يتلف المواطن الأميركي نحو 150 كيلوغراما من الأطعمة سنويا، فيما يتلف الألماني نحو نصف هذه الكمية، أما الصيني فيتلف نحو 40 كيلوغراما من الأطعمة سنويا، وهو ما يقدر بـ 6 بالمئة من مجمل الإنتاج الغذائي في البلاد، ومن شأن هذه الكمية التي تبلغ 35 مليون طن سنويا أن تطعم نحو 50 مليونا من الأشخاص. أميركا وحدها تتلف ما قيمته 220 مليار دولار من الأغذية سنويا، وهذا ما يعادل نصف الناتج المحلي السنوي لدولة بحجم إيران.
يستهلك الأميركي سنويا نحو 125 كيلوغراما من اللحوم، فيما يستهلك الفرد الواحد في الدول الفقيرة ما يقارب 20 كيلوغراما سنويا، أي أن كل أميركي يأكل ويتلف أكثر مما يستهلك خمسة أفراد من شعوب العالم الفقيرة، وبإجراء حساب بسيط، يمكن للأميركيين العيش من دون أزمات غذائية كالتي تعصف بالسودان أو غزة اليوم، حتى لو كانت أعدادهم تفوق المليار ونصف المليار شخص. ومع ذلك سيكونون أفضل حالا من الصينيين الذين يعيشون في أمن غذائي مستقر رغم أنهم يستهلكون أقل من الأميركيين بكثير.
إيراد هذه الأرقام لا يهدف لهجاء الأميركيين وأميركا. هذه الأحوال تتعلق بطبيعة التطور الاقتصادي. ما أن تزدهر أحوال الشعوب حتى تتضاعف نفاياتها. تلك النفايات تبدأ بالأطعمة والأغذية، وتمر بالملابس والعطور، ولا تنتهي عند السيارات والهواتف والحواسيب وأجهزة التلفزيون. لكن هذا لا يعفي المتمعن في معنى هذه الأرقام من ملاحظة أن التطور المنشود في كل مكان، يجعل الأرض أضيق بساكنيها. في كتابه: من سيطعم الصين؟ يلاحظ لستر ر. براون أن تقدم الصين الاقتصادي ينذر بمخاطر على البشرية بأكملها، إذ لو قرر كل صيني أن يستهلك زجاجتي جعة يوميا إضافة إلى مأكله ومشربه المألوف، فهذا سيجعل كل حقول النرويج غير متاحة لباقي العالم. ويجدر بنا أن نتذكر أن الاستهلاك يقع في جزء وافر منه في خانة استهلاك المواد التي لا حاجة لها: الثياب المكدسة في الخزائن، المجوهرات التي تحفظ في خزائن البنوك ولا تستخدم إلا لحظة تجريبها على الأصابع أو حول الأعناق، السيارات المعدة لاستخدامها في العطلات فقط، الأطعمة التي تستهلك لمتعة الأكل، البيوت الصيفية، قضاء الإجازات في الفنادق، شرب زجاجة بيبسي كولا من دون أي داع لشربها أو أي حاجة لذلك. كل هذه المدفوعات وغيرها تتكاثر مع الازدهار الاقتصادي وتتضاءل مع التعسر وفي أثناء الأزمات. ومعظم هذه السلع تدخل في حسابات التضخم التي تخشى منها الدول المزدهرة كثيرا. فحين ينصرف الأميركيون عن الإنفاق، لا يجوعون ولا يخسرون البيوت التي يعيشون فيها، إنهم ببساطة يقلعون عن شراء ما ليس ضروريا، وما ليس ضروريا للأميركي سيكون مستحيلا على الميسور في دولة من الدول الفقيرة. ذلك أن الأميركي حين يقرر أن يقتصد، سيقتني هاتفا أرخص من أحدث إصدارات آبل، ويشتري سيارة أصغر من السيارة التي كان يملكها. في حين أن النيجيري سيقتني الهاتف الذي تخلى عنه الأميركي أو الأسترالي أو واحدا من تلك الأجهزة التي لم يتسن للشركات المصنعة بيعها في تلك الدول. وعلى النحو نفسه سيستخدم سيارة مستعملة. لكن هذا الحرص، ما إن يتفشى، يؤثر على الاقتصاد المزدهر ويهدده بالكساد. والحق أن هذه الحصة من الكساد التي تهدد الاقتصادات الكبرى، تتصل مباشرة بما ليس ضروريا أبدا، ولا يغير في طبيعة الحياة ومستواها كثيرا.
وعليه، ثمة حاجة لدى الشركات الكبرى والدول والاقتصادات الناشئة لإبقاء الأميركي منفقا، حتى لو اضطرت تلك الدول أحيانا، لتمويل هذا الإنفاق بنفسها، لئلا تكسد السلع التي تبيعها للأميركيين. وخير مثال على هذا السعي ما جرى في أزمة 2008 ومسارعة الدول المنافسة لأميركا لشراء سندات الخزينة الأميركية على نطاق واسع خوفا من انهيار ثقافة الإنفاق الأميركية التي تمول شطرا أساسيا من مصانع العالم ومحترفاته.
يمكن القول إن جزءا من جهد العالم الأفقر يذهب إلى تمويل ما ليس ضروريا في العالم الأغنى. ومع أن الدول الأفقر تعاني من مصاعب اقتصادية ومعيشية على السواء، إلا أن انصرافها عن تمويل مثل هذه الزوائد المعيشية، في الدول الأغنى، سيضعها أمام أزمة أضيق خناقا وأشد عسرا. وفي عالم الاقتصاد يبدو هذا الأمر مسلما به، ولا يلقى اعتراضات مفيدة. لكن شيوع هذه الأحوال يشي بأزمة من نوع آخر. فكلما ازدهرت دولة من الدول كلما ضاقت الأرض بساكنيها وشحت مواردها. هذا فضلا عن أزمات بيئوية أخرى باتت حاضرة بقوة في المجتمعات المتقدمة. حيث تبذل اليابان والولايات المتحدة والدول الأوروبية جهودا مضنية لمعالجة أزمة تراكم النفايات التي يتلفها المواطنون من دون استخدامها أو تلك التي استخدموا جزءا يسير منها.
والكميات المتلفة سنويا في الولايات المتحدة وحدها من شأنها، لو حفظت، أن تطعم مليارات العالم الثمانية لمدة 10 أيام في الحد المتوسط، و16 يوما في الحد الأقصى. هذا فضلا عن المبالغ الطائلة التي يتم إنفاقها لمعالجة هذه النفايات، من دون الاستفادة منها وإعادة تدويرها. وقد وضعت الولايات المتحدة مؤخرا واليابان خططا لإعادة تدوير هذه النفايات واستخدامها كعلف للحيوانات. لكن الجهود المبذولة لم تصل إلى نتائج مرضية حتى اليوم.
فلنتحدث الآن عن العدالة. عن العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة نفسها. هذا البلد الذي يتلف هذا الكم الهائل من الأغذية يوميا، والذي تعاني بعض مدنه الكبرى من أزمة خلو المباني التجارية من شاغليها، ترتفع فيه أسعار الغذاء والبيوت باتجاه متسارع، ما يضع عشرات الملايين من سكانه على حافة الانهيار إلى هوة التشرد وانعدام الأمن الغذائي. مع ذلك ليس ثمة نقص في المعروض ولا في الإنتاج أو الاستيراد. المشكلة تكمن، في شطر أساسي منها، في صعوبة المنافسة. ثمة شركات كبرى تهيمن على معظم الإنتاج الغذائي في الولايات المتحدة والعالم، شركات اللحوم والمنتجات الحيوانية أربع، وليس لها منافس فعلي، وهي قادرة على التحكم بأسعارها وإبقائها مرتفعة لأن ارتفاعها يؤمن لها أرباحا أكبر. وكل ما يشربه الأميركي في يومه تتحكم به شركتان، هما كوكا كولا وبيبسي كولا. ولو قررنا مقاطعة المشروبات الغازية لأسباب صحية أو سياسية، فإن البدائل المطروحة في السوق هي أيضا من إنتاج هاتين الشركتين. في المحصلة ثمة طريق ملتفة على نفسها ولا يستطيع المواطن مواجهتها بأي طريقة من الطرق.
هذا التوصيف يقع في محاولة إيضاح عجز الشعوب، المواطنين، المستهلكين، عن التأثير في ما يستهلكونه. لقد بدت أفكار بيار بورديو في ثمانينيات القرن المنصرم، خصوصا في بحثه المعنون (A Social Critique of Judgement of taste)، تؤسس لإنشاء جماعات ضغط اجتماعية جديدة، بخلاف الطبقات وصراعها التي شدد كارل ماركس على إعطائها صفة المحرك التاريخي. رأى بورديو أن السلطات الحديثة انتقلت من اعتماد "القوة الخشنة" إلى اعتماد "القوة الناعمة"، لقد انتقلت من توخي الانضباط إلى إشاعة الإغواء، ومن المراقبة إلى إثارة الرغبة، وأوضح أن حرية الاختيار التي كانت في القرون السابقة تهدد سلطة الدولة على مواطنيها تحولت من عائق إلى مكسب لهذه السلطات، ومن مغامرة محفوفة بالمخاطر إلى مورد ربح موثوق. مع هذه الأفكار بدا أن الناس أصبحوا يستطيعون اختيار ملبسهم ومأكلهم وأهوائهم ومتعهم وسياسييهم وحاكميهم بأنفسهم، وبات على السلطة أن تراعي هذه الأهواء.
لكن ما حدث لم يكن مضيئا إلى هذا الحد. لقد نجحت المؤسسات الكبرى في التحكم بكل أهواء الناس على امتداد الكرة الأرضية، ولم يعد متاحا لنا أي اختيار. نحن نختار بين أبل وسامسونغ، حين نريد أن نقتني هاتفا محمولا، وعلى النحو نفسه، نحن نختار بين بيبسي كولا وكوكا كولا، حين نريد أن نستهلك شرابا ما، وبين نستلة وكروغر حين نريد أن نأكل. وكل الخيارات الموضوعة أمامنا هي خيارات ابتكرتها شركات كبرى متحالفة مع جامعات ومؤسسات طبية ومؤسسات حكومية، على نحو لا يسمح لأي كان بأن يشتري مسحوق غسيل من دون ضمانة إحدى هذه الشركات المتحكمة في خياراتنا. لقد أصبحت الثورات أصعب موردا وأعسر منالا. بل إن هجرة هذه الشركات ومنتوجاتها من أي بلد يشهد ثورة أو اضطرابا شديدا، ينذر بعودة هذا البلد إلى مجاهل التاريخ. هذا التاريخ، الذي ليس مصورا ولا معقولا ولا مفهوما. إنه بالضبط الغابة العذراء التي تنمو فيها كل الأعشاب الضارة وتتغذى على تلك المفيدة. وعلى المرء أن ينضبط اليوم لأنه لم يعد يملك خيارا وليس لأن السلطات مستعدة لقمعه. إنها ببساطة باتت مستعدة لإهماله، وبالإهمال وحده تحقق كل ما تريده من انضباط. الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب، في الدول المتقدمة والمتأخرة على حد سواء، هي خيارات ما يقوى المرء على إتلافه: الثياب التي لم تعد تناسبنا، اللحوم التي يجب أن تفسح مجالا للخضار الطازجة في ثلاجاتنا، الهواتف التي اكتشفنا أنها لم تقدم لنا تجربة مختلفة عن أسلافها، ونأمل بأن نحصل على تجربة جديدة تقدمها لنا أجيالها الجديدة. ولأننا لا نملك إلا حرية الإتلاف هذه، فالأرجح أننا نمعن في ممارستها بكل طاقتنا. ذلك أن حرية الإتلاف هي ما يصنع طبقات الناس ويصنف أحوالها في هذه الأيام، فكلما اتسعت خيارات الإتلاف لدى الفرد كلما كان متميزا عن أقرانه ضيقي الخيارات.
يستهلك الأميركي سنويا نحو 125 كيلوغراما من اللحوم، فيما يستهلك الفرد الواحد في الدول الفقيرة ما يقارب 20 كيلوغراما سنويا، أي أن كل أميركي يأكل ويتلف أكثر مما يستهلك خمسة أفراد من شعوب العالم الفقيرة، وبإجراء حساب بسيط، يمكن للأميركيين العيش من دون أزمات غذائية كالتي تعصف بالسودان أو غزة اليوم، حتى لو كانت أعدادهم تفوق المليار ونصف المليار شخص. ومع ذلك سيكونون أفضل حالا من الصينيين الذين يعيشون في أمن غذائي مستقر رغم أنهم يستهلكون أقل من الأميركيين بكثير.
إيراد هذه الأرقام لا يهدف لهجاء الأميركيين وأميركا. هذه الأحوال تتعلق بطبيعة التطور الاقتصادي. ما أن تزدهر أحوال الشعوب حتى تتضاعف نفاياتها. تلك النفايات تبدأ بالأطعمة والأغذية، وتمر بالملابس والعطور، ولا تنتهي عند السيارات والهواتف والحواسيب وأجهزة التلفزيون. لكن هذا لا يعفي المتمعن في معنى هذه الأرقام من ملاحظة أن التطور المنشود في كل مكان، يجعل الأرض أضيق بساكنيها. في كتابه: من سيطعم الصين؟ يلاحظ لستر ر. براون أن تقدم الصين الاقتصادي ينذر بمخاطر على البشرية بأكملها، إذ لو قرر كل صيني أن يستهلك زجاجتي جعة يوميا إضافة إلى مأكله ومشربه المألوف، فهذا سيجعل كل حقول النرويج غير متاحة لباقي العالم. ويجدر بنا أن نتذكر أن الاستهلاك يقع في جزء وافر منه في خانة استهلاك المواد التي لا حاجة لها: الثياب المكدسة في الخزائن، المجوهرات التي تحفظ في خزائن البنوك ولا تستخدم إلا لحظة تجريبها على الأصابع أو حول الأعناق، السيارات المعدة لاستخدامها في العطلات فقط، الأطعمة التي تستهلك لمتعة الأكل، البيوت الصيفية، قضاء الإجازات في الفنادق، شرب زجاجة بيبسي كولا من دون أي داع لشربها أو أي حاجة لذلك. كل هذه المدفوعات وغيرها تتكاثر مع الازدهار الاقتصادي وتتضاءل مع التعسر وفي أثناء الأزمات. ومعظم هذه السلع تدخل في حسابات التضخم التي تخشى منها الدول المزدهرة كثيرا. فحين ينصرف الأميركيون عن الإنفاق، لا يجوعون ولا يخسرون البيوت التي يعيشون فيها، إنهم ببساطة يقلعون عن شراء ما ليس ضروريا، وما ليس ضروريا للأميركي سيكون مستحيلا على الميسور في دولة من الدول الفقيرة. ذلك أن الأميركي حين يقرر أن يقتصد، سيقتني هاتفا أرخص من أحدث إصدارات آبل، ويشتري سيارة أصغر من السيارة التي كان يملكها. في حين أن النيجيري سيقتني الهاتف الذي تخلى عنه الأميركي أو الأسترالي أو واحدا من تلك الأجهزة التي لم يتسن للشركات المصنعة بيعها في تلك الدول. وعلى النحو نفسه سيستخدم سيارة مستعملة. لكن هذا الحرص، ما إن يتفشى، يؤثر على الاقتصاد المزدهر ويهدده بالكساد. والحق أن هذه الحصة من الكساد التي تهدد الاقتصادات الكبرى، تتصل مباشرة بما ليس ضروريا أبدا، ولا يغير في طبيعة الحياة ومستواها كثيرا.
وعليه، ثمة حاجة لدى الشركات الكبرى والدول والاقتصادات الناشئة لإبقاء الأميركي منفقا، حتى لو اضطرت تلك الدول أحيانا، لتمويل هذا الإنفاق بنفسها، لئلا تكسد السلع التي تبيعها للأميركيين. وخير مثال على هذا السعي ما جرى في أزمة 2008 ومسارعة الدول المنافسة لأميركا لشراء سندات الخزينة الأميركية على نطاق واسع خوفا من انهيار ثقافة الإنفاق الأميركية التي تمول شطرا أساسيا من مصانع العالم ومحترفاته.
يمكن القول إن جزءا من جهد العالم الأفقر يذهب إلى تمويل ما ليس ضروريا في العالم الأغنى. ومع أن الدول الأفقر تعاني من مصاعب اقتصادية ومعيشية على السواء، إلا أن انصرافها عن تمويل مثل هذه الزوائد المعيشية، في الدول الأغنى، سيضعها أمام أزمة أضيق خناقا وأشد عسرا. وفي عالم الاقتصاد يبدو هذا الأمر مسلما به، ولا يلقى اعتراضات مفيدة. لكن شيوع هذه الأحوال يشي بأزمة من نوع آخر. فكلما ازدهرت دولة من الدول كلما ضاقت الأرض بساكنيها وشحت مواردها. هذا فضلا عن أزمات بيئوية أخرى باتت حاضرة بقوة في المجتمعات المتقدمة. حيث تبذل اليابان والولايات المتحدة والدول الأوروبية جهودا مضنية لمعالجة أزمة تراكم النفايات التي يتلفها المواطنون من دون استخدامها أو تلك التي استخدموا جزءا يسير منها.
والكميات المتلفة سنويا في الولايات المتحدة وحدها من شأنها، لو حفظت، أن تطعم مليارات العالم الثمانية لمدة 10 أيام في الحد المتوسط، و16 يوما في الحد الأقصى. هذا فضلا عن المبالغ الطائلة التي يتم إنفاقها لمعالجة هذه النفايات، من دون الاستفادة منها وإعادة تدويرها. وقد وضعت الولايات المتحدة مؤخرا واليابان خططا لإعادة تدوير هذه النفايات واستخدامها كعلف للحيوانات. لكن الجهود المبذولة لم تصل إلى نتائج مرضية حتى اليوم.
فلنتحدث الآن عن العدالة. عن العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة نفسها. هذا البلد الذي يتلف هذا الكم الهائل من الأغذية يوميا، والذي تعاني بعض مدنه الكبرى من أزمة خلو المباني التجارية من شاغليها، ترتفع فيه أسعار الغذاء والبيوت باتجاه متسارع، ما يضع عشرات الملايين من سكانه على حافة الانهيار إلى هوة التشرد وانعدام الأمن الغذائي. مع ذلك ليس ثمة نقص في المعروض ولا في الإنتاج أو الاستيراد. المشكلة تكمن، في شطر أساسي منها، في صعوبة المنافسة. ثمة شركات كبرى تهيمن على معظم الإنتاج الغذائي في الولايات المتحدة والعالم، شركات اللحوم والمنتجات الحيوانية أربع، وليس لها منافس فعلي، وهي قادرة على التحكم بأسعارها وإبقائها مرتفعة لأن ارتفاعها يؤمن لها أرباحا أكبر. وكل ما يشربه الأميركي في يومه تتحكم به شركتان، هما كوكا كولا وبيبسي كولا. ولو قررنا مقاطعة المشروبات الغازية لأسباب صحية أو سياسية، فإن البدائل المطروحة في السوق هي أيضا من إنتاج هاتين الشركتين. في المحصلة ثمة طريق ملتفة على نفسها ولا يستطيع المواطن مواجهتها بأي طريقة من الطرق.
هذا التوصيف يقع في محاولة إيضاح عجز الشعوب، المواطنين، المستهلكين، عن التأثير في ما يستهلكونه. لقد بدت أفكار بيار بورديو في ثمانينيات القرن المنصرم، خصوصا في بحثه المعنون (A Social Critique of Judgement of taste)، تؤسس لإنشاء جماعات ضغط اجتماعية جديدة، بخلاف الطبقات وصراعها التي شدد كارل ماركس على إعطائها صفة المحرك التاريخي. رأى بورديو أن السلطات الحديثة انتقلت من اعتماد "القوة الخشنة" إلى اعتماد "القوة الناعمة"، لقد انتقلت من توخي الانضباط إلى إشاعة الإغواء، ومن المراقبة إلى إثارة الرغبة، وأوضح أن حرية الاختيار التي كانت في القرون السابقة تهدد سلطة الدولة على مواطنيها تحولت من عائق إلى مكسب لهذه السلطات، ومن مغامرة محفوفة بالمخاطر إلى مورد ربح موثوق. مع هذه الأفكار بدا أن الناس أصبحوا يستطيعون اختيار ملبسهم ومأكلهم وأهوائهم ومتعهم وسياسييهم وحاكميهم بأنفسهم، وبات على السلطة أن تراعي هذه الأهواء.
لكن ما حدث لم يكن مضيئا إلى هذا الحد. لقد نجحت المؤسسات الكبرى في التحكم بكل أهواء الناس على امتداد الكرة الأرضية، ولم يعد متاحا لنا أي اختيار. نحن نختار بين أبل وسامسونغ، حين نريد أن نقتني هاتفا محمولا، وعلى النحو نفسه، نحن نختار بين بيبسي كولا وكوكا كولا، حين نريد أن نستهلك شرابا ما، وبين نستلة وكروغر حين نريد أن نأكل. وكل الخيارات الموضوعة أمامنا هي خيارات ابتكرتها شركات كبرى متحالفة مع جامعات ومؤسسات طبية ومؤسسات حكومية، على نحو لا يسمح لأي كان بأن يشتري مسحوق غسيل من دون ضمانة إحدى هذه الشركات المتحكمة في خياراتنا. لقد أصبحت الثورات أصعب موردا وأعسر منالا. بل إن هجرة هذه الشركات ومنتوجاتها من أي بلد يشهد ثورة أو اضطرابا شديدا، ينذر بعودة هذا البلد إلى مجاهل التاريخ. هذا التاريخ، الذي ليس مصورا ولا معقولا ولا مفهوما. إنه بالضبط الغابة العذراء التي تنمو فيها كل الأعشاب الضارة وتتغذى على تلك المفيدة. وعلى المرء أن ينضبط اليوم لأنه لم يعد يملك خيارا وليس لأن السلطات مستعدة لقمعه. إنها ببساطة باتت مستعدة لإهماله، وبالإهمال وحده تحقق كل ما تريده من انضباط. الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب، في الدول المتقدمة والمتأخرة على حد سواء، هي خيارات ما يقوى المرء على إتلافه: الثياب التي لم تعد تناسبنا، اللحوم التي يجب أن تفسح مجالا للخضار الطازجة في ثلاجاتنا، الهواتف التي اكتشفنا أنها لم تقدم لنا تجربة مختلفة عن أسلافها، ونأمل بأن نحصل على تجربة جديدة تقدمها لنا أجيالها الجديدة. ولأننا لا نملك إلا حرية الإتلاف هذه، فالأرجح أننا نمعن في ممارستها بكل طاقتنا. ذلك أن حرية الإتلاف هي ما يصنع طبقات الناس ويصنف أحوالها في هذه الأيام، فكلما اتسعت خيارات الإتلاف لدى الفرد كلما كان متميزا عن أقرانه ضيقي الخيارات.