Print
صدام الزيدي

الشعر من أجل الإنسانية: "الحلم الأميركي" وهجرة الموت لاتينياً

6 يوليه 2019
هنا/الآن
أمام القضايا الكبرى، وفي سبيل التصدي للقيود، ينبري الشعر حاضرا ومتفاعلا، بصفته الجموح الذي لا يمكن إيقافه عند من كرّس كل طاقته، أو جزءاً كبيراً منها، لقضايا أمته.
إنه قدر الشعر في واحدة من أهم جزئياته/ وظائفه؛ أن يتم إقحامه في الواجهة، فهو الملاذ لمظلومية الكائن، على أن الشعر من أجل الإنسانية يظل مشعلا يتجاوز اللحظة الفردية ليصبح فعلا كونيا، كما أنه يدوم طويلا، ليس بدوام القضية فحسب، إنما أبعد من ذلك.
ولعل هذا هو ما جعل الشاعر الهندوراسي دينس أبيلا يلملم مواجع ومآسي وأحلام مئات الآلاف من مواطني شعوب أميركا الوسطى بين دفتي كتاب، هو في الأصل نتاج مأساة إنسانية، وحالة من النزيف اليومي، على تماس مع أميركا الشمالية، والولايات المتحدة على نحو أكثر إرباكاً؛ إذ يغامر الملايين لاجتياز الحدود أملا في بلوغ "الحلم الأميركي"، لكنها مغامرة غير محمودة العواقب في الأغلب، حين تفضي بصاحبها إلى الهلاك.
إن من يتتبع الإحصائيات عن ضحايا "هجرة اللاتينيين غير القانونية إلى أميركا الشمالية" وتحديثاتها على مدار اليوم يجد أرقاما كارثية، أما انعكاسات هذه الهجرة (التي تعتبرها السلطات على الطرف الآخر من الحدود فعلا خارجا عن القانون ويستوجب العقاب) وحكاياتها، فهي المأساة بعينها، ليبقى الأمر مرهونا بتعديل قانوني منتظر علّ مؤسسة الرئاسة في "البيت الأبيض" تنجزه مضيا في ترويض "قانون الهجرة" وتشذيبه، لكن هذا ما يبدو حتى الآن أنه شبه مستحيل.
عودة إلى السؤال الذي يفتتح الفقرة السابقة وفي سياق البحث عن إجابة له لا بد أنها القضية، والقضية هنا برمتها هي "الحلم الأميركي". فمن منا لا يحلم بالهجرة إلى الولايات المتحدة؟ فما بالك بمن هم في جغرافيات ينخرها البؤس والفقر، وليست بعيدة عن أضواء الحلم المحفوف بالموت!
بمناسبة صدور أول ترجمة عربية لديوان "ملابس أميركية" للشاعر الهندوراسي دينس أبيلا، الذي رأى النور حديثاً ضمن إصدارات "الآن ناشرون وموزعون" في عمان، وترجمه عن الإسبانية الشاعر والمترجم الفلسطيني فخري رطروط، يمكننا أن نتساءل: هل يستطيع الشعر إحداث تغيير ما في العالم، الآن، أو على الأقل في موضوع "هجرة اللاتينيين إلى الولايات المتحدة"، انطلاقا من المنجز الشعري "ملابس أميركية"؟
الإجابة جاءت متفائلة من ناحية دينس أبيلا، وهو صاحب تجربة شعرية إنسانية بحتة.
يقول أبيلا: "الشعر هو أداة مقاومة، صوت أو صرخة صامتة تخرج مع النَفَس. خير مثال على ذلك معالجته لموضوع الهجرة، لذلك الشعراء لا يصمتون، فبدون أن نعي نحن مصورون فوتوغرافيون للحقيقة، لا أعرف إن كان الشعر يستطيع تغيير العالم، لكنني متأكد من أن الشعر مهم جداً في معركة تحسين الظروف الإنسانية ومنحها الحرية، وبدون الشعر ستكون هذه
المعركة أكثر صعوبة".
ويضيف أبيلا مستدركاً: "أعلم أن الشعر لا يملك حلولاً ولا يدعي أنه آلية ووسيلة مطلقة لحل مشاكلنا، لكنني أعرف على الأقل أن طاقته غير الملموسة قادرة على التأثير البطيء، وببطء سيظهر أثر الشعر في معالجة مشاكلنا". وتابع: "يقوم الشعر بثلاث مهمات عظيمة: تاريخية لأن كل وثيقة شعرية هي شاهدة على عصرها، وسياسية/ اجتماعية، لأن في الشعر عملاً تواصلياً وتفاعلاً مستمراً وقراءة مستمرة للناس، وهو أيضاً أداة تدخل أبعاداً عميقة للغاية إلى حالتنا الإنسانية. ويجب أن تكون قضية الهجرة بارزة وتبرز قضايا الابتزاز والقتل والاتجّار بالأعضاء والاتجّار بالبشر. وحتى لو كان من المؤلم الخوض في هذه الحقائق المؤلمة، فلا يمكننا أن نصمت تماماً".
يقدم ديوان الشاعر الهندوراسي دينس أبيلا (من مواليد تيغوسيغالبا ويقيم منذ عام 1981 في كوستاريكا)، شهادة في الهجرات الحزينة، الهجرة في عصرنا بأشكالها الحزينة واللاإنسانية خلف "الحلم الأميركي" بما خلفته من مآسٍ وندوب في ذاكرة رجال ونساء القارة اللاتينية. ويمثل هذا العمل الشعري شهادة شخصية وجمعية على عصر يرفض الاختفاء ويتجدّد كل يوم، ففي صفحاته وبين مقاطعه ونصوصه نسمع صوت جماعات داخل صوت الشاعر الشخصي وهو يحكي حكايته.


النسخة الإسبانية الأولى
صدر ديوان "ملابس أميركية" في نسخته الأولى بالإسبانية عام 2017، عن دار نشر أمارغد في إسبانيا، لكن نصوص الكتاب بدأت في التشكل مبكراً، حين شرع دينس في كتابة طلوعه الأولى ذات يوم خريفي من أيام 2005، ليأخذ الكتاب في التشكل رويداً رويداً على امتداد عشر سنوات وصولا إلى سنة الاكتمال في 2015، حيث تم تنقيح مقاطع شعرية، جميعها تتناول موضوع الهجرة اللاتينية خلف "الحلم الأميركي". ومن بين 100 قصيدة قصيرة اختار الشاعر 40 قصيدة/ مقطعا، قبل أن تصدر طبعة ثانية بالإنكليزية عن دار نشر مكسيكية سنة 2018، وهي الطبعة التي وجدت أصداء كبيرة وطارت بالشاعر ليتحدث إلى الجمهور الإنكليزي عبر شبكة BBC وصولاً إلى الترجمة العربية التي أنجزها الفلسطيني فخري رطروط وصدرت في النصف الأول من 2019 في عمان الأردنية.
إلى جانب "ملابس أميركية" صدرت لدينس أبيلا عدة مجموعات شعرية هي: "المتسرّبة" (2000)، "مفاهيم للحب" (2005)، "ربما أكثر من أي وقت مضى" (2008)، "هندسة ابتدائية" (2014)، "الطفولة شريط من الطقوس" (2016)، إضافة إلى روايته "انقلاب السقّالة". وتُرجمت قصائده إلى عدّة لغات من بينها الإيطالية والعربية والإنكليزية.
"جاءت فكرة ديوان ملابس أميركية (Ropa Americana)،  بدون تفكير مسبق، بدون قصد"، بحسب الشاعر الهندوراسي دينس أبيلا الذي قال لـ"ضفة ثالثة": "مع أن فكرة

المجموعة الشعرية كانت دائماً معي ومطبوعة في ذاكرتي وذاكرة العائلة التي هاجر الكثير من أفرادها إلى الولايات المتحدة، والبعض كان محظوظاً أكثر من الآخرين،  ومن بقي وأنا منهم عاش في حارات فقيرة، ومع الوقت تضاعفت مشاكلنا ومعاناتنا وتضاعفت أعداد المهاجرين بالمقابل، ومنذ طفولتي رأيت آباء وأصدقاء يهاجرون وبشكل متتابع، راقبت ذلك منذ بدأت أعمل في محل لبيع مواد البناء خلال سنواتي الأولى، ثم خلال عملي في صيانة الشاحنات وإصلاحها، كانت هذه فرصة لمشاركة عمال البناء والسائقين والميكانيكيين قصصهم وتجاربهم، واختلطت بالجميع، وأمام  أول مشكلة كان الحل الأول والأمثل لهم هو الهروب إلى الشمال، وتحول هذا الأمر إلى هاجس وحقيقة في المجتمع كله، كالعدوى، وفي سنة 2005 عشت في الولايات المتحدة، شاركت على الأقل عشر عائلات لاتينية معاناتها وقصصها حول الهجرة،  بعدها قررت الذهاب إلى كوستاريكا، لأبدأ حياة أخرى وجديدة، فعملت لمدة عشرين ساعة في اليوم، وساعدني في تحمّل ذلك وجود زوجتي إلى جانبي، نكافح معاً منذ 12 سنة، وخلال هذه السنوات تبادلنا مع الآخرين المعلومات والقصص والخبرات، فالجميع ينزف: الناس، القصص، نشرات الأخبار… ومن هذا النزيف ولد هذا الكتاب".

البداية في خريف 2005
يتحدث أبيلا عن تفاعلات اللحظة الأولى، تشكل القصيدة الأولى، وصولا إلى لحظة الصدور الأولى حين رأى ديوانه "ملابس أميركية" النور، في حديثه إلى "ضفة ثالثة" (عبر وسيط ترجمي هو الشاعر والمترجم الفلسطيني المقيم بنيكاراغوا فخري رطروط صاحب الترجمة العربية الأولى للكتاب نفسه عن الإسبانية)، فيقول: "أول نسخة من (ملابس أميركية) صدرت في إسبانيا في عام 2017 عن دار نشر أمارغد، لكني بدأت بكتابة قصائده في خريف 2005 دون أن أعرف أنني بدأت الكتابة في مشروع سيمتد لسنوات طويلة، ففي تلك السنة (2005) كتبت أولى قصائد الكتاب على شكل رسالة شعرية طويلة جداً موجهة إلى شاعر صديق تتحدث عن الرجل الذي اكتشف الخريف، ومع أن هذه القصيدة أو الرسالة لم تعش طويلاً، إلا إنها كانت البذرة والنواة لكتاب (ملابس أميركية). في تلك الفترة كنت أشعر بغربة عظيمة، كان قلبي ينبض بالحنين إلى الماضي والحاجة إلى المضي إلى المستقبل، صراع الهوية، كنت خائفاً من المستقبل والمجهول وغير متيقن منه. مشاعري كانت متضخمة، شعرت بالغرق في بحر من أوراق الأشجار المتساقطة وأيام الشتاء الرمادية، منذ تلك اللحظة حتى سنة 2015، عملت 10 سنوات ليخرج الكتاب بهذا الشكل، كان لدي أكثر من 100 قصيدة، عملت على تصفيتها حتى خرج الكتاب بأربعين قصيدة تقدم معا عينة من تاريخ الهجرة في أميركا الوسطى، كل قصيدة تختصر مرحلة كاملة، ثم في سنة 2018 ظهرت الطبعة الثانية في المكسيك عبر (puertabierta Editores)، ومؤخرا في الأردن عن دار الآن ناشرون وموزعون".
إلى ذلك اعتبر أبيلا كتابه الشعري الذي عني بمعالجة قضايا هجرة اللاتينيين غير القانونية إلى أميركا الشمالية، من زاوية التجربة الإنسانية شعرا "ليس فقط كتاباً يقدم لمحة عن هذه الرحلة غير المحتملة نحو الحلم الأميركي (والتي تحولت في كثير من الحالات إلى كابوس)، ولكنه قراءة أدبية عميقة للأسباب التي تجعل الناس يهاجرون. وبهذا المعنى، أتحدث عن الجرائم

والفساد، وهذه هي الأسباب الرئيسة ومنبع جميع المشاكل في بلدان أميركا الوسطى، هذه البلدان التي تضررت بشدة. نذكر مثلاً ما حدث بعد اختلاس الضمان الاجتماعي في هندوراس، هذا كان بداية جميع المشاكل والأزمة التي دمرت البلد، وأتحدث عن فقدان الهوية بسبب النظام الاقتصادي الذي يجعلنا مجرد ضحايا، بحيث نحرم من حقوقنا ونعيش مضللين ومنومين، وبالتالي سحق الفرص لإظهار أنفسنا وسحق لطاقاتنا، في هذا الكتاب سلطت الضوء على  الطريقة التي نقتل بها، والتي أصبحت مرئية ومفضوحة، وهنا فعلت كل ما هو ممكن لتكريم ذكرى الضحايا ولتخليد قتلى عائلتي، ونضال أصدقائي وكل شخص مجهول فقد كرامته بينما كان يعبر الليل والصحراء نحو حلمه بحياة أفضل. الكتاب وسيلة للحديث باحترام وجدية عن القضايا الحساسة في المنطقة، عن كرامتنا المفقودة، لأننا نمر بفترة انتقادات واتهامات ومؤامرات حرجة تزداد سوءاً كل يوم، لأن العنف مستمر والفساد مستمر واليأس وعدم المساواة، كل ذلك بسبب حصانة أولئك الذين يحكموننا، يدهم تتفقد وتحرس ما في جيوبهم واليد الأخرى تضع السلاح على رقابنا".

مفاجآت الترجمة الإنكليزية
على الرغم من الأصداء الرائعة لكتابه المكرس لموضوعة الهجرة الحزينة، إلا إن ترجمة الكتاب إلى اللغة الإنكليزية كانت مفاجأة لدينس. يقول: "الترجمة الإنكليزية لـ(ملابس أميركية) أثارت ضجة، وقد فوجئت بعدد المواد والنقاشات والتعليقات التي أثارها الكتاب. على سبيل المثال، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية بأن الحقيقة في أميركا الوسطى لا تنشر في وسائل الإعلام، ويجب أخذ الحقيقة من الأدب اللاتيني، طارحة أسماء أربعة روائيين كبار في أميركا اللاتينية بالإضافة إلى كتاب ملابس أميركية. ولقد تسنى لي إجراء الكثير من المقابلات حول موضوع الهجرة، وتفاجأت بأعداد الشباب والناس الذين قرأوا الكتاب. وفي السنة الفائتة، 2018، خلال زيارتي لإحدى الجامعات للحديث عن الكتاب، تفاجأت بأن كتابي مدرج ضمن 20 كتاباً كمراجع للمنهاج. الكثير من الناس ومن مختلف الأعمار والجنسيات والمستويات قرأوا هذا الكتاب، الكثير منهم مهاجرون ولاجئون سياسيون، الجميع اتفقوا على أن هذا الكتاب حقيقي ومتطابق مع الواقع، وشاركتُ الكتاب مع عائلات مهاجرة وبمختلف الأعمار، الجواب كان بأن هذا الكتاب يشرح تماما ظروف الرحلة المرعبة التي قاموا بها للوصول إلى الولايات المتحدة، وكأن الشاعر كان مرافقاً لهم في رحلة الهجرة والعذاب، ووصف تماماً الجحيم المرعب الذي عاشوه ولا يزالون يعيشونه، الرحلة المستمرة والجحيم المتكرر. الكتاب أيضاً يركز على الجانب العاطفي للمهاجرين، يصف اقتلاعهم من جذورهم، وتمزق هويتهم، يرافقهم منذ الخطوة الأولى لبداية هذه الرحلة، ومع أن هذا الكتاب خُلِقَ خارج هندوراس إلا أنه يوثق ويصف بشكل حقيقي ما حدث ويحدث هناك من مآزق متكررة سياسية واقتصادية، كما لو كان مجموعة من الصور الفوتوغرافية توثق تاريخ هذا البلد ومآسيه، ويظهر ذلك بشكل معمق في الكتاب في الجزء المعنون بيوميات العطش، حيث حفرت عميقاً لخلق نهر يروي عطش المهاجرين".
ينوه أبيلا بأن "الأمر الأكثر إثارة للسخرية هو أن موضوع هجرة اللاتينيين خلف الحلم الأميركي، بكل مآسيه وفداحاته، صار في واحدة من ملامحه سوقاً حرة، فمن الولايات المتحدة تأتي الملابس المستعملة والأجهزة المنزلية والسيارات المستعملة، ومن بلداننا يأتي الفارون إلى براريهم، الأشخاص المستعدون لزرع حيواتهم في الأراضي الشمالية"؛ مبيناً أن "ملابس

أميركية" كعنوان "يشير إلى الملابس المستعملة التي تأتي من الولايات المتحدة لسد الاحتياجات، فهي ملابس بسعر زهيد يمكن تأمينه، ومع ذلك بسبب الكميات الهائلة النابعة من هذا النقل المستمر فإنه يحتوي على مفهوم كلي لفقدان الهوية، واستيعاب حقيقة أخرى للمرغوب فيه والحقيقي والأفضل والأرخص. إن في هذه الملابس - كما في جميع المواد الاستهلاكية التي يتم التخلص منها في الولايات المتحدة- ما ينطوي على جزء كبير مما نحن عليه من واقع غير مريح، بلد أو عدة بلدان في سعي مستمر دون أن تصل إلى الحلم الأميركي، إنها شعوب يائسة من إنقاذها من واقعها الشرس".

شهادة المترجم
من جهته كشف الشاعر والمترجم الفلسطيني فخري رطروط أنه منذ فترة طويلة يتهيب أن يقدم على الترجمة، معللاً نفسه أنه يوما ما سيفعلها حينما يصبح متمكنا من اللغة نوعا ما ومن الظروف المعيشية في القارة اللاتينية حيث يقيم منذ سنوات، لكن "صديقي دينس أرسل لي الكتاب عن طريق العاملة عنده في المنزل وهي من نيكاراغوا، جاءت تزور أهلها في رأس السنة في العيد، وأحضرت لي هذا الكتاب معها كهدية وبإهداء من دينس، أمسكته وبدأت القراءة، ومنذ الوهلة الأولى، لفتني (الكتاب) كفلسطيني وكعربي وكمهاجر وكلاجئ وكنازح، كأنه يتحدث عني. باختصار، إنها تجربة مشابهة لتجربتنا، كأنه يتحدث عن التغريبة الفلسطينية، أو عن هجرة السوريين أو هجرة اليمنيين أو هجرة الليبيين وهجرة كل مواطن عربي دمرت بلده".
وعن أهم التفاصيل المؤثرة التي دفعته لاقتحام عالم الترجمة بعد تهيب طويل، يشير رطروط إلى أنه: "في هذه الهجرة إلى الشمال إلى الحلم الأميركي، آلاف من الناس اختفوا في هذه الطريق، لم يعد لهم أثر، لا يعرف ماذا حدث لهم ولا أين ذهبوا وكيف اختفوا؟ كل بلد في أميركا اللاتينية لديه قائمة بالآلاف من المفقودين، لأنهم خرجوا بطريقة غير شرعية وبالتالي من الصعب تحديد من الذي قتل ومن الذي فقد خارج البلد".
ويشير رطروط أيضاً إلى "قطار الوحش" الذي ورد في ديوان "ملابس أميركية" حين يتحدث دينس عن المهاجرين أو اللاجئين الهاربين من الحلم الأميركي يركبون هذا القطار/ قطار البضائع غير المعد للبشر، يركبون على ظهر المقطورات وهو ينقل بضائع من جنوب المكسيك إلى شمالها بالقرب من الحدود الأميركية حيث ينزلون هناك لكي يتابعوا الدخول إلى الولايات المتحدة عبر السباحة أو عبر أنفاق أو عبر أسلاك شائكة أو عبر مهربين. يكشف فخري أنه "على متن ما بات يسمى بـ(قطار الوحش) قتل الآلاف من هؤلاء لأنهم عرضة لهجوم المافيا الممتدة من أميركا الشمالية حتى آخر بلد في أميركا الوسطى. فالمافيا تهاجم هذا القطار وتسرق أموالهم، والذي لا يجدون بحوزته مالاً يقتلونه ثم يضعونه في برميل ثلج ليباع كأعضاء فلا يبقى منه شيء، والبعض يرمونه من على ظهر القطار كطريقة لترهيب الآخرين".
ويضيف رطروط في سياق حديثه عن أهم ما لفت انتباهه من مواقف انسانية أثناء ترجمته للكتاب: "هناك أيضاً ما تقوم به النساء اللاتي يطلعن من الفجر يجهزن الطعام والماء مجانا كنوع من العمل التطوعي والخيري، ومشاهد رمي الطعام إلى ظهر القطار كي يلتقطه المهاجرون القادمون من كل بلدان العالم، وكل هذه الأحداث لما قرأتها في هذا الكتاب ذكرتني بقصة غسان كنفاني (رجال في الشمس) التي تتحدث عن تهريب الفلسطينيين. قلت هذا الكتاب يجب أن أترجمه، لأنه لامسني كعربي وكفلسطيني وكإنسان، اشتغلت عليه شهوراً، وكل قصيدة

كنت أتكلم مع دينس تلفونيا بشأنها، أمضيت معه ساعات طويلة أسأله عن كل تفصيل. ولذلك في هذا الكتاب تستطيع أن تقول إن الترجمة لم تكن خيانة للنص، لأن ثمة فرقاً بين أن يكون الكاتب على قيد الحياة أو متوفى وأنت تترجم له، فإذا استعصى عليك شيء يمكن أن تسأله مباشرة وهذا ما يحدث الآن في ظل تواجد وسائل التواصل الاجتماعي، خيانة النص تقل شيئا فشيئا، لكن تظل هناك نسبة ما من خيانة النص وهذا أمر لا مفر منه إجمالاً".


شغف الهجرة إلى أميركا
يتفق مهتمون ومراكز أبحاث على أن هناك عشرة أسباب، تلخص شغف الناس للهجرة إلى الولايات المتحدة، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
الأول، استقرار مالي للعائلة بأكملها. وهذا سبب عملي، إذ يريد الجميع أن يعيش حياة مستقرة. مع هذا النوع من التفكير، لا يمكن لأحد أن يكون متردداً في الهجرة إلى أميركا.
الثاني، وجود فرصة الحصول على وظائف ممتازة.
الثالث، المخاوف السياسية: عند الهجرة إلى أميركا يمكن للمرء كسب حقوق سياسية.
الرابع، الفرص التعليمية: من الواضح أن هناك الكثير من الفرص التعليمية التي نبحث عنها.
الخامس، رفع مستوى المعيشة: وهذا سبب آخر لهجرة مختلف الناس إلى أميركا.
السادس، من السهل أن تسافر إلى أي مكان بعدما تصبح مواطنا أميركيا؛ عندما تحصل على جواز السفر الأميركي بنجاح يمكنك التخطيط للسفر بحرية. لا تحتاج للامتثال للإجراءات والوثائق الشاقة، ولن تكون هناك قيود كبيرة على طول الطريق. على وجه التحديد يمكن أن يقضي الفرد مدة 180 يوماً خارج أميركا.
السابع، القلق من الترحيل ليست مشكلة: عندما تحصل على الجنسية الأميركية، لا يمكن أن يجبرك شيء على مغادرة الدولة، حتى ارتكاب جريمة خطرة.
الثامن، الحماية الدولية: الولايات المتحدة معروفة بحرصها على وضع مواطنيها. للحصول على مثال دقيق، كل فرد يخطط للسفر إلى الخارج سيتم تأمينه أينما أقام. في أوقات الكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ، فإن الدولة ستبقى على اتصال حول ما يحدث.
التاسع، الحصول على الجنسية للأطفال: عندما تهاجر إلى أميركا، فإن إمكانية الحصول على الجنسية لا يقتصر عليك وحدك. إذا كنت تريد أن يحمل أطفالك الجنسية الأميركية أيضاً لن تكون هناك أي مشكلة.
العاشر، القدرة على كفالة أقارب آخرين للحصول على البطاقة الخضراء.

ختاماً، من المؤكد أن الآلاف من سكان بلدان أميركا الوسطى (هندوراس، نيكاراغوا، غواتيمالا، كوستاريكا وغيرها) الذين يقتلهم "الحلم الأميركي"، بألف طريقة للموت، ليسوا وحدهم من يغامر بالهجرة إلى "بلاد العم سام"، فثمة هناك الكثير غيرهم. وفي الوقت الذي يشعر فيه الشعر، على طريقة دينس أبيلا، بالمظلومية، فإن السلطات في الولايات المتحدة ماضية في قمع وصد كل محاولات دخول البلاد بطريقة غير شرعية، ما يجعل من "ملابس أميركية" كتاب التجربة الإنسانية البحتة، وإن اصطدمت بجدار القانون.


مقتطفات شعرية من 

"ملابس أميركية"                                       

ضريبة الخروج 

الفتيات يتجهّزن لمغادرة الحدود
يأخذن خيطاً من خوف بين سيقانهن
ستٌّ من كل عشرٍ سوف يُغتَصبن
حبوب منع الحمل تختفي من صيدلية البلدة.

***

قوانين اللعب

كان هناك عمود إنارةد
كنتُ أعدّ حتّى الثلاثين
الجميع يختبئون
كنت أعثر على البطيئين والصغار
بعضهم كان يهرب، يسبقونني ويلمسون العمود
صائحين: حرَّرنا أصدقاءنا

كنت أرجع للبداية
ويبدأ العدّ من جديد.

بعد خمس وعشرين سنة أمرّ بهذه الشوارع
أصدقائي يتابعون الاختباء.

***

دراسات اجتماعية

في الصف الثالث
علَّمونا أن هندوراس تخلو من البراكين.

لمواساتنا كانوا يقولون لنا: لكننا البلد الأكثر جبالاً في أميركا الوسطى.

خصوبة تربتها تأتي من مكان آخر،
وليس من تدفُّق الحمم البركانية التي تحصد الطبيعة في طريقها.

في النهاية ليس مهمّا أن جبالنا وُلدَت عمياء.

هذا الجزء من العالم تعلَّمَ أن يتقيّأ إلى الداخل.

***

جولة في مدينة مدمّرة

أتجوّل في شرايين تيغوسيغالبا كما لو كنتُ محلول غلوكوز
لا شيء يساعدني على فهم النهر الذي يحتضر بين جسورها.

أعبر السوق
الجزّارون يظهرون مللهم:
في حياة أُخرى سيتابعون تنظيف الدم.

أطفال الشوارع يُلطّخون زجاج المحلّات بأيديهم القذرة
تطاردهم الشرطة، لكنهم يهربون مثل الأسماك.

من واجهة عرضِه
الدجاج المشوي مقطوع الرأس يسخر منا.

مركز المدينة التاريخي قبوٌ كبير للرعب.

نتظاهر بأننا سعداء
لكنّ الخراب يتنفس بيننا.

***

AMERICAN DREAM

في الإجازات كان يَطلب منّا أن نتعلّم الإنكليزية
دفعَ رسوم دورة،
اشترى لنا كتباً وأشرطة تعلُّم قواعد النطق
وقاموساً يعرف كل شيء.

أنا لم أتجاوز الصفحة الأولى من الدرس الأول
أخي كان مثابراً، أحرزَ تقدماً، في وقت قليل وصل إلى الفعل To be،
عندما نذهب في نزهة كان يسمّي كل شيء نمرُّ به بلفظهِ الإنكليزي.

كان يقول بأن الرياضيات والإنكليزية لغة المستقبل.

دورة اللغة الإنكليزية لا تزال موجودة حتى الآن
وحلمُ أبي أيضاً.

***

بطولات الدوري الكبرى

كنّا نلعب البيسبول في حقل صغير بكرة تنس، عندما كانت لا تزال ثمة مساحات خضراء.

أحببنا:
المساءات غير الممطرة
الواجبات المدرسية المعمول نصفها
مضارب الألومنيوم لأنها أثقل من الخشب.

كنّا ننظّم المباريات - بكرات بيسبول حقيقية - التي كان يوقفها المطر أو المضاربات بيننا أو النوافذ المكسّرة.

حتّى جاء يوم سرقوا فيه الحقل لبناء المزيد من البيوت.

في صالوننا الخاص بالمشاهير هناك مكان لذلك الحقل المشاع.

***

صدمة الأيام

في الأربعين ثانية التي نقود فيها السيارات
صدّقنا بأننا ربابنة سفن فضائية تتفادى النيازك وقوى الشر الأخرى.

كانت السعادة تغمر أهالينا
يُشجّعوننا بالأبواق ونحن نركض مثل "بنانير" ملوّنة انفرط كيسها.

كبرنا في بيوتنا وفي الوظائف وفي طوابير الخوف التي لا نهاية لها
نحن الآن سيارات الملاهي، نتحرّك في كل الاتجاهات

دون أن نفهم الطفل الذي في داخلنا، في المرّات القليلة التي نعود فيها إلى السعادة.

***

مذاقات فاسدة

لم يعُد هناك مخبز في هذه الزاوية
المحلُّ فارغٌ من السيّد لويس
تاجر مقتول؛ لأنه لم يدفع الإتاوة.

 ***

 تفكيك الخوف

 الجيران الذين تعلّموا أن يديروا الخَدّ الآخر
أعطونا مساحة لإقامة جبال الصمت.

سيرتهم الذاتية تُغلق أعينها
وترمي بتفاهة الحجارة التي تمحو براءتهم.

يدفنون أمواتهم في حديقة الرماد
السلام لم يجد مداره حول كراسيهم الهزّازة.

مع أننا ذهبنا للسكن بعيداً
لكننا لا نزال نسكن نفس الهواء بين الأشياء.

***

أرقام خاطئة

أتّصلُ بأصدقائي
كثيرٌ منهم منشغلون بأعمالهم وعائلاتهم.

آخرون يتابعون ضرب كراتهم لتلطيخ جدران ضجرهم.

نهرٌ شقّ طريقه بيننا.

الذين استطاعوا الردَّ ينحنون فوق هواتفهم
كلماتهم خافتة
لا يريدون أن أرى أبعد من تلفوناتهم.

***

الضمان الاجتماعي

طابورٌ بطيء من التوابيت
يُرى في أعين مرضانا وكهولنا

بصمتٍ يعاتبون الموت
لأنه تأخّر كثيراً.

***

أقاربي القتلى

صدري ليلةٌ لا نهاية لها
مثل برد الفجر في آخر ليلةٍ للمحكومين بالإعدام.

أتحقّق من أنه لا أحد يلاحظ قوس قزح الرمادي
الذي أتركه عندما أُنظّف زجاجاً.

فقط أبحث عن وجوههم
في هذا الزجاج الضبابي.

***

كلمات أخيرة

أُقسم
سأرحل عن بلدي كلّما كان ذلك ضرورياً
جسدي جوازُ سفرٍ
والندوب هي الأختام على صفحاته.