Print
أنطوان شلحت

إعادة إنتاج يشوع: سفر الاحتلال والجينوسايد

14 نوفمبر 2018
هنا/الآن

في يوم 12 أيلول/ سبتمبر 2017 تبنى حزب "الاتحاد القومي" الإسرائيلي، وهو حزب شريك في تحالف "البيت اليهودي" اليميني المتطرّف، في ختام مؤتمره السنوي، خطة سياسيّة طرحها نائب رئيس الكنيست بتسلئيل سموتريتش من الحزب تنصّ على فرض السيادة الإسرائيلية على مناطق الضفة الغربية، وتكثيف الاستيطان فيها، وحلّ السلطة الوطنية الفلسطينية، وتشجيع الفلسطينيين على الهجرة إلى الخارج.

وتقترح الخطّة إيجاد آليّة حكومية لتقديم تعويض مالي حكومي يهدف إلى تشجيع الهجرة الطوعية للفلسطينيين من الضفة الغربية ومناطق 1948، خاصة بالنسبة إلى الذين يرفضون التنازل عن طموحاتهم الوطنية بقيام دولة فلسطينية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. كما تضمنت الخطة مقترحات تتعلق بالقضاء كليًا على فكرة قيام دولة فلسطينية كهذه. ففي رأي سموتريتش ليس اليأس هو الذي يولد المقاومة بل الأمل بقيام دولة فلسطينية، و"هذا ما أنوي اقتلاعه!".

ولدى قيامه بعرض خطته، التي أطلق عليها اسم "خطة الحسم"، قال سموتريتش إنها مُستوحاة من الإنذار الذي بعث به يشوع بن نون إلى سكان مدينة أريحا عشية قيامه باقتحامها واحتلالها قبل أكثر من ألفي عام. وأشار إلى أن بن نون أنذر أهل أريحا في ذلك الوقت "بأن من هو مُستعد للتسليم بوجودنا هنا فليسلم بذلك، ومن يريد المغادرة فليغادر، ومن يختار القتال عليه أن ينتظر الحرب!". وبحسب سموتريتش، في حال عدم قبول الفلسطينيين بالخطة عليهم أن يغادروا أماكن وجودهم، أو أن يواجهوا ردّة فعل عسكرية قوية في حال تصديهم لتطبيقها.

وأكد سموتريتش في المناسبة عينها أنه لا توجد فوارق جوهرية بين خطته هذه والبرنامج السياسي لرئيس الحكومة الإسرائيلية الحاليّة بنيامين نتنياهو، مشيرًا إلى أن برنامج هذا الأخير أيضًا لن يمنح الفلسطينيين أي مظاهر سيطرة على الحدود البرية والجوية والبحرية، كما أنه لن يسمح لهم ببناء جيش، أو بممارسة حق التصويت لبرلمان ذي سيادة. وبعث رئيس الحكومة بتحيّة مسجلة إلى المؤتمر المذكور أكد فيها أنه يرى في حزب "الاتحاد القومي" أحد الشركاء الاستراتيجيين لـ"المعسكر القومي" الذي يتزعمه حزبه الليكود.

إن أكثر ما يهمنا من هذه الوقائع أنها تنطوي على إحدى أحدث عمليات إعادة إنتاج يشوع بن نون المتواترة في الأعوام الأخيرة. واقتحم بن نون الخطاب الإسرائيلي بقوة في إثر حرب حزيران/ يونيو 1967، ثم ما لبث أن تراجع قليلًا. ويعود سبب هذا التراجع أساسًا إلى قيام وزيرة التربية والتعليم السابقة شولاميت ألوني في عام 1992، بالتزامن مع انطلاق أول محادثات غير مباشرة بين دولة الاحتلال والفلسطينيين (مؤتمر مدريد)، بإصدار أوامر تنص على عدم تدريس سفر يشوع في مناهج التعليم الإسرائيلية لكونه سفر الاحتلال والجينوسايد، والاستعاضة عنه بسفري إشعياء وإرميا، نبيّي الأخلاق والعدالة.

وحظي قرار ألوني هذا بدعم كبير من الأديب يزهار سميلانسكي، الذي ألقى خطابًا أمام مؤتمر "الحركة من أجل يهودية إنسانية" المنعقد في تشرين الأول/ أكتوبر 1992، نُشر لاحقًا على شكل مقال في صحيفة "يديعوت أحرونوت" تحت العنوان المباشر "ضد يشوع".

وختم سميلانسكي خطابه/ مقاله آنذاك بالكلمات التالية: "يصعب قبول سفر يشوع على علاّته، ومن واجب الإنسان تجاه إنسانيته أن يخرج عن صمته ويتكلم ضده، إلا إذا كان بمثابة سفر إنذار يوضح ما الذي يمكن أن يحدث عندما يقوم شعب باحتلال بلد شعب آخر، ولو كان يمتلك أفضل المبررات. يكفي أن تقرأ يشوع حتى تُروّع. صحيح أن ليس الجميع يُروّعون، كما بات معروفًا، لكن ما آمله هو أن يكون اليهود القلائل المشتركون في هذا المؤتمر ضد يشوع".    


سفر الاحتلال والتهجير

ومعروف أن سفر يشوع يرتبط بسفر الخروج، الذي يتكلم عن "خروج بني إسرائيل من مصر الفرعونية بقيادة موسى"، والذي كثيرًا ما يُعاد إنتاجه هو أيضًا لإسقاط مدلولات راهنة عليه، وفي مقدمها دلالة الخروج من "بيت العبودية"، كما ورد في ذلك السفر: "وَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: اذْكُرُوا هذَا الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَا".

وأشرنا في مناسبة غير هذه إلى أنه صدرت في إسرائيل، في آخر عام 2016، ترجمة عبرية لكتاب "في ظل الله: السياسة في التوراة"، للفيلسوف مايكل فولتسر، أحد المثقفين البارزين في الولايات المتحدة الذي يحمل توجهات صهيونية ويعمل منذ سنوات ضد حملة مقاطعة إسرائيل، استكمل فيه مقاربته التي بدأها في كتاب سابق له بعنوان "الخروج من مصر كثورة" (1993)، واعتبرت هذا الخروج "برنامجًا ثوريًا وقاعدة لسياسة تحرّر راديكالية، ومصدرًا لفكرة الانعتاق من المعاناة والقمع، المُعادلة في العصر الراهن لفكرة الخلاص والتحرّر والثورة"!.  

ووفقًا لفولتسر أيضًا، تمثل إقامة دولة الاحتلال نسخة معاصرة من حكاية خروج مصر، فضلًا عن أنه بعد مئات الأعوام التي لم يُتح فيها لليهود في شتى أصقاع العالم إمكان العمل طبقًا لنموذج هذا الخروج، ظهرت الحركة الصهيونية ووفرت لهم مثل هذه الفرصة. وبالتالي فهذا الأمر وحده يوجب إدراج الصهيونية "ضمن نضالات التحرّر البطولية التي شهدها العصر الحديث"!.

وفي مناسبة صدور الترجمة العبرية لكتاب فولتسر المذكور أشار المؤرخ الإسرائيلي عوفري إيلاني إلى أنه لا يجوز قراءة واقعة الخروج من مصر، التي شكّـك في صدقيتها، بمنأى عما حدث بعدها، بداية مما ورد ذكره في سفر الخروج نفسه بشأن إدخال الرب بني إسرائيل، بعد أن حلف لآبائهم أن يعطيهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا، "إِلَى مَكَانِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزَّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ"، ما يعني أنها لم تكن "أرضًا بلا شعب". وفيما بعد كما سلسله سفر يشوع الذي اشتمل برأيه على أحد أبرز وقائع حملات الجينوسايد المتوارثة من العهد القديم. وفي هذا السفر أيضًا ثمة أكثر من إشارة بليغة إلى أن تلك الأرض لم تكن بلا شعب، وخصوصًا قول الرب في الآية 13 من الإصحاح 24: "وأَعْطَيْتُكُمْ أَرْضًا لَمْ تَتْعَبُوا عَلَيْهَا، وَمُدُنًا لَمْ تَبْنُوهَا وَتَسْكُنُونَ بِهَا، وَمِنْ كُرُومٍ وَزَيْتُونٍ لَمْ تَغْرِسُوهَا تَأْكُلُونَ".

وفي ضوء هذا، إذا كان خروج مصر يحيل إلى "قصة الخلاص والبطولة"، فإن ما أعقبه وخصوصًا ما ورد في سفر يشوع يعزّز فكرة مُناقضة تقول بأنها تمثّل، شأنها شأن قصة "إقامة دولة الصهيونية"، كل ما هو متعلّق بالاحتلال والتهجير والكولونيالية والتطهير العرقي.  

يشير المؤرخ الإسرائيلي ذاته إلى أن حملات يشوع وجرائم الحرب التي ارتكبها ما تزال تشكل نموذجًا يُحتذى بالنسبة إلى الكثير من المستوطنين الكولون، لا سيما في أراضي 1967، ناهيك عن أنها كانت بمثابة هادٍ لمؤسس دولة الاحتلال ورئيس حكومتها الأول ديفيد بن غوريون، كما شفّت عن ذلك مثلًا توصيفاته للنتائج التي أسفرت عنها حرب 1948، والتي لجأ فيها إلى استخدام تعابير مُستّلة من التناخ، وبالتالي من المُقدّر أن تظل تزيّن المزيد من عمليات إعادة إنتاجها.