإرهاق الذي يمارسه جسدها على نحوٍ، كحدوث العوامل البيولوجية المعروفة: الحيض، الحمل، والولادة. وبالتالي فالمرأة الشرقية عبارة عن بالون يطير في المكان ولا يتخطاه إلا في بعض الحالات. لنجد المرأة تتشكل بعد الزواج من جديد على وفق ما تركته لها التقاليد والأعراف الدينية والاجتماعية، حتى وإن ذهبت إلى الوظيفة. فهذا جزء من إتيكيت الحياة المعاصرة التي جعلتها تبحث عن اقتصاديات توفّرها لها الوظيفة، ولو بالحدّ الأدنى من متطلبات المعيشة.

(9)
ثمة أمراض كثيرة في المجتمعات، يسبّبها الفراغ النفسي في عموم الناس. مهما كانت منازلهم الاجتماعية والوظيفية والاعتبارية، فالكراهية والحقد والغيرة جزء منها. المرض العضوي جزء آخر. الضعف والشيخوخة، الحزن والفرح والاستهلاك أجزاء متناثرة من أمراض الفراغ التي تصدم المجتمعات وإنسانها المعاصر الذي ترك الزراعة والآلة، وذهب الزمن به إلى عصر الإلكترونيات المعقدة. الشمس والحرارة والبرودة والملل والأرق والقلق وأعباء الحياة المتعددة، وتكرار الأيام على وتيرتها بلا تحديث، والدوام اليومي في وظيفة لا تنتهي كلها عوامل تساعد على الفراغ والعزلة والوحدة، لا سيما في عصر الإلكترونيات؛ عصر العولمة وما بعد الحداثة ومتطلباته الاقتصادية والنفسية التي وضعت الإنسان في دائرة أضيق من قفص العصفور. لنرى أن الإنسان الذي فقد آلته العضلية تحولت به القرون والعصور والأحقاب إلى أزرار سريعة، تحدّد له يومه وغده، وربما مستقبله أيضًا.

هوامش:

- تاريخ التعب من العصر الوسيط إلى أيامنا هذه - جورج فيغاريلو- ت: محمد نعيم- صفحة سبعة للنشر والتوزيع- المملكة العربية السعودية- 2020.
- ابن خلدون: عالمٌ اجتماع تونسي (1332 - 1406م.) أوّل من طبق المنهج العلمي على الظواهر الاجتماعية بتجريد التاريخ من الزوائد غير المنطقية والخرافات. ألّف عديد الكُتب كان من أهمها كتاب "تاريخ ابن خلدون". ومقدمة هذا الكتاب الشهيرة بـ "مقدمة ابن خلدون" والتي تعد كتابًا بذاتها (الموسوعة الحرة).
- أوغست كونت: عالم اجتماع فرنسي‏ (19 كانون الثاني/ يناير 1798 - 5 أيلول/ سبتمبر 1857) أعطى لعلم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن، وهو من أكد ضرورة بناء النظريات العلمية المبنية على الملاحظة.