Print
عمر شبانة

رحيل عصام سخنيني.. إعادة كتابة تاريخ فلسطين القديم

21 نوفمبر 2019
هنا/الآن
بعد معاناة شديدة وطويلة مع المرض، رحل عن عالمنا أمس الأربعاء، في دبي، الباحث والمؤرّخ الفلسطيني، ابن طبرية، عصام سخنيني، وذلك عن عمر ناهز 81 عاماً، أمضاها في البحث والتعليم الجامعيّ، وأنتج عشرات الكتب غالبيّتها في تاريخ فلسطين القديم والحديث، وعلاقة هذا التاريخ بالتوراة، وأحدثها وآخرها ربّما كتابه الصادر حديثاً "تهافت التأريخ التوراتي: مقدمة لكتابة تاريخ مختلف لفلسطين القديمة" (الدار الأهلية في عمّان/ الأردن، شباط 2018)، الذي يدحض فيه الرواية التوراتية لتاريخ فلسطين القديمة، والروايات الأوروبية، وحتى الكتابات العربية التي اعتمدت رواية "الكِتاب" (العهد القديم) في كتابة تاريخ فلسطين، وينتقد المؤلف ما يسمّيه "بؤس الكتابات العربية الحديثة في تاريخ فلسطين القديم".

كنتُ قد قرأت هذا الكتاب مخطوطاً، وعملت على تحريره، إلّا أن قارئ سخنيني يُفاجأ بالمستوى الرفيع للغته ومدى دقّتها، كما يليق بالبروفيسور المُلمّ باللغة، وهو أمر يكاد يكون نادراً، فحتّى كتب أساتذة الأدب تعتورها الأخطاء. وقبل هذا الكتاب، كنت قرأت كتابه "مقاتل المسيحيين: نجران 523م والقدس 614م وصفحات أخرى من تاريخ التنكيل اليهودي بهم"، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013)، وكتبت عنه في حينه، وهو كتاب مدهش وعميق.

وهنا أعود إلى ما كتبت عن الكتابين باختزال واختصار شديدين.    

 
التصدّي للأساطير والخرافات
والحكايات الصهيونية
كان الراحل في كتابه "تهافت التأريخ التوراتي.." المذكور، قد انشغل بمهمة أساسية هي، وكما يحدّدها في مقدمته للكتاب، القيام بالتصدّي للأساطير والخرافات والحكايات التي جاءت في "الكتاب" وألصِقت بذلك التاريخ، والقيام بإظهار فسادها وبُطلانها، وبالتالي هَدمها. فكتاب سخنيني هذا "مقدمة لإعادة كتابة تاريخ فلسطين القديم، إذ بدون هذه المقدمة التي تتصدى للأسطورة بمعول الهدم، لا يمكن إعادة كتابة هذا التاريخ بعلمية وموضوعية"، على أن تكون كتابة ذلك التاريخ مهمّة أخرى.. لكِتاب آخر، وكتّاب آخرين ينتهجون المنهج نفسه.
يكتب الدكتور سخنيني، في هذا الكتاب، انطلاقاً ممّا يسمّيه "الثورة الأكاديمية" الكبرى التي حدثت في الغرب، خلال العقود الثلاثة الأخيرة في مجال "العلم الكتابيّ" (Biblical scholarship) والتاريخ الفلسطيني القديم، وتاريخ ما يسمى بإسرائيل القديمة، لأنّ هذه "الثورة" (الأكاديميّة)، التي استفادت من معطيات العلوم، كما تطورت منذ أواخر القرن التاسع عشر (علم الآثار والأنثروبولوجيا وعلم تاريخ المناخ وغيرهما)، قد ألغت دور "الكِتاب" كليّاً تقريباً، ولم يُعدّ مصدراً لمعرفة تاريخ فلسطين القديم، ووضعته "الثورة" في موضعه الصحيح، من حيث هو كتاب لاهوت ومجموعة من الخرافات والأساطير لا تصلح لأن تكون مصدراً لتفسير حقب التاريخ التي تتحدث عنها.. حيث "ظهر عدد وافر من العلماء الأفذاذ الذين حملوا على عاتقهم مهمة التصدي لتزوير التاريخ الفلسطيني القديم على أيدي منشئي "الكتاب" ومحرريه، وكثرت مؤلفاتهم في هذا الشأن".. وجرى "توسيع قاعدة المنتمين إلى هذا التيار العلمي الجديد، الذي عُرف أعلامه في الغرب بصفة minimalists لتقليلهم الاعتماد على مرويات "الكتاب" التاريخية إلى أدنى الحدود، مقابل من يعرفون بصفة maximalists الذين يبالغون في الاعتماد على تلك المرويات إلى أقصى الحدود".
ويذكر سخنيني أن "أكثر هؤلاء العلماء شهرة وغزارة إنتاج وتأثيراً في الأوساط الأكاديمية، كل من الدانماركي نيلز بيتر لمكه Neils Peter Lemche الأستاذ في جامعة كوبنهاغن، والأميركي توماس طومبسون Thomas L Thompsom الأستاذ في الجامعة نفسها، والبريطانيين فيليب ديفز  Philip R. Davies وكيث ويتلام Keith W. Whitelam الأستاذين في جامعة شفيلد".
سخنيني، الذي عُرف بتخصصه في "الإسرائيليّات"، عبر عدد من الكتب، ربما كان أبرزها كتابه "الإسرائيليات: مكونات أسطورية في المعرفة التاريخية العربية" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004)، يؤكد على ضرورة التنبيه إلى "أن تغلغل الأسطورة "الكِتابيّة" في الكتابات العربية التاريخية ليس جديداً. فقد شكلت الإسرائيليات سلطة مرجعية وازنة في المعرفة التاريخية العربية القديمة. وقد استُخدم مصطلح "الإسرائيليات" في التراث العربي الإسلامي ليدلّ على مجموعة من الأخبار والروايات والقصص التي كان قد جاء بها الكتاب المقدس عند اليهود، ودخلت أعمال المؤرّخين العرب الأقدمين، وأعمال بعض المفسّرين، إمّا عن طريق الرواة، وهو الأكثر شيوعاً، أو بالنقل المباشر عن هذا الكتاب بعد أن تُرجم إلى اللغة العربية". وباستثناء ابن حزم الذي درس "الكِتاب" بعمق، وبيّن زيف رواياته وخرافاته، وهو ما يخصّص له سخنيني حيّزاً واسعاً من كتابه هذا، فإن المؤرّخين العرب الذين درسوا "الكِتاب" سلّموا بتلكم الروايات والخرافات.

 

مَقاتِل المسيحيّين
فضلاً عن ذلك، جسّد سخنيني، في مسيرته البحثية الطويلة والعميقة الجادّ، حالة متميزة في ميدان التأريخ لما يمكن تسميته "المسألة اليهودية"، في جذورها وتفرّعاتها وتعالُقها مع محيطها، وتتجلى هذه الحالة في عدد كبير من المؤلفات المتخصصة بالديانة اليهودية وكِتابها (المقدس- التوراة)، وصولاً إلى ارتباط هذه الديانة بالمشروع الصهيوني المعاصر: منطلقات هذا المشروع وأهدافه وأدواته والمزاعم التي قام عليها ليبرر وجوده. وكثّف بحثه في عمليات الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني، ومن أبرز كتبه في هذا السياق "مقاتل المسيحيين: نجران 523م والقدس 614م وصفحات أخرى من تاريخ التنكيل اليهودي بهم"، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013).
وكان سخنيني قدم في كتابه "الجريمة المقدسة: الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني" (بيروت ـ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، دراسة جادة لوضع الجرائم التي لحقت بالفلسطينيين، في سياق منظومة صهيونية شاملة تهدف إلى تنفيذ "الإبادة الجماعية" (Genocide) بحق الشعب الفلسطيني، هذه المنظومة التي تتضمن جرائم القتل الجماعي والترحيل السكاني والتطهير العرقي وإبادة المكان وتغيير الأسماء التاريخية وطمس الجغرافيا وتدمير البنى الاجتماعية للشعب الفلسطيني، وهذا هو جوهر الصهيونية التي تجسدها إسرائيل سياسياً. وهو يعتمد هذا المصطلح الذي ابتدعه الباحث القانوني البولندي رفائيل لمكين في أثناء الحرب العالمية الثانية، ودخل في القاموس الدولي في عام 1947. وقام سخنيني بذلك كله ضمن فهم جديد للمشروع الصهيوني، وتحليل بنيته الإبادية منذ نشأته، وفي أثناء صيرورته، ومحاولة إعادة تعريف المفاهيم والمصطلحات مثل "إبادة الجنس" و"التطهير العرقي" و"الترحيل" و"إبادة الذاكرة"، ثم عاد إلى دراسة تاريخ المشروع الصهيوني، لينتقل إلى البحث في خطاب الإبادة في الفكر الكِتابي (التوراتي) وفي الفكر الصهيوني معاً. وكان ذلك كله مقدمة للانتقال إلى "إبادة الجنس" كما تجلّت واقعياً في فلسطين بصورة تدمير المكان والذاكرة والهوية، وكما تجلت في علم الآثار الإسرائيلي الذي وضع نفسه خارج العلم وفي خدمة الإبادة الجماعية.
في هذا الكتاب برزت قضية استهداف المسيحية في مرمى الاضطهاد اليهودي، من خلال "صورة المسيح في التلمود"، و"التاريخ المضاد لتاريخ المسيح"، و"جرائم مبكرة: استهداف الرموز"، وفي "ردود الفعل المسيحية". ويستكمل المؤلف دراسته بإطلالة على "مَقاتل المسيحيين تحت المظلة الفارسية"، عبر الحديث عن علاقة الفرس بفكرة الخلاص اليهودي، ودور اليهود في اضطهاد المسيحيين في بلاد فارس، مع نماذج تطبيقية من هذا التعاون.

ولعلّ من أفضل ما قرأت له، عدا ما ذكرت، كتابه "طبرية… تاريخ موسوعي" (الناشر: دار الفارس- عمان)، وهو يقدّم سجلّاً توثيقيّاً شاملاً لتاريخ طبرية على امتداد ما يزيد على تسعة عشر قرناً، منذ إنشائها أول مرة سنة 20 للميلاد، إلى أواخر عهد الانتداب البريطاني على فلسطين 1948 عندما سقطت بيد الصهيونيين، وشُرّد أهلُها منها وصودرت ممتلكاتهم ودمرت منازلهم. وكان هو في العاشرة من عمره آنذاك، فشُرّد مع من شُرّدوا.