Print
هشام أصلان

ديستوبيا بسمة عبد العزيز على قائمة "فورين بوليسي"

26 ديسمبر 2016
هنا/الآن

 

ظهيرة 12 فبراير 2011، هاتفت أحد الأصدقاء، كان وقتها من أبرز المحفزين على الثورة، عبر أشرس مقالات صحافية ناهضت مبارك، وأكثرها رواجًا. لم أكن رأيته في الليل حيث احتفلنا بالتنحي في الميادين حتى طلوع الشمس. قلت له: مبروك، أخيرًا. قال: "الحكاية ماخلصتش. مبارك رأس النظام. النظام لا يزال موجودًا". بينما لم آخذ الكلام بجدية، وبينما أخلى الشباب ميدان التحرير، وراحوا ينظفونه من آثار الـ18 يومًا، ويدهنون أرصفة وسط المدينة حالمين بعالم سعيد، كان البعض، مثل صديقي، يُدرك: "بعد كل قيصر يموت، قيصر جديد"، نبوءة أمل دنقل.

بعدها بفترة قصيرة، بدأت الكاتبة المصرية الشابة بسمة عبد العزيز كتابة روايتها "الطابور"، لتصدر أواخر 2012. وكان المرء منّا يستغرب، أيامها، من سرعة تفاعل بعض الكُتّاب، أدبيًا، مع مجريات الأمور. بصراحة، كان التلقي لا يزال منتميًا إلى أيام ذات طبيعة مختلفة، كنّا نقول: لا بد من مسافة زمنية للتفاعل فنيًا مع الأحداث. غير أن الاعتراف واجب. ستة أعوام مضت منذ "يناير"، هي في تصوري السنوات الأكثر خصوصية في حياة المجتمع العربي بتعدد شرائحه. الأحداث الكبرى في التاريخ كثيرة، ولكن لم يحدث أن تغيرت طبيعة البشر إلى هذه الدرجة في غمضة عين بفعل حدث. بالأحرى، انحرف تلقيهم بحدّة لكل شيء.

"الطابور" لم تقل إن هذه مصر، أو أن هذا مبارك. لكنها تعاملت مع واقع شديد القرب من الحالة المصرية بآنيتها. النظام القديم لم يرحل. والناس، بعدما ضاقت بهم الدنيا واستسلموا، يقفون الآن في طابور طويل، لا يتحرك تقريبًا، لينتهي ببوابة تصدر عندها تصاريح حكومية لممارسة الحياة، بينما يتجلى الاستبداد في رفض المستشفى العسكري استخراج رصاصة من جسد البطل، كان تلقاها في مواجهة بين قوات الأمن ومعارضي النظام. قرر الأطباء العسكريون أن يخبئوها بوصفها دليلاً على مواجهة العُزّل بالسلاح. بطل الرواية المصاب لم يكن معارضًا سياسيًا. وكأنها رمزية إلى أن العاديين هم أكثر من أصابهم وجع الصراع.

 

معايير جديدة لـ"فورين بوليسي"

الرواية عن دار "التنوير" المصرية، وصدرت طبعتها الإنكليزية عن دار "ملفيل هاوس" الأميركية. ومنذ شهور، وقّعت بسمة عقدًا تمهيديًا مع شركة Mulberry الأميركية للإنتاج السينمائي، لتحويل "الطابور" إلى فيلم. الشركة لم تشترِ الرواية نهائيًا، لكنه عقد يحجز حق تناولها. سألت بسمة عن تطورات الحكاية. قالت إن الشركة في مرحلة كتابة السيناريو والبحث عن تمويل مناسب للفيلم.

ومنذ أيام قليلة، وقع الاختيار على بسمة، لتكون ضمن قائمة مجلة "فورين بوليسي" الأميركية: "100 من قادة الفكر في العالم".

وكنت تصورت أن الاختيار له علاقة بكتابها الأخير "سطوة النَص.. خطاب الأزهر وأزمة الحُكم"، ذلك أنه نص شائك، يتعمّق في دراسة المواقف المتغيرة للمؤسسة الدينية الرسمية، مُمثلة في "الأزهر"، بتغير نظام الحكم في الدولة. ظننت أيضًا أنه أكثر ملاءمة لطبيعة قائمة "فورين بوليسي"، حيث أن الكتابة الإبداعية العربية، في المعتاد، بعيدة عن القائمة، بينما تهتم بالمؤثرين أكثر في المجال السياسي بشكل مباشر.

عندما سألت بسمة، قالت إن "الاختيار في القائمة يتعلق برواية "الطابور" أولًا، وهي المذكورة في الحيثيات نصًا".

تقسّم "فورين بوليسي" قادة الفكر العالمي، وفق تقرير أعده "رصيف 22" منذ فترة، إلى عشر فئات، على رأسها "المحرّضون أو مثيرو الفتن"، إذ تعتبرهم "قلبوا العالم، تاركين مستقبل مناطق بأكملها وحياة عشرات الملايين من الناس تواجه خطورة القدر المجهول". التقرير يقول إن العرب "حصدوا حصّة الأسد عن هذه الفئة". وذكر أسماء من قبيل أبو بكر البغدادي زعيم "داعش"، وحجاج العجمي وعبد الرحمن خلف العنزي، "اللذان وفّرا، طوال 2014، الدعم المالي للخلافة الإسلامية وجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة".

"لكن القائمة هذا العام تضم فنانين تشكيليين وأشخاصاً لهم باع في العلوم الطبيعية وآخرين من العاملين مع المهاجرين واللاجئين"، تقول بسمة. وجهة نظرها أن اختيارها ينفي هذا الرأي إلى حد بعيد، "وكذلك اختيار امرأة سعودية هي الأولى التي تفوز في انتخابات رسمية". وهي ترى، حيث تجمع بين البحث الفكري والفن التشكيلي والكتابة الأدبية، فضلًا عن المقالات الصحافية، "أن تمكّن الكاتب من أجناس مختلفة يعطي كتابته ثراءً ومذاقًا خاصًا، وقد لفت نظري كثير من القراء إلى حسن تقبلهم لكتاباتي العلمية كونها تصاغ بأسلوب يحمل الطابع الأدبي ومن ثم يكون استيعاب الجانب العلمي ـ ثقيل الظل في أعين الكثيرين ـ أكثر سلاسة والعكس صحيح أيضًا، ومع التمرين وكثرة الكتابة والانتقال بين الأجناس يصبح الأمر طيعًا ومتسمًا بالمرونة بحيث لا تفقد الكتابة العلمية رصانتها ولا يفقد الأدب عمقه وجمالياته، أما الفن التشكيلي فيضيف للكتابة بوجه عام، وأعتقد أن ذاكرتي الفوتوغرافية تمكنني من سرد التفاصيل في المشاهد الأدبية بحيث يشعر القارئ أنه يرى ما يقرأ على الورق".

 

مدى الحاجة إلى فاصل زمني

"الطابور" تنتمي لنوع أدبي جديد نسبيًا المشهد العربي: "الديستوبيا"، وهو، في حدود معرفتي، خرج من رحم ما مررنا به من أحداث، ليعبر عن إحباط لا أعتبره سريعًا قياسًا بالتأثير الكيفي للسنوات الست الماضية، لكن البعض يرى أن حكاية الثورة، أو الثورات، لم تنتهِ بعد، وأن تناولها أدبيًا بهذه الطريقة ربما لا يستطيع احتواء أسئلة إنسانية حقيقية. لكننا أيضًا أمام سؤال حول طبيعة الأسئلة الإنسانية التي بات الأدب مشغولًا بها.

مسألة الفاصل الزمني ليست ضرورية هنا فيما ترى الكاتبة، ذلك أن "الديستوبيا موجودة في الأدب العالمي منذ قديم الزمن، أما عن الديستوبيا المصرية فقد واكبت الواقع المعاش بصورة تلقائية، وما يحتاج في رأيي إلى مسافة زمنية معقولة هو الرواية التاريخية التي تسجل وقائع بعينها، يفضل البعد عنها حتى تمكن رؤيتها بشكل أوضح، عدا ذلك فكثير من أشكال السرد قد ينبع من رحم موقف آني لا يفصل بين حدوثه وبين النص التخيلي الذي يتولد عنه سوى ساعات، ولا أجد في هذا غضاضة".

فيما يخص إشكالية قدرة هذه الكتابة على طرح أسئلة إنسانية حقيقة، أم هي أكثر ميلًا للتعبير عن إحباطات ويأس في تحرر العالم العربي، تقول، عن عملها، إنه "في مجمله مشغول بالفعل بطرح تساؤلات إنسانية ووجودية متباينة، وقد تحدثت عنها غالبية القراءات الأجنبية التي تناولت رواية الطابور في مجلات أدبية وثقافية متخصصة، وأعتقد أنني مهمومة في المقام الأول وفي غالبية كتاباتي سواء كانت أدبية أو علمية بطرح أسئلة كثيرة حول السلوك الإنساني وبمحاولة تسليط الضوء على الإجابات الممكنة، والخروج بنتائج موضوعية أقرب ما تكون إلى الحقيقة.

 

عودة لسطوة النص وأزمة الحكم

رغم أن "الطابور" هي التي ذهبت ببسمة إلى المحافل الدولية، و"فورين بوليسي"، وليس كتابها الأخير "سطوة النَص.. خطاب الأزهر وأزمة الحُكم" كما تصورت في البداية، إلا أنه كان لدي فضول لمعرفة أجواء نشر الكتاب في مصر، ذلك أنه يتعامل، فعلًا، مع منطقة شديدة الحساسية، ولا يبتعد أبدًا عن الإشارة الواضحة إلى تواطؤ في علاقة المؤسسة الدينية الرسمية بالسلطة الحاكمة، كما أنه صدر في وقت يشهد رغبة مُعلنة في عدم المساس بـ"الأزهر" بأي شكل من الأشكال. المؤكد أن نشره لم يكن سهلًا.

"نعم وجدت صعوبات جمة في نشره، وقد رفضت أكثر من دار نشر كبيرة أن تطبع الكتاب وكان الرد المباشر دون تجميل ولا خداع أن الوقت حرج وأن كتابًا ينتقد المؤسستين الكبريين: العسكرية والدينية قد يجلب على الدار عواقب غير حميدة، بل نصحني أصدقاء أعتز بهم في بعض هذه الدور بمراجعة قراري والامتناع عن نشر الكتاب، خوفًا علي من النتائج خاصة والأزهر يملك الضبطية القضائية، والكتاب والصحافيون والمفكرون أصبحوا من زبائن السجون".

 

الصراع على التمثيل الديني

من المناطق، شديدة الحساسية، في كتاب "سطوة النص"، هي الإشارة إلى أنه بينما أعلن شيخ الأزهر، أثناء أحداث الحرس الجمهوري الشهيرة، عن احتمالية لجوئه إلى الانسحاب من المشهد العام، وأنه قد يجد نفسه مُضطراً إلى الاعتكاف في بيته إذا استمرت أعمال العنف، اتخذت مؤسسة الأزهر نفسها دور الوسيط، وبدون تبني مبادرة واضحة. لا أعرف إن كان هذا الموقف له علاقة بشكل ما بطبيعة الحاكم، أو الفترة الزمنية، ولا أعرف، أيضًا، إن كانت هناك نقلة في الخطاب الأزهري بين زمني الحكم، السابق والحالي.

تقول: "الأزهر دخل مع جماعة الإخوان المسلمين في صراع على التمثيل الديني حال توليها الحكم، فقد شعر أنها تسحب من تحت قدميه البساط وتعمل على تقليص سلطته وتهميشه واستبعاده من المشهد، لتقبض على السلطتين السياسية والدينية في آن، وذاك أمر عليه شواهد كثيرة لا مجال لتفصيلها، وعلى كل حال فقد بدا أنه أصاب الأزهر بالخوف وجعله ينطلق لمناهضة الجماعة؛ أي مناهضة السلطة الحاكمة في ذاك الحين وهو أمر مدهش فلم يحدث في التاريخ القريب أن خرج الأزهر على سلطة الحكم، وعلى ذلك عاد سريعًا بعد رحيل الجماعة لينضوي تحت لواء المؤسسة العسكرية ويُسخّر خطابه في خدمة خطابها، فالمؤسسة العسكرية وكذلك الحاكم المدني لا ينافس أحدهما الأزهر على أرضيته، ولا يدخل معه صراعًا على التمثيل الديني، ومن المفهوم أن من يتحدث باسم الدين يحوز درجة من درجات القدسية بحيث يصعب انتقاده والوقوف أمامه في ندية ومن هنا يمكن فهم تغير المواقف التي اتخذتها المؤسسة الدينية الرسمية".

 

الكتاب يعد جزءًا من أطروحة علمية أوسع لم تتم مناقشتها حتى الآن، ليس لعدم اكتمالها، ولكن، لدهشتي فعلًا، بسبب رفض المشرف على الرسالة مناقشتها! بينما فضلت الباحثة، بدلًا من الدخول في جدل ومناوشات ومعارك لا طائل من ورائها، أن تنشر الجزء الذي رأته مهمًا منها: "أملت أن أضعه بين يدي القراء، وقد كان وصدر هذا الجزء في كتاب سطوة النص"، أما الأطروحة الكاملة فتحتفظ بها لوقت قادم "يتاح فيه النشر بصورة أيسر".