Print
عماد فؤاد

سوق الأدب العربيّ بالغرب.. رؤية للمشهد الألماني (6)

30 أغسطس 2019
هنا/الآن
منذ اللحظة الأولى التي تواصلت فيها مع المترجمة الألمانية ساندرا هتزل (مواليد 1980)، لاحظت حماسها الشديد للردّ على أسئلتي، ولفتني امتلاكها حسّاً ذكيّاً من المداعبة والسخرية الحادة في كثير من ردودها، هي التي قالت فور قراءتها للأسئلة: "واو! قرأتُ مباشرة الحلقات السابقة لملفّك حول "سوق الأدب العربي بالغرب"، ومع أني عرفت من أول سطر أنني طبعاً من "المتّهمين" (أعقبتها بغمزة عين) رأيت أيضاً أن بها الكثير من التساؤلات والأفكار المهمّة التي تدور برأسي".
كانت نبرة إجابات هتزل (التي وصلتني بعد ثلاثة أسابيع من إرسالي الأسئلة، والتي صيغت كما أوضحت لي بمساعدة من صديقيها عمار عيروطة ويامن حسين في التدقيق والتصحيح اللغوي) تحتدّ أحياناً مدافعة عن الكُتب التي ترجمتها إلى الألمانية، وتارة أخرى هادئة وطارحة بنفسها بعض التساؤلات التي تشغلها. باختصار كان الحوار مع هتزل ضرورياً لأهمّيته ضمن ملفّنا الموسّع حول "سوق الأدب العربي بالغرب"، وذلك بفضل حركتها الدؤوبة مؤخراً في الترجمة، وأيضاً لإطلاقها مؤسسة ودار نشر 10/11، شعارها "ملتزمون بنشر أدب جريء على القيود والقوالب ويتناول مواضيع معاصرة الأهمية بالعربية، ومنها إلى لغات أخرى، عن طريق وكالة أدبية ومقابلات ومنشورات وأشياء جميلة أخرى".
أصدرت هتزل حتى اليوم عدداً من الترجمات عن الأدب السوري الجديد، من بينها أعمالٌ لعارف حمزة، ورشا عباس، وعبّود سعيد، وعسّاف العسّاف، وغيرهم، كما تستعد لإصدار عدد آخر من ترجماتها الجديدة.
حاولتُ قدر الإمكان، في حواري الذي طال قليلاً مع ساندرا هتزل، أن أنصت إليها أكثر من أن أتكلم، فشهادتها الهامة تقدم لنا هنا صورة وافية عن جانب مستقل في الوسط الثقافي العربي النّشط والفعّال اليوم في العاصمة الألمانية برلين، بدا لي من اللحظة الأولى أنها قرأت بالفعل حلقات الملف بتأنٍّ شديد، وأن بعض نقاطه قد أثارت انفعالها، فبدأت تردّ على أسئلة لم أفكر أصلاً في طرحها. دافعت هتزل عن مشروعها في الترجمة وعن اختياراتها لمن تترجمهم عن إيمان حقيقي بما تفعل، لذا أرجو أن تكون أهمية ما جاء على لسانها في شهادتها التالية، شفيعاً لي لدى القارئ عن هذا الحوار الطويل، الذي ننشر اليوم الجزء الأول منه على أن يتبعه جزء ثان وأخير غداً:


(*) أنت اليوم واحدة من أنشط المترجمين الألمان في متابعة الظّواهر الجديدة في الكتابة السّورية المهاجرة، كيف ترين هذه الكتابات، وكيف بدأت رحلتك لترجمتها إلى الألمانيّة؟
كان للكتابة والقراءة والترجمة دائماً دورٌ حيويٌّ في حياتي، رغم أنه لم يخطر لي يوماً أنّي سأصبح مترجمة. فكنتُ أترجم لأصدقائي وأمّي نصوصاً مسرحيةً كاملة هكذا، أحياناً بصوت عالٍ ومباشرةً من الكتب، وأحياناً أخرى مكتوبة من الإيطالية للألمانية والعكس، وبعدها من

العربية للألمانية. مع حلول 2009 بدأتْ الترجمة تتحوّل إلى أمر جدي، حينها كنت في زيارة لصديقي آندرياس هوفباور، النمساوي الذي ترجم سلافوي جيجيك إلى الألمانية لأول مرة، ويومها حدثته عن كتابين للروائي اللبناني رشيد الضعيف، فقال لي: "ما تروينه يجعلني أرغب بقراءته، لماذا لا تجرّبين ترجمته"؟ في الأسابيع التالية ترجمت 30 صفحة من الروايتين "ليرنينغ إنجلش" و"تصطفل ميريل ستريب". وبعد قراءة آندرياس لما ترجمت شجعّني على البحث عن دار نشر. أرسلت حينها الترجمتين إلى عدد من دور النشر الألمانية. وبسبب عدم معرفتي بكيفية سير هذه الأمور، لم يردّ عليّ أحد. بعد ذلك بحثت عن فُرَصِ عمل لها علاقة بالترجمة من العربية. نقطة بداية أخرى في 2011 حينما سألني صديقي المترجم رفائيل سانتشز إذا ما كنت أرغب بترجمة بعض القصائد لمهرجان الشعر في برلين بدلاً عنه. وافقت وكانت القصائد لشعراء سوريين وعرب، وانتابني الرعب عندما رأيت أمامي قصيدة تمتدّ على أكثر من 10 صفحات لصديقي العراقي عبّاس خضر، مليئة بالصور الغامضة والعبثية. مع ذلك ترجمتها. كنت أمشي برفق من كلمة إلى كلمة كمن دخل فضاء معتماً لا تعمل قوانين الجاذبية فيه. أخيراً كان عبّاس، الذي يجيد الألمانية بشكل رائع، راضياً جدّا عن ترجمتي، ما شجعّني على الاستمرار.

(*) ومتى كانت الخطوة الحقيقية التي بدأت من خلالها الترجمة الأدبية؟
كانت البداية عندما قمنا أنا وفارس البحرة، وهو طبيب نفسي وشاعر سوري، بسلسلة قراءات في 2011. اختار فارس 20 نصاً سورياً كُتِبت من السبعينيات إلى 2011، وقمت بترجمتها. كانت فكرتنا وقتها أن نخلق مدخلاً عاطفياً وجمالياً للحدث السوري أمام جمهورنا الألماني والعربي من خلال الشّعر والنثر، أي ما لا يمكن أن توصّله الأخبار القليلة نسبياً التي كانت تصل ألمانيا آنذاك، عن العنف وقتل المتظاهرين في سورية. في الوقت ذاته كنّا نريد أن نثبت من خلال هذه النصوص، أن حركة الاحتجاج في سورية لم تأت فجأة أو من فراغ، كما كان يقول البعض، (أصحاب مقولة أن السوريين دُفعوا إلى التظاهر من الخارج)، بينما في

الحقيقة هنالك في الوعي الجمعي السوري عطش كبير للتغيير منذ عقود. فمثلاً قرأنا نصاً من السبعينيات لمحمد الماغوط، يحلم فيه بأن تأتي ثورة ويحنّ لها كأنها حبيبته. كذلك قرأنا نصاً للسوري عارف حمزة كتبه في 2008، يصور فيه تعذيباً جسدياً في السجن تصويراً بطيئاً ويكاد أن يكون سادياً، وبالوقت نفسه بدقّة الخيال وشعرية الصور المعتادة لدى حمزة. هكذا أردنا أن نقول: كلّ هذا لم يأت من فراغ. وأكثرية هذه القراءات كانت تجري في أماكن تابعة لما يسمّى بالمشهد الثقافي البديل، وبالتعاون مع الكاتب والموسيقي الألماني فرديريكو سانتشز- نيتسل، الذي نظّم سلسلة قراءات واسعة تحت عنوان "لا بلد للشعراء الغريبين" لمدة عامين، قدّم أثناءه شعراء ألمان وأميركان وإنكليز، ونحن، بالمناسبة، ولأنك سألتني عن "أدب سوري مهاجر": منذ ذلك الوقت بدأت بالبحث عن ناشر ألماني لقصائد عارف حمزة، الذي كان آنذاك لا يزال يعيش في سورية ولم تكن فكرة الهجرة في أُفُقِهِ أبداً. بدأت بالبحث لأن نصه كان أكثر ما أعجبني من بين نصوص المجموعة، لكنّي نجحت في ذلك فقط في 2016، عندما أصبح حمزة مقيماً في ألمانيا.


أيقونة "بوب" صغيرة
تواصل ساندرا هتزل حديثها فتقول: في 2012 كانت هناك موجة إعجابات على الفيسبوك، عدد كبير من المثقفين السوريين والعرب أعجبوا بما ينشره حدّاد سوري اسمه عبّود سعيد مقيم بمدينة منبج بريف حلب، في إحدى المناطق الأكثر تهميشاً في سورية. يعيش مع أمه وإخوته السبعة في بيت واحد. وفي صيف 2012 بلغت موجة الاهتمام بكتابات عبّود سعيد قمّتها، فسمعت عنه وأعجبت بالكثير مما قرأت: الخيال الواسع للنصوص ومزيج فريد يجمع أشياء عدة في قالب يشبه قصائد نثر حرّة طليقة وغاضبة، تستبطن في شكلها قراءات مثل رياض الصالح الحسين، لكن في الوقت نفسه لا تخشى من تأمّلات يومية ودُنِيَوِية جدّاً، تأتي كثيراً على شكل هايكو. احتوت كتاباته تأمّلات حول الكتابة نفسها على الفيسبوك، وتساؤلات حول فراغ حيواتنا الرقمية الموازية لحيواتنا خارج الشاشات، التي، بالنسبة لعبّود، كانت تدور في المجتمع الريفي في مدينته التي تقصف كل يوم وفي ورشة الحدادة والمخرطة التي يعمل عليها. في كل مساء يرى نجوم المسرح السوريين وكتّاباً وفنانين وراء شاشة كمبيوتره يضعون له إعجابات

وتعليقات، وهذا الانفصام طاغ على الكثير مما كتب. كان هناك في معظم كتاباته وعي قوي، ونوع من المداعبة بالفرق الطبقي بينه وبين جزء كبير من قرّائه. وبالنسبة للطبقة الوسطى السورية الداعمة للحراك الثوري الشعبي، وبالنسبة للفنّانين العرب، سكّان العواصم العربية والأوروبية، عبّود سعيد، بكلّ تفاصيله وبكلّ ما كان يمثّله، كان صوتاً يحنّون له، مع فيتيشية طبقية خفيفة، مما لا تخلو منه أي ثورة. (ملاحظة: أقول ذلك بدون أدنى تقييم، بل أشاركهم الحبّ نفسه لنصوص سعيد. لكن تهمّني الإشارة إلى أن علاقة الإثارة الفيتيشية بين مجموعة قرّاء وكاتب لا يحوز على نفس امتيازاتهم الاجتماعية أو المادية، ليس من الضروري أن تبدأ فقط في الغرب). هنا بدأت بترجمة بعض نصوصه والبحث عن دار نشر له. بغض النظر عن حماسي الأدبي لكتاباته، كانت إمكانية سهولة تماهي كثير من الشباب في ألمانيا تبدو لي واضحة مع صوت عبّود. انزعجت أحياناً من عدم الاهتمام بما يحدث في سورية لدى جيلي في ألمانيا. أحد الأسباب وراء عدم اهتمامهم ويمكن أن يكون أهمها، هو البعد غير المحسوس و"آخَرية" أبطال الحدث السوري، لذلك همّني أن أنشر صوت شاب سوري داعم للحراك الشعبي في سورية، دون أن يكون غريباً أو إيكزوتيكياً، ولا يصلح لدور الضحّية ولا يثير الشفقة، بل على العكس، صوت ربما يصلح ليكون أيقونة "بوب" صغيرة في الأدب، ماركة مسجلة. وكان أن عرّفني عبّاس خضر على الناشرة نيكولا ريشتر، التي كانت آنذاك على وشك تأسيس دار نشر "ميكروتيكست"، والمختصّة بنصوص قصيرة وسرديات ذاتية نشأت على الإنترنت، وهو ما كان بالطبع مثالياً لنصوص عبّود سعيد، والتي صدرت بعنوان "أفهم واحد على الفيسبوك" بداية 2013، وكان هذا أيضاً أول كتاب يصدر من ترجمتي.

(*) هل يمكننا اعتبار بعض هذه الكتابات نواة لأدب "لاجئين" جديد في العالم العربي اليوم؟
أظنّ أن تجربة المنفى السورية لا تزال جديدة ولم تستقرّ بعد، على الأقل هذا ما أومن به. اليوم كلّ الكتّاب السوريين الذين أترجم نصوصهم أصبحوا فعلاً منفيين في أوروبا، بعد أن أُجبِروا على الهروب إلى دول الجوار، ومن لبنان وتركيا إلى أوروبا، هذا الأمر تدان به السياسات الكارثية للمنطقة والعالم كلّه. ولكن إلى حدّ الآن جزء كبير من التجارب الكتابية للكتّاب الذين

ذكرتَهم، كُتبتْ في سورية أو في دول الجوار. حقيقة لا أعرف إذا كان هذا التفصيل قد يهمّ سؤالك. أصلاً، لست متأكدة من معنى "أدب لاجئين". هناك شيء في هذه العبارة يجعلني لا أشعر بالراحة، غير الدلالات التي تحملها بسياق هذا النقاش، والتي أرى أنها لا يمكن أن تنطبق على ما أترجمه، كما سأشرح لاحقاً. ما لا أرتاح له هو التعميم: عندما تلتصق إقامة "لاجئ" بوثيقة سفر كاتب ما، هل تصبح كتاباته "أدب لاجئين" تلقائياً، بغض النظر عن ما يكتب؟ أم يتعلّق الأمر بمضامين كتابته وبنقطة انطلاقها؟ وهل ينطبق هذا فقط على ما سيكتبه بعد الحصول على اللجوء، أم يعمل هذا التحويل أيضاً بمفعول رجعي؟ يمكنني القول إنني تقريباً كلّما تلقيت دعوة من جهة ما (وأقصد جهات ألمانية) بخصوص أمسية قراءة مع كاتب أو كاتبة ترجمتُ عمله/ها، أنتهي بمحاربة قالب اللاجئ، لدرجة أنني أحلم بأن أبدأ باستخدام عبارة "كلمة اللام" بدلاً من مصطلح "لاجئين"، مثلما تستخدم بالسياق اليساري الأكاديمي بالإنكليزية عبارة "كلمة النون The N-word"، لتجنّب استخدام كلمة "زنجي" العنصرية. فبالنسبة للكثير من الألمان بدأ السوريون وجودهم فقط بعد لجوئهم إلى ألمانيا، ويرونَ كل شيء عبر نظارة اللجوء والعمل الاجتماعي. لا شك أن هذا هو عائق كبير أمام تلقّي نص أدبي، ويؤدي إلى أن تُفسّر كتابات هي في الواقع أبعد ما تكون عن التوثيق - بطريقة عجيبة أو بكسل عقلي مذهل - كمصدر لمعلومات تُمكّن القارئ من استنتاجات أنثروبولوجية وسوسيولوجية. هكذا مثلاً كتبتْ ناقدة أدبية ألمانية عن المجموعة القصصية الكثيفة والغنية بتفاصيل خيالية "ملخّص ما جرى" لرشا عبّاس (المتوسّط 2018)، بأنّه: "من الملفت كيف تنجح رشا عباس في إظهار تنوّع أسباب اللجوء، وتروي تجارب إناث وذكور بالتساوي". أتفهّم إذا انتهى المرء بجملة متكلّفة كهذه من باب انتهازية قد تكون بمحلّها عند كتابة الـ"بروبرزلات"، استخداماً للغة الجهة المموّلة، لكن ماذا عن قارئ المفروض به أن يكون حرّاً؟!
كدت أن أقاطع ساندرا هتزل وهي مسترسلة في حديثها، إلا أنها سارعت قائلة: كما ترى، أحاول بطريقة ما أن أدافع عن نفسي وعن "كُتّابي" ضد مصطلح "أدب لاجئين"، لكنّك على حق أيضاً: ففي النهاية يكتب عارف حمزة في بعض قصائده عن الهروب، وبعد 2014 دخل بُعد المنفى نصوصَه كما دخل حياتَه، وفي قصص "ملخّص ما جرى" لرشا عبّاس، تختلط الأماكن والبلدان ويبدو المكان مفهوماً هشّاً وعابراً وطيفيّاً. وفي كتابها الثاني "كيف تمّ اختراع اللّغة الألمانيّة"، تبدأ الراوية أو الراوي حياة جديدة في برلين، مع كل الصدامات المتعلّقة بالأمر؛ مثلاً صدام كاتبة عربية مع سوق النشر في الغرب، يخلق حواراً جنونياً بين كاتبة غالباً ما تكون سوريّة وناشر ألماني على الأغلب، الناشر الذي يرفض بملل وبانحطاط كبيرين كلّ اقتراحاتها الساذجة لمشاريع كتابية، ثم يقترح عليها في المقابل الذهاب إلى مناطق داعش والقيام بعلاقة مع أحد المقاتلين، ومن ثم كتابة مذكّراتها من داخل الخلافة. واسمح لي أن أقتبس هنا ما كتبه المصري شادي لويس واصفاً مجموعة رشا بأنها "أدب عربي في الغرب لا يكتفى بتمحيص الأوروبي، بل بالتطاول عليه بالسخرية، وتفكيكه" في مقالة له، تردّ بشكل ما على سلسلة مقالاتك.


الفيزا الألمانية
(*) كيف تفرّقين كمترجمة بين مستويات الكُتَّاب السّوريين الذين ترجمت أعمالهم إلى الألمانية، وكيف تنظرين إلى منجزهم كأدب؟
هذه الكتابات من وجهة نظري مختلفة بعضها عن بعض للدرجة التي لا تصح معها المقارنة. طبعاً هناك القاسم المشترك البديهي، أي بلدهم الأصلي والتجارب المرتبطة بأن يكون المرء سورياً هذه الأيام. لنتحدّث عن كلٍّ منهم بمفرده، لكن أولاً، وفي ظلّ تُهم الانتهازية المتطايرة كحبوب البَرَد في هذا النقاش الممتع، أريد أن أوضح أن تركيزي على كتابات سورية أتى كاهتمام "عضوي" خلال سيرة حياتي، لأنه ناتج عن كوني عشتُ لفترة في سورية عام 2006، سبعة أشهر قصيرة لكنها مهمة بشكل لا يقاس بالنسبة لحياتي. بعد ذلك كان أغلب محيطي الاجتماعي في برلين، وفيما بعد في بيروت، يتشكّل من أصدقاء سوريين. أي أن علاقتي مع سورية والسوريين أعمق. كتابات عارف حمزة ورشا عبّاس هي بالتأكيد نصوص "هضمتْ" تجربة السنين الأخيرة، أي تجربة الحرب والمنفى. وتختلف الحال قليلاً مع كتابات عسّاف العسّاف وعبّود سعيد. كتب عسّاف نصوصه التي ستشكل فيما بعد كتابه "أبو يورغن"، حين كان لاجئاً في لبنان. وكان ينشر مقالاته في صحف عربية ويعمل بمهنته كطبيب أسنان. في 2014 اخترع عسّاف شخصية "أبو يورغن" على الفيسبوك، صديقه المتخيّل في بيروت، إنه أبو يورغن، سيادة السّفير الألماني بشحمه ولحمه، مع أنّه لا يشبه أبداً شخصية ألمانية،

الذي يقوم بإضاعة الوثائق الشخصية التي قدّمها الراوي للتقديم على الفيزا، بلعبة شدّة مع سفيري الكونغو وكوريا الشمالية. السفّير الألماني، المرتدي عادة بيجاما رياضية وبوط رياضي من الماركة السورية "رين"، طفولي وعفوي بكلّ تصرّفاته، بينما الرّاوي عسّاف صوت العقل (بغمزة كبيرة). كانت النصوص عبارة عن قصص قصيرة جميعها مكتوب بالعامية السورية، ومقاطع أخرى مكتوبة بالفصحى، تشبه نبرَتُها نبرة البيانات الرسمية المتكلفّة لدى حزب البعث السوري وتحتوي على آخر الأخبار لـ"حملة عسّاف للحصول على الفيزا الألمانية". كان قراء هذه النصوص سوريين، الكثير منهم يقيمون بلبنان وينتمون للوسط الثقافي، إضافة لبعض اللبنانيين. كتابة هذه النصوص الخيالية الساخرة كانت نوعاً من الهروب من واقع بائس فعلاً، وفي الوقت نفسه تعليقاً ساخراً على الوضع العام: برزخ الـ"شنططة" وهستيريا اللجوء إلى أوروبا وألمانيا بصورة خاصة. ولأن الفضاء الأصلي لهذه النصوص كان الفيسبوك، كان الهروب هروباً جماعياً إلى كوميديا عبثية. هنا أيضاً تجري عملية تفكيك، لكنّني لا أدري إذا كانت فعلاً تفكيكاً للأوروبي، أم هي أقرب لعملية تفكيك للذات السورية التي تنظر إلى أوروبا. قصص عسّاف حفلة تنكّرية تخريبية تتقلّب وتتحدى التدرّج الهرَمي للنفوذ في الحالة الراهنة. أمّا عبّود سعيد، فمعظم نصوصه المترجمة والتي توزّعت على "أفهم واحد على الفيسبوك" و"حياة بحجم خبر عاجل"، كُتبت في سورية ولجمهور يتألف من سوريين وعرب فقط، ومضمون النصوص لا علاقة له بالمنفى على الإطلاق. وبالحالتين كانت الشعبية الواسعة لهذه الكتابات لدى الجمهور العربي، هي ما عرّفتني عليها أصلاً. وبالتالي، الاتّهام الضمني بهذا النقاش بأن هؤلاء الكتّاب كتبوا نصوصهم ليرضوا الرغبات المَرَضِيّة لجمهور غربي لا يصيب الهدف. لكن هنا دخلت أنا اللعبة، أي فكرة ترجمة هذه النصوص المحلّية إلى اللغة الألمانية، وتقديمها على شكل كُتُب لقراء ألمان. وهنا بالطبع تجاوزت حدود دوري كمترجمة لما هو أبعد، فنقلت هذه الكتابات من فضائها الأصلي العابر والتفاعلي والمحلّي إلى فضاء الكتاب الساكن. كنت أريد أن أرى هذه النصوص في صفحات الأدب والفن بالجرائد الألمانية، في المكتبات العامة وعلى الطاولات، لأنني لم أرها مجرد نصوصٍ ممتعة من وجهة نظر أدبية، بل رأيت بها نصوصاً ستفرض مستوى أذكى على النقاشات الجارية في ألمانيا. بحالة عبّود سعيد، كنت أريد أن أخلق مرجعية "بوب" ذكية ومعاصرة للوضع في سورية، وبحالة عسّاف العسّاف، تعليق ساخر وحاد آتٍ من طرف سوري للنقاش حول اللجوء الجاري في ألمانيا. طبعاً، لم يكتب عسّاف وعبّود هذه النصوص للألمان (عكس الاتهام)، لكن هذا بالضبط ما يمكن أن يجعلني أستحق أن أُتهم: أنني نقلت النصوص ليس فقط من لغة إلى أخرى، بل من سياقها وشكلها الأصلي إلى سياق وشكل مغايرين، رغم أنني كنت شفّافة بما فعلت مع القارئ الألماني، فشرحت كلّ شيء عن السياقات الأصلية وعن عملية النقل لهذه النصوص بخاتمة لكلا الكتابين، كما وضعت لكل كتاب ملحقاً للمصطلحات يحتوي على الكثير من التوضيحات المهمة.