Print
عمار فارس

إحسان عبّاس.. ذكرى هادئة لشيخ المحققين العرب

21 سبتمبر 2017
هنا/الآن

 

مرّت الشهر الفائت آب/أغسطس، وبهدوء، الذكرى الـ14 على رحيل إحسان عبّاس (1920-2003)، حيث انتهت ذاك اليوم في العاصمة الأردنيّة عمّان مهمّة علميّة كبيرة توزعت على حقول رئيسيّة في (التحقيق، النقد، الترجمة) قبض فيها عبّاس الكثير وترك الكثير أيضاً وكانت النتيجة نحو مئة عملٍ صوّب في جزء منها أغاليط وهنات محققين مستعجلين، سيُطلق عليه لقب شيخ المُحققين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، أقام في نقد الشعر وتركه على نحوٍ مؤلمٍ، كما ترك نقد الرواية باتفاق "غير مكتوب". ترجم ما كان أيّامها جديداً واجترح في بعض من هذه الترجمات مفردات جديدة. بالإضافة إلى ذلك كان عبّاس أكاديمياً صارماً كما يقول طلبته، ألقى محاضرات في جامعات عربيّة وأوروبية وأميركيّة. وجرى سوء فهم بينه وبين القرّاء أكثر من مرّة وكان السبب النقلة من صحافيين ونقاد وشاركت الشيخوخة في سوء الفهم هذا.

 

تتناول هذه المادة مشروع إحسان عبّاس الذي بدأ منذ طفولته في قرية عين غزال بفلسطين، ومرَّ بمحطّات رئيسيّة توزّع على: فلسطين (1920-1946)، مصر (1946 - 1949)، السودان (1951 - 1960)، لبنان (1960-1985)، الأردنّ (1986- 2003)، آخذين بعين الاعتبار ما كان يدور في الحديقة الخلفيّة لحياة عبّاس في الأردنّ من خلال أحاديث طلبته ومُريديه في منزله بالعاصمة الأردنيّة عمّان حيث استقر ورحل منها.

 

التحقيق للدراسة والتدريس

سهل أن يفتح قارئٌ كتاباً في التراث ليجد اسم مُحقّقه إحسان عبّاس، ما يقترب من مئة عملٍ أنجزها عبّاس مذ غادر فلسطين بعد الانتهاء من مرحلة الدراسة في الكليّة العربيّة بالقدس والتدريس في ثانويّة صفد (1937 - 1946)، إذ توجه بعدها إلى مصر بغرض دراسة الماجستير في جامعة فؤاد الأوّل (القاهرة في ما بعد). وخلال بحثه في المصادر لإنجاز رسالته "الأدب العربي في صقلية الإسلاميّة"، سيجد "تراثاً لا يتحقّق درسُه بغير إحيائه". هنا سيبدأ التحقيق بغرض فتح مصادر جديدة لإنجازه دراسته.

بتوصية من شوقي ضيف سيرحل عبّاس للسودان ليُدرّس في قسم اللغة العربيّة بكليّة غوردون التذكّاريّة، وجامعة القاهرة في الخرطوم في ما بعد مُدرساً للأدب الأندلسيّ، خلال تلك الفترة (1951-1960)، لم يكن في رصيد عبّاس كما يقول في سيرته (غربة الراعي) "أيَّ علاقة بذلك الأدب" (الأدب الأندلسيّ)، فبدأ كشف المصادر والتحقيق فيها، ابن حزم، ابن رشد، كان التحقيق "مؤازراً لعملي الأكاديميّ، وكان ضرورة لا بدَّ منها لاستكمال بعض جوانب المعرفة"، كذا في جامعة بيروت اهتم بتحقيق المكتبة الأندلسيّة كونُه كُلِّف من قبل الجامعة بتدريس الأدب الأندلسيّ. أقام الباحثون إحسان عبّاس حجّةً في تحقيق ما يتعلّق بالأدب الأندلسيّ، وفي هذا الشأن يقول عبّاس "إنَّ هذه الثقة تستحق أن تقابل بما يوازيها (...)".

نشير هنا إلى أنَّ أوَّل ما حقّقه عبّاس كان بطلبٍ مشفوع بالثقة من قبل أحمد أمين، إذ كان عبّاس يقرأ على أمين ويُدوّن له أيام إقامته في القاهرة، سيرى أمين في عبّاس طالباً مجتهداً وسيطلب منه تحقيق مخطوطٍ للمعريّ (كان المخطوط حُقق مرتين)، وفي الخرطوم سيُلبي عبّاس طلب زميله الدكتور عبد المجيد عابدين مشاركته في تحقيق كتاب "فصل المقال في شرح الأمثال" للبكري.

سينتهي عبّاس في "غربة الراعي" للقول: "كما أنّني على الرغم من كلّ ما حقّقته من كتب لا أجد نفسي مُحترفاً في هذا الميدان، بل ظلَّ التحقيق لديّ هواية". سيكفل التحقيق لعبّاس اطلاعاً واسعاً خارج صندوق التخصص الأكاديميّ. بعدها سيتحوّل التحقيق عنده إلى تسلية.

 

رحلة التصويب

كثيرٌ من تفاصيل حياة عبّاس العلميّة مودعةٌ لدى طلّابه ومُريديه في الأردنّ، حيث كان منزله ملتقى لهم في يوم الثلاثاء، وللمقربين أيام السبت والأحد/ الاثنين، كان بينهم الناقد والأكاديمي عميد كليّة الآداب بجامعة فيلادلفيا غسان عبد الخالق الذي رافق عبّاس في زياراتٍ وحوارات كثيرة في شيخوخته. يقول عبد الخالق، في حديث لـ"ضفة ثالثة": "لم يدخّر عبّاس وسعاً في تحقيق بعض الكتب المحققة وإعادة النظر فيها وتصويب بعضها. دون تكليفٍ من أحدٍ ودون دعمٍ ماليّ من أحد استطاع عبّاس أن يُصحح الكثير من الأخطاء في المصادر القديمة".

حول رحلة التصويب، يضيف عبد الخالق: "كان عبّاس أول من تنبّه إلى أنَّ الفصل الخاص بمقدمة ابن خلدون الذي يحتوي على تناول الموشحات والذي ظلّ الباحثون والمحققون يعتقدون أنه لابن خلدون ما هو في الحقيقة إلَّا لابن سعيد، صاحب كتاب (المقتطف من أزاهر الطرف)، حيث قام ابن خلدون بإيراده بالكامل، سلخه وضمَّنه مقدمته".

 

ترك نقد الشعر

 

برز الشعر في حياة عبّاس مبكراً من خلال إنجازه قصائد بين (1940 – 1948) نشرت بديوان "أزهار بريّة"، 1999، بالإضافة إلى أنَّ أوَّل كتابٍ يعترف به عبّاس ترجمةً كان فن الشعر لأرسطو، أشار فيه إلى أخطاء القدماء في ترجمته وفهمه. تطوّرت هذه العلاقة إلى التخصّص، يُشير عبّاس هنا إلى ما يقول إنَّه اتفاق "عهد غير مكتوب" مع محمد يوسف نجم، ينصّ على أن لا يقترب عبّاس من نقد الرواية ولا يشتغل الأخير بنقد الشعر. فانفرد عبّاس بنقد الشعر (تناول الشعر العراقي في كتب ومقالات: نازك الملائكة، السيّاب، البياتيّ) وتوّج الجهود بكتاب "اتجاهات الشعر العربي المعاصر 1978 – عالم المعرفة"، وكانت الأمور تسير على نحو جيّد إلى أن ترك عبّاس نقد الشعر على نحو مفاجئ بعد صدور الكتاب.

ما هو مُعلن في ترك مشروعه في نقد الشعر إلى نقد النثر أورده عبّاس في "غربة الراعي": "لأنَّ الأدب العربيّ لم يكن يتضمن فنوناً نثريّة غنيّة متنوعة"، ومع ذلك لم يكتب في الشعر الكثير كونه "فنّ صعب بل هو أصعب فنون القول، ولا أسمح لنفسي بالكتابة عن الشعر إلَّا إذا وجدتُ فيه ما يُحفزني إلى القول وغالباً ما أطلب فيه ظاهرة بارزة جامحة - فنيّة أو موضوعيّة أو فكريّة فإذا لم أجدها لم يتيسر لي طريق الكتابة عنه".

غير المُعلن يُحدّثنا عنه غسّان عبد الخالق: بدأ عبّاس اشتغاله المبكر على عدد من شعراء التفعيلة وبأدواته النقدية المتقدمة، وكان أفضل من ترجم فن الشعر لأرسطو وتيارات النقد الحديث، وإن بدت جهوده كلاسيكيّة إلا أنه وقتها كان تقدمياً.

ويُضيف عبد الخالق: "كتاب اتجاهات الشعر العربي المعاصر وضع نهاية مشروع عبّاس في نقد الشعر، حينما صدر الكتاب لم يعجب بعض النقاد الحداثيين، قام بعضٌ منهم  بمهاجمته، وتسبب بألم لعبّاس وقرّر عدم الكتابة بالشعر إطلاقاً". 

يُكمل عبد الخالق: "فوجئ عبّاس بأنَّ آليات الاستقبال النقديّة العربيّة لم تعد ترحب بهذا الخطاب الكلاسيكيّ الحداثيّ بمعنى دراسة الشعر بوصفه ثيمات وموضعات". قال عبّاس لعبد الخالق: إنه لم يكتب بعدها في الشعر بسبب عدم قدرته على مواكبة هذه الذائقة.

 

الترجمة والاجتراح

بسبب تقصير أستاذ التاريخ في المرحلة الأخيرة من الدراسة في الكليّة العربيّة بالقدس، عمد إحسان عبّاس، وهو طالبٌ، على ترجمة كتاب الدولة العربيّة وسقوطها لفلهاوزن. طُبع الكتاب ووُزع على طلّاب الصف، غير أنَّ أوّل كتابٍ تورده المصادر كأوّل ترجمة لعبّاس هو فنّ الشعر لأرسطو، يُمكن حصر فترة ترجمة هذا العمل بين أعوام (1941 - 1946)، وهي الفترة الواقعة بين المرحلة الأخيرة من دراسته في الكليّة العربيّة وعمله مدرساً في صفد، ولن تكون ترجمة الكتاب قبل هذا التاريخ، بسبب إيراد عبّاس لحادثة حمله كتاب ترجمة فن الشعر إلى القاهرة حيث شرع بالدراسة هناك عام 1946، وهو يقول في ذلك إن "الترجمة سبقت عمليّة التأليف عندي؛ فكتاب الشعر لأرسطو يُعتبر أوّل عمل لي". وصدر بمساعدة شوقي ضيف عن دار الفكر.  

يقول الناقد عبد الخالق حول ترجمة هذا الكتاب: "التفت عبّاس مبكراً إلى أنَّ ترجمة فن الشعر لأرسطو قديماً احتوت على أخطاء وسوء فهم، تحديداً فهم الشعر اليوناني في ضوء أغراض الشعر العربي وعدم التنّبه إلى طبيعة الشعر اليوناني".

بعد فنّ الشعر ستتوالى ترجمات عبّاس: ارنست همنغواي: دراسة في فنه القصصي - كارلوس بيكر، دراسات في الأدب العربي - فون جرنبوام، بالاشتراك مع كمال اليازجي وأنيس فريحة ومحمد يوسف نجم 1959، فلسفة الحضارة أو المقال في الإنسان - إرنيست كاسيرر 1961، يقظة العرب - جورج أنطونيوس 1962، دراسات في حضارة الإسلام - هاملتون جب 1964، ت س إليوت لما تيسّن 1965، موبي ديك هيرمان ميلفل.

وحول موبي ديك، برزت عبقريّة الترجمة؛ عندما عُرض على إحسان عبّاس ترجمة هذه الرواية واجهته صعوبات تتعلق بمفردات البحر. يقول في هذا الشأن: "بدأت أجمع من المعاجم العربيّة ما لدينا من مصطلح بحريّ حتّى يكون عندي مرجع كلمات لا بأس به يمدني بالكلمات(...) في التعبيرات البحرية، لأنَّ العرب لم يغامروا في البحر كثيراً ولم تتوفر لديهم سفن بحريّة وكان لديهم سفن تجارية فقط، لذلك لم يكن لديهم سفن ضخمة، ودخلوا العصر الحديث دون أن يبنوا سفناً حديثة حتّى المصطلحات البحريّة التي جمعتُها كانت قليلة لا تتجاوز بضع عشرات، ولا تساعد المترجم كثيراً؛ لذلك لجأت إلى نحت مصطلحات جديدة". هكذا وُجدت مصطلحات من مثل "التحويت" أي الذهاب لصيد الحوت، والحوّات وهو صيّاد الحوت وفقاً لحوار مع إحسان عبّاس أجراه يوسف بكّار. في ما يخصّ ترجمة النقد إلى العربيّة فهو يرى: "أنَّ وضع مصطلح مُتفق عليه قد يتطلّب سنوات وسنوات. معظم ما يُترجم اليوم من النقد فهو أشبه بأشباح للأصول التي تُرجم عنها".

 

سوء الفهم

من بين جمع المُريدين وطلبة الدراسات العُليا في الجامعة الأردنيّة والمثقفين، كان غسّان عبد الخالق من القلائل الذين رافقوا إحسان عبّاس في جلسات الثلاثاء في بيته، و أيام السبت/ الأحد بأحاديث خاصة، وهو من اختاره إيميل حبيبي لإجراء حوار لصالح مجلة "مشارف" مع إحسان عبّاس عن طفولته في حيفا. يروي عبد الخالق شؤون إحسان عبّاس اليوميّة في عمّان: "في الأردنّ، أصبح عبّاس أكثر حذراً بالتعامل مع وسائل الإعلام. بعض الإعلاميين العرب في الصحافة المكتوبة بشكل خاص استغلوا الحالة العاطفيّة غير المستقرّة لعبّاس أواخر عمره، لم يكونوا حريصين على صورته الإنسانيّة أمام القرّاء والجمهور، منهم  صحافيّ أجرى مقابلة مع عبّاس لصحيفة عربية اشتملت على تفاصيل عائليّة رواها الصحافيّ دون أن يقدّر أنّ عبّاس أدلى ببعض التفاصيل تحت ضغط الشيخوخة وهو يعاني من مشاكل صحيّة تضغط عليه للإدلاء بتصريحات غير مناسبة، حيث تسبب الحوار بمشكلة عائليّة لعبّاس".

يُشار إلى أنَّ علاقة عبّاس مع الصحافة لها جذورٌ من أيام لبنان: إذ يورد حادثة جرت مع الروائي حليم بركات، يقول عبّاس في "غربة الراعي": "في بيروت اعترف بي شخص واحد هو الدكتور حليم بركات الروائي المشهور وعالم الاجتماع (من بعد)، أخذني إلى الإذاعة اللبنانيّة وسألني بعض الأسئلة أجبت عنها، وأنكرني الجمهور، وحين وجدتُ الأمر كذلك آثرت الابتعاد والعمل في ما هيُئتُ له من تدريس الطلبة وتخريجهم وكتابة البحوث وعدم التدخل في أي أمر لا أحسنه، كالعمل في السياسة أو معالجة القضايا التي تشغل بال الجماهير في الصحافة والاكتفاء بدور المُتفرج على كل البانوراما العجيبة دون الانزلاق إلى تضاعيفها".

لكن لغسّان عبد الخالق رأي في "غربة الراعي"، إذ يقول إنَّه عملٌ "لا يمثل تجرية عبّاس المعرفية. كتبه تحت ضغط الكثير من الأصدقاء الذين كانوا يخشون رحيله قبله تدوين تجربته، كُتبت (غربة الراعي) على عجل وبحافز وظيفي وليس إبداعياً".

يختم عبد الخالق: "إنَّ أبرز ما يُميّز عبّاس الثقافة الموسوعيّة ذات الطابع الإنسانيّ والعربيّ، اطلع على علاقة الأدب والنقد القديم والتيّارات الفكريّة (علم الكلام المعتزلي وعلم الكلام الأشعريّ)، من هنا أدرك عبّاس العلاقة الوطيدة بين الفكر والأدب والسياسة".

 

محاولة في الأدب السودانيّ

لا يقتصر جهد عبّاس في حقول (التحقيق، النقد، الترجمة)، بل امتدَّ إلى محيطه الذي يعيش فيه، ربّما واحد من هذه الجهود ما يتعلّق بالأدب السودانيّ خلال تواجده مُدرسّاً في الخرطوم بين (1951 - 1960)، حيث قدم للتدريس في كليّة غوردون التذكّاريّة وبعدها في جامعة القاهرة بالخرطوم، تلك الفترة لم يكن الأدب السوداني معروفاً في الوطن العربيّ رغم وجود أدب غزير وبخاصة في الشعر، بالإضافة إلى ذلك كانت الدراسات نادرة عن هذا الأدب أو أنَّها كانت بدائيّة.

يقول عبّاس في "غربة الراعي": فشرعت أكتب إلى بعض المجلّات أعرّف بالأدب السودانيّ، حتّى استوقفني يوماً زميلي الدكتور عبد المجيد عابدين وسألني: هل ستطول بك الكتابة عن الأدب السوداني؟ قلت: إنك لا تسألني هذا السؤال إلّا ولديك مشروع في الميدان نفسه. قال: هذا صحيح. وبعد مدة قليلة ظهر كتابه الثقافة العربيّة في السودان. 

بعدها سيُلاحظ عبّاس علاقة عدم وجود دور نشر في السودان وجهل الناس بالأدب السودانيّ، لذا لجأ إلى تشجيع نشر القصة القصيرة والشعر السوداني في بيروت، وكان من ثمرة هذا الجهد ظهور ديوان غابة الأبنوس لصلاح أحمد إبراهيم، ومجموعة قصص لصلاح وصديقه علي الملك، ثم غضبة الهبباي لصلاح، وديوان الصمت والرماد للشاعر كجراي. بالإضافة إلى ذلك كان للجلسات التي يعقدها عبّاس مع مجموعة من طلابه (14 طالباً) أثر في إدارة الحوارات هناك. ودوره معروف في إغناء مكتبة جامعة الخرطوم بالكتب التي يشتريها من القاهرة أثناء الإجارة بتفويض من أمين مكتبة الخرطوم مستر جوليف.