Print
سحر عبدالله

"مان بوكر" 2017، جورج ساندرز ليس طارئاً على المشهد

21 أكتوبر 2017
هنا/الآن
 
 
بنيله جائزة بوكر لهذا العام، عرفنا أن جورج ساندرز ليس كاتباً طارئاً على الشهرة والجوائز. فقد سبقها الكثير من الجوائز عن إبداعاته في فن القصة القصيرة، في الولايات المتحدة ودول أخرى كهولندا والنرويج. إضافة إلى جائزة الأكاديمية الأميركية للفنون، فضلاً عن زمالات أدبية مهمة داخل وخارج أميركا.

 
لكن بدايات الكاتب كانت بعيدة تمام البعد عن مجال الأدب والإبداع، فهو المولود في ولاية تكساس النفطية يحمل شهادة في الجيوفيزياء وعمل في بداية شبابه داخل مجال التنقيب عن النفط والغاز في الأدغال الإندونيسية بعيدا عن البشر والمدن الرئيسية.

كان نمط العمل ذاك سبباً أساسياً في نشوء علاقة خاصة للكاتب مع القراءة، حيث كان يصطحب معه أكواماً من الكتب. وحسب تعريفه بنفسه على موقعه الشخصي فإن علاقته بعالم الأدب تعود إلى غرامه الباكر براهبة مسيحية بثت في قلبه حب القراءة.

في معرض حديثه أيضاً عن علاقته بالكتابة يقول ساندرز: مرضت مرة بسبب السباحة في نهر ملوث ببراز القردة في إندونيسيا، فاضطررت لترك عملي والعودة نهائياً للولايات المتحدة، وبعد تحسن صحتي عملت تقريبا في كل مجالات، منها العمل في محل لبيع اللحوم وفي تركيب السقوف والعمل كحارس ليلي.

لكن المرة الأولى التي فكر فيها جورج ساندرز بامتهان الكتابة جدياً، كانت على أثر قراءته لمقال في مجلة محلية، اسمها مجلة الناس، حول الكاتبين الأميركيين جي مكلينرنري وريموند كرفير. حيث يشرف الأول على برنامج الماجستير في الآداب بجامعة سيراكوس. مما دفع بالشاب جورج للتسجيل في ذلك البرنامج. وهناك حصل تحول عميق في حياته الشخصية. إذ التقى بالسيدة باولا ريديك التي ستصبح زوجته، بعد ثلاثة أسابيع على تعارفهما. وخلال أقل من ثلاث سنوات سيرزقان بطفلتين. وقد ترافق حمل الأم بمصاعب صحية عسيرة، اضطرتها للبقاء في سريرها معظم فترات الحمل. ليزيد الأمر في شقاء زوجين عاطلين من العمل. يعثر جورج على عمل كمحرر فني متخصص في شركات دوائية، technical editor.

في الفترة الممتدة بين عامي 1988 و1995 كتب ساندرز أوائل كتبه. لكنه اعتبرها غير مشجعة. فيما اعتبر كتاب "أرض الحرب الأهلية في انحدار" هو كتابه الحقيقي الأول. وقد نشرت إحدى مجموعات هذه القصص في مجلة النويوركي. ودشن ذلك علاقة طيبة مع المجلة لا زالت مستمرة حتى الآن.

روايته الصادرة عن داريّ "راندوم هاوس" في أميركا، و "بلومز بيري" في لندن، وهي بعنوان "لنكولن في الباردو"، تتناول شخصية رمزية ومهمة في التاريخ الأميركي- هي الرئيس الأميركي الأكثر شهرة إبراهام لينكولن- في لحظة ضعف بشري مصيرية، تمثلت في فقدان ابنه الصغير. إلا أن تميز تلك الرواية، كما أجمع النقاد، لم يقتصر على أهمية لينكولن فقط، بل لحساسية الموضوع الشخصي بحسب ساندرز نفسه. يتم استحضار لينكولن رمزياً في التاريخ المعاصر، كقائد مُفتقد، بما مثّله من قوة الدعوة للحب والتسامح في خضم الحرب الأهلية الأميركية وفي ذروة حزنه. هنا تركز فكرة الرواية، وتدور أحداثها في ليلة واحدة، هي ليلة دفن (ويلي) الابن الصغير للرئيس لينكولن، الذي يجد نفسه عاجزاً عن مفارقة القبر. فكلما غادر المقبرة، اندفع عائداً إليها محاولاً فتح جبّانة الموتى لكي يحتضن جسد ابنه.

كان جورج ساندرز قد سمع هذه الحكاية منذ عشرين عاماً، فقرر الكتابة عنها بما تحمل من المدلولات الشخصية والعامة. من حزن الوالد المفجوع الذي وضعه موت ابنه في موقع الآباء الأميركيين الذين يفقدون أبناءهم على جبهات القتل والكراهية.

دخول الأب على رحلة ابنه من عالم الأحياء إلى عالم الما وراء، جعل الطفل "ويلي" يجد نفسه معلقاً في تلك المرحلة الهلامية، التي تسبق الولوج في العالم الآخر.  فحين تحاول روح الطفل الانتقال إلى عالم الأرواح تفاجأ بالأب المحب يبكي ويناجي ابنه، فتواسيه من جهة وتتحضر للرحيل. الرواية تأخذ عنوانها "الباردو" من الديانة البوذية، حيث تعني المرحلة الانتقالية قبل الموت.

كان الحدث بمحدوديته المكانية والزمنية يمثل تحدياً للكاتب، كثيراً ما جعله يتردد في اتخاذ قرار كتابتها. وفي لحظة سخرية حزينة يناجي نفسه قائلاً: أنت تقارب الستين بخطواتك نحو القبر هل ستكتب عن حفاري القبور؟

ومن هنا أتته الفكرة، الرواة الأساسيون في الكتاب هم الأشباح، أو أرواح الموتى التي تتعذب قبل المغادرة.


وفي معرض حديث النقاد عن العمل، تشيد البارونة لولا يونغ، رئيسة لجنة التحكيم بأسلوب ساندرز قائلة: "تشعر أنك في كرنفال حيث تضاء السماء بعشرات الألوان والأضواء". تتابع يونغ أيضاً انطباعها فيما يخص الأسلوب واصفةً إياه بأنه "ذكي مؤثر، متجذر في التاريخ ومتلاعب به.. يستكشف التعاطف ويختبر معناه".

في عرضه عن الرواية في جريدة النيويورك تايمز، يقول كولسون "وايت هيد"، الذي وصلت روايته (قطار تحت الأرض) للقائمة الطويلة لهذا العام: "من الممتع أن ترى كاتباً أمتعك أسلوبه لسنوات وقد وصل لهذا المستوى من الإنجاز.. كاتب يبرع في أن يجعلك تستمتع بمواهبه الخفية وذخيرته الإبداعية". كان ساندرز قد أظهر احترافاً واضحاً في كتابه (العاشر من ديسمبر)، وخاصة عبر قصته "هروب من رأس عنكبوت"، حيث تنتهي بحديث شخص شاب يخاطب شيطانه ويقول وداعاً لهذا العالم. "ويبدو أن ساندرز مولع بهذه اللحظات الحاسمة في الحياة، كما نلاحظ في رواية لنكولن حيث يتتبع لحظة عذاب ويلي الطفل الصغير بالمغادرة وعذاب الأب بتقبل تلك اللحظة".

كان واضحاً من تعليقات الكثير من النقاد تفضيلهم لفوز هذه الرواية، فأجمع معظمهم على توصيف سردها بالعبقري والغريب. إضافة لتوظيف دور الرئيس التاريخي إبراهام لينكولن صاحب الدور المؤثر في إيقاف الحرب الأهلية الأميركية، وصياغة الدستور الأميركي بأهم مواده، وأهمها إلغاء العبودية. ودعوته للتغيير وقيادة سفينة الخلاص. وتأكيده على دور التعاطف، كإشارة مباشرة أو رغبة من الكاتب والكثير من الأميركيين للقول: "نحن بحاجة لمن ينقذ السفينة... بحاجة لقبطان بيدين ثابتتين يعرف كيف يقود السفينة". بدوره، يتحدث ساندرز عن فوزه، مركزاً على حبه لبلاده أكثر من أي وقت مضى.


كانت الرواية أمام تنافس شديد مع أعمال وصفت كلها بالمهمة، لكتاب نال بعضهم البوكر سابقاً، هي خمس عشرة رواية في القامة الطويلة وست في القائمة القصيرة هي بالترتيب: "4321" لبول أوستر و"تاريخ الذئاب" لإيميلي فيندلاند و"غادر الغرب" لحامد هاشمي و"إلمت" لفيونا موزلي و"الخريف" لألي سميث.

علق الناقد نيل غريفيث في موقعه على قناة اليوتيوب بأن الروايات التي وصلت للمسابقات الطويلة والقصيرة هذا العام اقتصرت على دور النشر الكبيرة، مثل راندوم هاوس وبلومز بيري، حيث لم يوجد أثر لأصحاب الدور الصغيرة. أخيراً وعلى صعيد التسويق التجاري للرواية الفائزة، فقد تم شراء حقوق النشر من الكاتب لإنتاج فيلم عن الرواية.

مفارقة لافتة في السيرة الإبداعية لهذا الكاتب، أنه وعلى الرغم من مثابرته على الكتابة والتدريس ومختلف نشاطاته الأكاديمية والخيرية؛ فإنه يعتبر القراءة لعبة.