"تشريح حقبة ألمّ بها الكرب"
ببراءة، وغير مدركين لمصيرهما، راح آدم وحواء يتنزّهان في الجنة، ولا شك في أن حادثة الطرد سبقها الفضول والرغبة بارتياد الممنوع، مدُّ اليد للشجرة بعد الوسوسة وتذوّق طعم لا؛ التي يراها الشكاكون والثائرون أعظم اللّحظات؛ من دون أن يتنبّهوا ــ إن صحّت الحكاية ــ أن وجودنا هنا وحرماننا من هناك نجمَ عن غواية الانتهاك الذي أُلقيت تَبِعاتُه لاحقًا على حوّاء.
وملاحقةَ تسلسلٍ تاريخي لحكاية البراءة هذه، تُحيل إلى المفقود، فالبراءة، ومن ضمن معانيها الكثيرة، التصديق والمصادقة على الحقيقة. إنّها غبطة كانط وهو يشعر بالدهشة والسعادة حين يحدّق إلى "السماء المليئة بالنجوم فوق رأسه والقانون الأخلاقي في صدره"، فرح سقراط باكتشافه للعقل ضمن ما هو حيوانيّ في الإنسان، صرخة القديس النزيه أوغسطين في وجه القساوسة الذين أرادو السخرية منه وهم يدعونه للنظر من النافذة لمشاهدة البقر يطير "ولما جاء ونظر ولم يجد شيئـًا، ضحكوا عليه فقال لهم: ما كنت لأدهش لو رأيت بقرًا يطير أكثر من دهشتي وأنا أرى قساوسة يكذبون"!
هل تبدو هذه مقدّمة عاطفيّة!
لنحاول من جديد، ولنتأمل في عالم جديد ــ غير شجاع ــ تزدهر على ضفافه الذات الكلبيّة، الارتياب في دوافع الآخرين، الإحباط، التباهي بخيبة الأمل وغياب الثقة، الاستعراض المعرفي على وسائل الميديا، حيث الذات تتضخم كإسفنجة في بركة راكدة. السّخرية من الحقيقة لا لغرض سوى حرف النظر عنها نحو اللسان الممدود بطريقة هزليّة.
عالم يسير فيه آلاف العمال في شوارع لا تخصّهم، ويسمعون نشيدًا لا يعرفون لغته ولا يخفق قلبهم له. يطفو كثير من المهاجرين على وجه البحار الأوروبيّة وتنغرس أجسادهم المنتفخة على شواطئها، رجل يقاضي جاره لأن الأول داس في ملكيته وهو يتنزه مع كلبه، انقلاب للأدوار بين واقع حقيقي وآخر شبحيّ تصنعه الميديـــا، الإرهاب والأنظمة الشموليّة، السعار التكنولوجيّ، تشظّي الحقيقة في كل اتجاه. المطبخ السحابيّ، الجوع في أفريقيا، الانتحار اليومي، "هيمنة الصورة، وتكنولوجيا الخداع العالمية، وتأصل علم التحكم (السبرنطيقا)، اختلاط القيم، والهويات، التآكل المستمر لتصوراتنا"، وتخلّي الفن عن دوره الجماليّ وتبنّيه قيم التشويش والفوضى والتسويق.
هل تبدو هذه المقدمة أخلاقيّة!
"القيم منافية لروح العصر"، سيقول مؤرخ اللحظة ويضيف: ولحركة التاريخ. وسيتابع: لقد اكتشفنا خدعة كل شيء، ونريد تحطيم كل شيء. نحبّ كلمة عدم في الفم كما نستسيغ حبّة السكاكر، لو أمسكنا الذهب أحلناه ترابًا ولو صادفنا الحب بدّلناه بنزوة، ووضعنا المصلحة فوق الصداقة. لكن هذا ليس كل شيء، فأهم سمات هذه المرحلة التي وصفها تيري إيغلتون بالفصل الأخير من المسرحيّة: الشك وتفكيك كل حقيقة، سواء أرضيّة أو ميتافيزيقية. إعادة تعريف العلاقة بين الهامش والمركز الذي يؤدي إلى الكشف عن زيف التاريخ، وهشاشة الحقيقة والتزوير. ذلك رائع، لكن السؤال الذي يشغل بال كثيرين هو: إلامَ أنتهى كل ذلك؟
أن نتحرى الجواب لدى إيهاب حسن وهو من أوائل المنظرين لها، حدّ أن جورج ستاينر وصفه "بأنه أول من رآها قادمة ولم نكن نرى ذلك"، يعني أن نصل إلى النقيض، فقد انتهى واضع عشرات الكتب والمقالات: تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي (1971)، ــ النقد النظير: سبعة تأملات في العصر (1975) ــ نار بروميثيوس: الخيال، العلم، والتغير الاجتماعي (1980) ــ التحول ما بعد الحداثي: مقالات في نظرية ما بعد الحداثة والثقافة (1987)، إلى روحانيّة جديدة.
فالمفكر الأميركي من أصل مصري، والذي رأى أنّ ولادته في مصر حدث عارض، تابع سيرة الروح في اغترابها، وشخّص علاقة الإنسان بهويّته عبر رحلة ما بعد الحداثة، التي تتسم بالانتماء بمعناه الضيق وتفكك معاني الحياة، ومعاناة الخواء. والأخير هو مأزق الإنسان ما بعد الحداثي بامتياز.
لقد قضى زمنًا في محاولة تحديد هذا المفهوم المربك الذي يصفه بالأوديبي، على اعتبار أن ما بعد الحداثة "تستدعي ما ترغب، في تجاوزه أو قمعه. أي الحداثة نفسها"، ورغم أنها تتضمن في أعماقها "الهدم والحاجة للاكتشاف". وتتّسم بالضبابيّة والتشويش والإبهام والميل لتسطيح الذات، ونتيجة موقفها من الحقيقة انتهت في رأيه إلى الراديكاليّة، بل إن محاولتها تملك الماضي عبر تأويله. اتخذ شكل اعتداء عليه من خلال "أيديولوجيات تفككه وتدمجه كليّة في جسدها".
إن مشكلة هذه الحركة في عموم رؤيته هي (الأنا)، ونفاقها الصارخ. فالنسبية التي يبدو أنها "تقدم وهم البراءة والحرية معًا، تعبير شديد عن الأنانية". يسأل: هل لاحظت أن النسبيّة يستحضرها في العادة شخص على وشك أن يخسر دعوة! لقد أدرك النتائج الكارثية لكونها اتخّذت مسارًا خاطئًا جعلها تتأرجح بين عدوانيّة وأيديولوجية انعكست في فنها، وانتهت للخواء.
إن نزوعها الراديكاليّ وتعلقها الأناني بالذات جعل إيهاب حسن يصف عصرنا بأنه "حقبة ألمّ بها الكرب".
إذ نخرت النسبية أساس الحقيقة، "وإذا ماتت الحقيقة فكل شيء مباح نظريًّا". أما الذات فهي تتحلل في الكذب والخداع ومصدره الأنا التي تتصلّب. نظر إيهاب حسن إلى ما بعد الحداثة باعتبارها دلالة على الحمق الإنساني، إذ "أكثر الحمقى حكمة يعرف، في خضم غفلته، كيف يدمر نفسه ويدمر مليكه". وهذه الحركة التي تقوم على الشك والتقويض، وهو "سمة بالغة التحضر ــ عند ت. إس. إليوت ــ لكنه يتداعى حين يتحول إلى بيرونية شكية".
المشكلة التي تعاني منها ما بعد الحداثة، كنزعة تصبغ روح العصر، هي العمى الأناني، وهذا الأخير الذي نجمت عنه انتقادات وتحيزات في هذه الحركة الإنسانية أدى إلى تحول "الآداب والفنون لمجرّد ألعاب عقيمة، رخيصة، هابطة، عابثة، لا غاية من ورائها سوى الإثارة الإعلامية الخالصة".
وفي نهاية الثمانينيات، وبينما كان إيهاب حسن يتجول في معرض غراند بالاس في باريس، ويتأمل الأعمال الهزليّة، شعر بما يشبه استيقاظ. لذا قرر اعتزال النقاش النظري حولها، ووجه اهتمامه نحو تفكيك المأزق الذي وقعت فيه، والبحث عن إمكانات للبدء من جديد. لذلك يعيد تشريح الداء الذي استوطن روح ما بعد الحداثة كالدودة في قلب الثمرة.
فتدمير الحقيقة أفضى إلى نسبية أنانية ومصلحية، والمشكلة أن هذا التوجه في الفنون والآداب يعكس الخواء الذي وصل إليه الإنسان، حيث نخُرج ما في أرواحنا للوجود بقسوة، سواء عبر العنف، أو الفن المفرغ من مضمونه. بل يرى أن العدمية أكثر نبالة من النسبية الضحلة لما بعد الحداثيين.
كتب تيري إيغلتون مرة "أن الرجوع إلى الجسد قد نتج جزئيًا عن عداء البنيويين للوعي، فهو يمثل الطرد النهائي للأشباح من الآلة". لذلك يطمح إيهاب حسن إلى أن نعطي الحقيقة فرصة عبر استرداد الوعي والروح، ولكن عبر فلسفة عملية تجد في براغماتية وليم جيمس غاياتها.
ويجدها في الغيرية، والتسامي على الحياة المادية للارتقاء فوق الذات. إذ تمتاز البراغماتية بالسخاء العقلي والنزعة التعدديّة المعرفية التي تتوافق مع ما بعد الحداثة من دون أن تحتوي في داخلها ميلها العدميّ. يكتب: "أدرك أنه من دون الروح، الإحساس بالمعجزة الكونية، بالكينونة الأخلاقية، يتقلص الوجود إلى مجرد بقاء. إنه شيء نحتاجه لتحريرنا من سجن الهوية القبليّة، ومن قبضة الأثرة الرهيبة: تلك هي الروح".
وكأنه يلمح إلى مرتكزات أخلاقية وقيم مشتركة. أما الحقيقة فهي في هذه الرؤية ليست تعاليًا، بل إجماع قائم على الثقة، لا يتطلب منا أن نعامِل بالمثل؛ بل أن نتجرد ونهتم بالآخرين والعالم المخلوق. وهو يتابع تفكيك العمى الذي ألم بهذه النزعة ما بعد الحداثية، ويرى أنها متحيّزة ومداهِنة.
يسأل: "كم عدد أولئك الذين شهدوا على أنفسهم؟ كم عدد الذين يقولون الحقيقة، ليس في وجه السلطة كما كان إدوارد سعيد يطلب من المثقفين، وإنما أيضًا ضد أنفسهم".
تبدو أفكار إيهاب حسن يوتوبيّة، لكنها نابعة من عمق المأزق الذي أدركه أهم منظري هذه الحركة الفنية والإنسانية، وتنطلق من إدراكه أن مصيرنا المشترك يتوقف على الحقيقة والثقة، كقيمتين روحيتّين، وهذا يتطلب "الحدس بالخواء".
إن نموذج فوكو، ودريدا، وكل الحركات ما بعد الحداثية، قائم على نقد السلطة، وتفكيك الخطاب. لكن سقراط فعل ذلك منذ زمن. فالحقيقة التي يريدها إيهاب حسن ليست سقراطيّة، بل أوديبية. يسأل: ماذا لو كان نموذج أوديب في كولون بدلًا من سقراط في أثينا هو النموذج الأبرز؟
قد تبدو هذه نزعة تفاؤلية مضحكة وطفولية، لكن مقولة إمرسون في "القدر" تتعلق بالمقاومة، لا القبول، وفي هذه الرؤية "لم يكن الرجال العظماء، والأمم العظيمة، متباهين ومهرّجين، ولكنهم كانوا مدركين لرعب الحياة، وكرّسوا جهودهم لمجابهته". ويرى أن الحل ليس على طريقة ما بعد الحداثة التي لا تعرف سوى كلمة لا "وإن قول كلَّا وعن كل شيء ينمُّ عن ضحالة". وفي هذه التجربة، فإن أفضل نقّاد المرء هي ذاته.
في حواره بجامعة برينستون، سأله فرانك سيوفا: عما إذا كان شعر بالارتباك بشأن مدلول ما بعد الحداثة؟ فكان جوابه: أقبل بعدم استقرار المصطلح في عصر الدعاية والحروب الأيديولوجيّة، ولكني رحت أتجاهله، فاهتماماتي الخاصة تحولت عنه في اتجاه إمكانات روحيّة.
يبدو الروحيّ في تجربته ممتنعًا على التحديد، فالرجل الذي دأب بوصوله لأميركا على تعريف هويته، والذي وجد نفسه في وضع غريب: "لماذا أنا في أميركا، لماذا أنا في بلاد السمنة المفرطة، وطيّات لحم البدانة تترجرج في كل مكان"؛ انتهى لروحيّة عمليّة، حيث اهتمام الذات بالآخر جواز مرور لها من ظلام الخواء والعمى إلى وعي إنسانيتها. فالأماكن الحقيقيّة هي أماكن الروح، وملفيل في "الحوت الأزرق" يوصينا: "استخرج خريطتك وانظر فيها. انظر إلى أي ركن حقيقي من العالم تحتله".
يبرع إيهاب حسن في التقاط الذبذبات الخفيّة لعصره الذي نظر إليه كثيرون على أنه عصر النهايات، والسؤال هل ستكون "ما بعد بعد الحداثة" حقبّة روحيّة بعد أن أثبت العالم الاستهلاكي عدم اكتراثه بالإنسان، وخصوصًا مع التوجه المتزايد نحو فلسفات الشرق ونظرتها للنمو الإنساني الذي لا يتحقق بمعزل عن الآخر، أم ستكون هناك مواجهة مفتوحة بين توجّه روحيّ ونزعة ما بعد إنسانية تسودها الآلة. في كل الأحوال: لقد طُرد آدم من جنته، لكن تلك لم تكن سوى البداية. إنها مسألة تتعلق بالمواصلة من جديد لاستعادة براءته المفقودة.
إحالات:
ــ إيهاب حسن، تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، ترجمة: السيد إمام (2018).
ــ إيهاب حسن، أوديب، حوارات ومقالات، ترجمة: السيد إمام (2018).
*كاتبة سورية.