Print
عماد الدين موسى

الجوائز الأدبيّة العربيّة.. ماذا قدّمتْ للمؤلف والكِتاب؟ (2/2)

6 أغسطس 2019
هنا/الآن
هل تعتبر الجوائز الأدبيّة تدخُّلاً سياسياً في الفعل الكتابي لتحفيز العقل الإبداعي، أم هي فعل هيمنة على الكاتب؟ للجائزة قدرة ليست سحرية ولكنَّها مؤثِّرة. لقد حاز عليها عربياً نجيب محفوظ، وهي ليست كأيِّ جائزة؛ (نوبل) التي تُعتبر جائزة الجوائز. فماذا أضافت له، أم هو الذي أضاف لها كغيره من مبدعين حازوا عليها؟
لننظر إلى مبدعة أخرى مثل جوخة الحارثي، التي حازت جائزة "مان بوكر الدولية" لأفضل عمل أدبي مترجم للغة الإنكليزية عن روايتها "سيدات القمر"؛ كانت قد كتبتها عام 2010 ولم يحتفل بها القارئ ولا الناقد العربي؛ بل نسيها مثل كثير من الأعمال الأدبية لكتَّاب عرب لا تجد مَنْ ينفض عنها الغبار، ولننظر كَمْ دراسة ومقالة كُتبت عنها حين فوزها بهذه الجائزة! أيَّ عقلٍ نقدي هذا العقل العربي؟!!
عربياً، هنالك العديد من الجوائز: جائزة نجيب محفوظ، وجائزة الطيب صالح، والجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر"، وجائزة "كتارا" للرواية العربية، وجائزة زايد للكتاب، وجائزة حمد للترجمة، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والأدب، وجائزة عبد العزيز سعود البابطين، وجائزة جامعة "فيلادلفيا"، وغيرها. ماذا قدَّمت هذه الجوائز لِمن تُوِّج بها من الكتَّاب العرب وكيف ينظر إليها الأدباء؟
هنا الجزء الثاني والأخير من هذا الملف الخاص:


صابرين فرعون (فلسطين):
الإقبال على القراءة
في رأيي، الجوائز العربية في وقتنا الحاضر تحولت إلى حمى وهوس، يسعى لها الكاتب طمعاً في الربح المالي، والقيمة الإنسانية، كتحصيل بريق الشهرة والنجومية، ويكتب تحت ضغط العنوان أو الموضوع المطروح، لأن همه الربح. ولا تختلف الحال بالنسبة للناشر الذي يسعى لحصته المالية "النسبة" بحسب عقد النشر بينه وبين الكاتب ومواكبة طلب السوق وبيع أكبر عدد من نسخ الكتاب الفائز، علماً أن لجان التحكيم تسعى لتتعامل مع أصالة النص وتفرده، لكن أحياناً تقع في الانحياز لأسماء بلدان معينة، والسماح بمشاركة الأسماء الفائزة سنوياً دون الأخذ بعين الاعتبار أن إقصاء مشاركة الفائزين بأكثر من جائزة وعدم السماح بالمشاركة لعامين متتاليين يتيح فرصة للشباب والأدباء الكبار والسماح بالمنافسة بين فئات عمرية مختلفة، أهم ربح للناشر والكاتب والقارئ، وهو يفرز نصاً ذا جودة وجماليات أدبية فكرة ومضموناً، وليس نصاً استهلاكياً لا يسمن عقل القارئ ولا يعول عليه ليكون تراثاً أدبياً أو يمثل قيمة ترقى بالإنسانية.
وعلى الرغم من الترويج الإعلامي وترشيحات القراءة التي يضعها القراء المتابعون للروايات

والمجموعات القصصية وحتى الشعرية - على ندرتها - الفائزة بالجوائز، يبقى الإقبال على القراءة بشكل عام والورقية بشكل خاص في تراجع.
يشكك البعض في مصداقية لجان التحكيم، كما يتم مهاجمة النصوص حتى يطال ذلك شخص الكاتب الفائز، ومهاجمة بلد الفائز واتهامه بالشراء "السياسي" للجائزة، وذلك لا يعني أن لجان التحكيم على صواب دائماً في اختياراتها. المسألة نسبية في ترشيحات اللجان- والتي يتم انتقاء محكميها من الأساتذة الجامعيين والنقاد بعناية؛ بعضهم يمنح علامة لجماليات اللغة والتصوير والأسلوب على حساب المضمون، وبعضهم لا يكترث بوجود الأخطاء المطبعية أو الإملائية لعمل مقدّم للتحكيم، ويفترض أنه معرض للنقد في هذا الجانب، كما أن هناك عمليات يمر بها نقد العمل المنشور أو غير المنشور ورقياً ويتم من خلال لجنة تتكون من مجموعات ولكل مجموعة دور في الفرز والنقد والترشيح.
الإبداع يصنعه المُجتهد على عمله، وبصبر وتأنٍ وتؤدة يطهوه، لكنه فعل بشر، يصنع عوالم تحاكي الواقع ولا تنفصل عنه ولا تقل متعة ودهشة وقيمة عن اكتشاف علمي يفيد البشرية.
خلال العام الماضي 2018، تم التواصل معي على الإيميل من قبل ناشر روايتي وطلب أوراقي الثبوتية لترشيح روايتي "أثلام ملغومة بالورد" لإحدى الجوائز العربية للرواية ولم يطلعني أي جائزة، فتواصلت مع ناشري حينها لسؤاله "هل ترى في روايتي ما يستحق ترشيحها لجائزة؟"، وبموجب عقد النشر الكتابي بيني وبينهم حينها هناك بند مفاده أنهم المتصرفون بنشر وطباعة وتسويق الرواية ولهم نسبة 15% من قيمة أي جائزة تفوز بها، فتركت لهم متابعة هذا الأمر ولم أتدخل أو أسأل بالتفاصيل.
أيضاً، رُشحت روايتي "أثلام ملغومة بالورد" للقائمة الطويلة لجائزة بيت لحم للرواية، في دورتها الأولى خلال العام الماضي.
الربح الذي أراهن عليه وأسعى له هو الحصول على نوع وكم قارئ، ورغم أهمية القيمة المالية لكنها لم ولن تشتري سعادتي في الاستمرار وشق طريقي وصنع اسمي في عالم الكتابة.


سامي داوود (سورية):
الجوائز والقيمة الإبداعية
ثمة تمهيد يسبق سؤال التكريم الأدبي، ذلك الذي يتعلق بسلطة إنتاج الأسماء. هذه الفكرة التي عالجها بورديو في سياق مناقشته لرمزية الصراع في المجال الثقافي، والذي يشبّههُ بقضية الشرف بين القبائل. ومن هذا التمهيد يمكن رؤية العلاقة الرمزية بين الجوائز والقيمة الإبداعية، حلم مؤسسة التكريم في أن تكون هي تمثيل معياري لقيمة ما. لكن تاريخ الجوائز الأدبية لا يؤهلها لهذه المكانة. ثمة مصادرة للقيمة أكبر من توجيه الانتباه إلى قيمة إبداعية ما. أهم مؤسسي الأدب الحديث لم يجدوا مكانتهم في سجل نوبل للآداب. بينما وجد تشرشل نفسه مكرما كأديب نوبلي سنة 1953، ما أثار حسرة غريمه الفرنسي الجنرال ديغول الذي كان ينتظرها هو أيضاً. وبعد بوب ديلان وأسماء أخرى نالت هذا التكريم في العقدين الأخيرين، بات بإمكان أي كاتب أن يحظى بالوسام النوبلي.
الأمر أشبه بتوزيع الرُتب الكهنوتية منها إلى الترجيح الجمالي. ومؤخرا بتنا أمام جوائز تشتغل

كهِبات/ عطايا، تمنحها جهات معينة لتمرير سياسات غير جمالية عبر المنتج الجمالي. مثلا في مجال الفنون البصرية تعمل آلية تبييض الأموال على تمييع المعايير الفنية من خلال تواطؤ عاملين: السذاجة العامة في هذا المجال، وسلطة أصحاب رأس المال. بينما في المجال الأدبي يشتغل ما يمكننا تسميته بشبكات إنتاج الهِبة. أي مراكمة تصور ما عن نص ما بناء على شبكة الدعم الخاصة بالطوائف الثقافية. لذلك يبقى النقد أداتيا أكثر من كونه ثقافيا.
زد على ما تقدم موضوع اللغة. فالكُتّاب الأوروبيون محظوظون. يتمتع ما ينتجونه بقيمة مسبقة، تفضيل إضافي متوهم، لا علاقة لها بجودة المنتج الأدبي. وهذا يشمل جميع المجالات. ربما لذلك قال بنديكت آندرسون إن كتابه "الجماعات المتخيلة" لاقى ما لاقاه من نجاح، لأنه نُشر باللغة الإنكليزية. ومؤخرا انضم إلى سكة الحظ، الكتاب اليابانيون. هذه الحظوة التي يعالجها مرة أخرى بورديو في فكرة التصور المسبق للقيمة. خذ مثلا روايات هاروكي ميراكامي وقارنها بحواراته التسويقية لنصه الذي لا يفتأ يقاربها بالأخوة كارمازوف لدوستويفسكي، وتكراره الممل لرغبته في أن يكتب النسخة المعاصرة منها. تلقى هذه الخدعة رواجا في عالم الترجمة والنقد الغربيين. وفي المقابل يخضع ما يكتب باللغات الشرقية لآلية التلقي ذاتها، لكن على نحو مقلوب، إذ يتم إدراجها في تصور نمطي لمنتج خاص بالعالم الثالث. ورغم استقلالية وفردانية الإنتاج الإبداعي عن مستوى التطور التقني للمجتمع ككل إلا أنها تٌستَدمج في السياق غير الإبداعي لمجتمعات العالم الأقل تقدما صناعيا. هنا تماما مرتع الضلال القيمي. أتذكر هنا تجربة النسوة الأفغانيات اللاتي كتبن نصوصا قصيرة في منتهى العمق شعوريا، ومنتهى الدهشة حسيا. لكنها تعرضت للابتسار الجمالي من خلال اعتبارها نصوصا مكتوبة من داخل البرقع ضد طالبان. بعد انتهاء موضة تلك النصوص، أسدل ستار تكريمها.


محمد جعفر (الجزائر):
مع الجوائز ومع نقدها
أعتقد أن الجميع، وأقصد هنا طبعا الكتاب، يريدون موقعا تحت الشمس، ومع تدني المقروئية، وتراجع دور الصحافة وتأثيرها، وتخاذل النقد ومتابعاته لكل ما يصدر، جاءت الجوائز العربية لتسد الهوّة وتقلص من مدى الإحباط العام لدى جمهور المبدعين. ولا عجب أن ينظر إليها اليوم على أنها الفرصة الوحيدة لانتشال الكاتب العربي من وضعه البائس والكريه، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إبداع كان سينتهي محجوبا عن الضوء. ويجب أن نضع في الحسبان أن هذا الحاصل لا يمكنه أن ينطبق على البلاد الغربية كمثال، والتي فيها شهدنا سارتر يرفض نوبل، وقبل فترة قليلة وقفنا على جوزيف أندراس الكاتب المغمور يرفض جائزة الغونكور الشهيرة؛ كما أنه لا ينقص من قيمة كتابنا العرب، ما دام الوضع العام مختلفا، حتى أن أسباب المناورة

والشهرة في غير البلاد العربية تظل متوفرة ومتاحة وبحجم مذهل لأسباب مختلفة أخرى عديدة لا مجال لذكرها هنا، في حين لا يكاد يعرف الكاتب في بيئته العربية غير الإحباط والخذلان والإنكار والإجحاف، ولعل المأمول أن يبدع الكاتب دون أن يتطلع إلى التربح والكسب المادي من وراء ما يكتبه، لكن الواقع المر لا بد أن يهيمن ويفرض نفسه، ويظل ضيق الحال يمنح الجوائز بريقها الخاص، ويجعل منها حافزا إضافيا، خصوصا تلك التي تقدم إغراءات مادية معتبرة، ويمكنها أن تمنح الفائز بها وضعا اجتماعيا أكثر راحة وأماناً؛ وفقط على المتقدم فيها ألا يراعي إلا حسه الداخلي ويتحرى صدقيته ولا يأخذ إلا بمعياريته ورؤيته وجهة وبوصلة، وإن كنت أعتبر أن هذا بالغ الصعوبة والتعقيد. كذلك لا يمكنني أن أسد مسامعي، فلا أرى أولئك الذين يجعلون من أنفسهم معارضين شرسين للجوائز العربية، أو لجوائز بعينها، وأعتبرهم مجرد حاقدين ومغشوشين، والأجدى بالجوائز في بحثها عن مصداقيتها أن تأخذ بما يرونه متى كان صوابا ومعقولا، وأرى ومن خلال تجربتي المتواضعة أنه لا غنى لنا في هذا الظرف الشاذ عن هذه الجوائز، حكومية كانت أو مستقلة، ما دامت قد سمحت لنا بالتعرف على أسماء مغمورة ومحجوب عنها الضوء، ورغم سقطاتها الكبيرة أحيانا، والمثالب التي نأخذها عليها في كل دورة، علينا أن نشجعها وندعم تلك الوليدة والفتية، وأن نُقبل عليها، وإن على مضض، ما دامت الخيارات الأخرى غير متاحة، بل إن كل سبيل عداها يظل مفلسا ومسدودا بالأقفال الضخمة والمتاريس. ولا أدري لم أعتبر أنه من هذا الإقبال والرفض يولد الانسجام، وإن كان انسجاما بروح عربية خالصة عودتنا ألا تشبه سواها. وفي الأخير، أحب أن أعلن، أنا مع الجوائز، لكني أيضا مع نقدها، فهي تكسب مشروعيتها منه، سواء أخذت بالأحكام الناقدة أم لم تأخذ.


حمزة قناوي (مصر):
المعايير النقديّة
الجوائز الأدبية العربية تكاد تلتقي في قاسمٍ مشتركٍ هو عدم وضوح المعايير النقدية المنهجية المُحكَّمة أو (إخفاؤها).. فهي ربما تكون موجودة، غير أنها للأسف تظلَّ حبيسة أدراج المُحكّمين وتقاريرهم، فلا يعرف أحد من المتلقين على أي أساسٍ فاز عمل واستُبعِد آخر، وإضافة إلى اختفاء هذه المعايير المُحكمة فإن مسألة اختيار المُحكّمين في حد ذاتِها تخضع- كما هو معروف- للعلاقات بين مُطلقي الجائزة وأصدقائهم من المثقفين أو النشطين في الوسط الثقافي، فهناك على سبيل المثال جائزة كبرى للرواية العربية يُسهِمُ في تحكيمها صحافيون!! هذه مسألة لا أفهمها أبداً.. الصحافة حقل معرفي مختلف تماماً عن النقد الأدبي كعلم منهجي

ذي أسس ومدارس وحيثيات إصدار أحكامٍ نقدية، فكيف تستعين مسابقة كبرى للرواية بصحافيين ليحكموها؟ مع كامل تقديري للصحافة، غير أن المسألة هنا للأسف بها مجاملات ومحاباة وتلميع لأشخاص لا أعتقد أنهم مؤهلونَ للتعامل النقدي الأكاديمي أو المنهجي مع النص الروائي.
هناك مقولة قديمة أنه "لا تكاد توجد جائزة نزيهة بالكامل"، وللأسف فإن هذا ينسحب بشكل كبير على جوائزنا الثقافية العربية، دائماً ستجد هناك "اعتبارات" تُدني شخصاً من دائرة الفوز وتستبعد آخر، ربما كان أكثر استحقاقاً منه، دائماً هناك تحالفات وتبريرات وتمرير مواقف.. المواقف المبدئية للكاتب تقصيه في كثيرٍ من الأحيان من مجرد طرح اسمه في جائزة ولو كان جديراً بها، لأنه لا يسير في رِكاب النظام أو لديه موقف من الجائزة نفسها، أو حتى كان صاحب موقف سياسي رافض، وطبعاً كل هذه "الاعتبارات" تُلغي حظوظه في رضى اللجنة عنهُ، ويُقصى من دائرة الجوائز.
لا توجد نزاهة مطلقة، ولا تحكيم لضمير نقدي صافٍ ومخلصٍ للنص والمسيرة الإبداعية للكاتب فحسب.. والمشكلة أن الجوائز الأدبية العربية قادَ كثيرٌ منها الكُتّاب العرب إلى مسارٍ حاد كثيراً عن الإخلاص لفكرة الأدب بحد ذاتهِ كقيمةٍ إنسانيةٍ ونوعية، وانحرفت عن دورها الطبيعي كعاملٍ مُحفّزٍ للإجادة إلى هدفٍ مبتغى بحدِ ذاته، فصار الكُتّاب يكتبون على قياس جائزة معينة ويتسابقون من أجل إرضاء ذائقة وهوى لجنة تحكيمٍ ومجاراة ما يقترب من أفكارهم وتوجّهاتهم، لعوامل كثيرةٍ تتعلقُ بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة للكاتب العربي مقابل المكافآت المالية الضخمة والمليونية التي تمثل طفرةً هائلةً له تنقله من عالمٍ إلى آخر إذا ابتسمت له حظوظه، وهذا يحيلنا إلى تساؤلٍ فلسفيٍّ آخر بين "جوهر الكتابة وصدق انتمائها" وبين انشدادها إلى ما خارجها وما قد يفصلها عن حقيقتها وكينونتها باعتبارها فعلَ تحدٍ ومقاومة لا تدجينٍ وتسكينٍ وإثراء.
تجربتي الشخصية مع الجوائز لم تكن سعيدةً كثيراً، رُشحت لجوائز كثيرة ووصلت إلى قوائمها الطويلة أو التصويت على أسماء الفائزين الأخيرة، ولم أحظَ في أي مرةٍ بالفوز، (مسابقة أمير الشعراء.. خمس مرات إلى اليوم إجازة وتأهل بالإجماع على مدى عشر سنوات ثم لا شيء آخر، يختارون شعراء آخرين وأغادر إلى ظلالي، وجائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب التي وصلت إلى لائحتها الطويلة في حقل الشعر، ثم استبعدت وفاز عملٌ آخر، وجائزة الدولة التشجيعية في مصر التي طُرح اسمي في منافساتها للتصويت أكثر من مرةٍ ثم لم أفز بها، وجائزة الشارقة للإبداع العربي التي نافست في مراحلها الأخيرة اسمين آخرين للفوز فاختاروهما واكتفوا بالتنويه باسم مجموعتي القصصية دون فوز)..
رغم ذلك أؤكد لكَ أنني لست حزيناً على حظوظي القليلة في هذه المسابقات، يكفي أنني حاولت بشجاعةٍ ونافستُ واقتربت كثيراً من دوائر ذراها الأخيرة. ولكني- صراحةً- لم أعد أثق كثيراً لا في الجوائز ولا أراهن على شيء.


ممدوح رزق (مصر):
الكابوس
الجوائز العربية الأكثر منحاً للامتيازات الأدبية والمادية هي تواطؤ فكاهي متغيّر بين ركائز عدة، لا أظن أن هناك أحداً في الأوساط الثقافية يمكن أن يجهلها: التكريس المتعمّد للكتابة المتطهرة من الشرور الجمالية الهدّامة.. المجهودات التفاوضية لوكلاء دور النشر، أو سماسرة الجوائز من الكتّاب والعاملين في الصحافة الأدبية، دائمي التنقّل بين لجان التحكيم وكواليسها.. التوافقات الملزِمة بين محرري المطبوعات الثقافية المعينين كسماسرجية إعلام للجائزة

ومحكّمين لها.. التوازنات الجغرافية والسياسية والجندرية وكذلك التعويضية عن خسارات سابقة.. أحكام المحبة والصداقة، والمتع المتبادلة ـ بمختلف أشكالها ـ بين الإخوة في الثقافة.. لكن هذا بالنسبة لي لا علاقة له بكل الثرثرة السخيفة المتعلقة بالتقييم والاستحقاق والعدالة، بل ـ وهذا أمر أعرف أن البعض يجد صعوبة بالغة في فهمه ـ أرى أن كل كتابة ـ مهما كانت ـ تستحق الحصول على جائزة، وأن كل العوامل ـ غير الأدبية ـ التي تهيمن وتتحكم في النتائج تحدد فقط عملاً سيفوز وأعمالاً أخرى ستستبعد من بين كتابات ينبغي جميعها أن تنال الجائزة.
أستعير هذه السطور من كتابي "نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل" والخاصة بهيكلة تقرير تحكيم العمل لإحدى الجوائز العربية:
"إننا لو افترضنا ـ مثلا ـ وجود عمل روائي يعتمد على التشظي، أو تفكيك البنية الذي يتجاوز (تجريبيتها)، أو التمرد المتعمّد على سلطة اللغة، أو خلخلة النظام السردي، أو انتهاك الحالة التناغمية للمضمون، أو تفتيت ما يُسمى بالعقدة، أو تخريب الانسجام بين المكان والزمان والحدث، أو إفساد التلاؤم بين الحوار والسرد، أو الخرق الهازئ للمبادئ الشائعة حول فن الرواية، أو العبث بالقوانين والتقاليد الأخلاقية السائدة، أو تقويض المفاهيم النمطية عن (القيمة)، أو السخرية من فكرة (الخلاص)، أو التهكم على (تعزيز الانتماء)؛ لو افترضنا أن هذا العمل الروائي تم تمريره إلى ماكينة التقييم التي تم استعراض أدواتها سابقاً فإنها لن تنظر إلى (انحيازه لطبيعته الخاصة)، أو (تناسبه وتوظيفه ومواءمته لوجوده)، أو (موقفه وبصمته الذاتية المتنافرة مع المنطق الاعتيادي)، أو (قيمته المضادة للثوابت الإنسانية المتداولة) ذلك لأن هذا العمل يتنافى بكيفية تامة وجوهرية مع (الإيمان) الذي تم تجميله ببعض الإغراءات التطهيرية، ليس فيما يتعلق بالرواية والوعي بتاريخها، وإنما بالثقافة ويقينيات الحياة عند واضعي هذه (الهيكلة)، الذين ينتمون إلى ذلك الجزء من العالم .. يطرح عمل روائي كهذا نفسه كاعتداء، كتهجّم متعارض من المبدأ مع حقيقة مطلقة لن يكون هناك مجال للتفاوض معها وفق أي احتمالات حاول أبناء هذه الحقيقة أنفسهم تضمينها من أجل ادعاء شكلي لمرونتها وانفتاحها: (تجريبي ـ غير مألوف ـ غير تقليدي... إلخ)".
في عام 2014 قام ناشر إحدى رواياتي بترشيحها للبوكر العربية.. اعتبرت الأمر مزحة، حتى لو لم يكن الأمر كذلك، ربما لأن هذا كان أفضل من وصف الناشر بالسذاجة، ومع ذلك كان لدي امتنان لما اعتبرته تقديراً منه للرواية التي اختارها من ضمن روايات كثيرة أصدرها في ذلك العام.. بالطبع كانت روايتي المرشحة بالنسبة لوعي "البوكريين" أشبه بالكابوس أو الفضيحة التي يجب الاختباء منها.. الجوائز التي حصلت عليها ليس من بينها تلك النوعية التي تتصدّر المشهد الثقافي العام قهراً، وإنما التي سبق لي التعبير عنها في حوار سابق بهذه الكلمات:
"أحصل على جائزة ما.. أشعر بسعادة بديهية ثم أنسى أنني حصلت على جائزة.. أتذكرها أحياناً ثم أنساها مجدداً.. هي نوع من التقدير ربما يتساوى مع أي تقدير آخر لو استثنينا الامتياز المادي، وبالنظر إلى الطبيعة الانتقائية لأعضاء لجان تحكيم الجوائز الشهيرة، واختياراتها للأعمال الفائزة، وبيانات نتائجها فإن هذا يمكن أن يضيف نوعاً من الاعتزاز إلى السعادة المؤقتة التي أشعر بها مع كل جائزة أحصل عليها".


مروى ملحم (سورية):
تنشيط حركة الأدب
أرى أن الجوائز الأدبية العربية تُشكّل حافزاً إيجابيّاً للكُتّاب من ناحية الشعور بتقييم العمل وتقدير الأعمال التي تستحق والإضاءة عليها، وأهم ما تقدمه الجائزة للكاتب هو أنها تمنح الكتاب مكانة في السوق وربما تتيح المجال لكي يقرأه عدد أكبر من الناس في البلاد التي تقرأ،

أتذكر تعليقاً قرأته لأحد الأصدقاء يقول فيه أن الجوائز يفترض بها أن تكون تتويج لمسيرة عمل طويلة في الأدب ولنتاج أدبي قيم وليس مكافأة في أول الطريق، أعتقد أن هذا الكلام صحيح تماماً، وإن كانت الجوائز العربية قد اتجهت بعكس هذا فهو لأن الكتابة في الوطن العربي بحاجة دائماً لتشجيع ودعم وأعتقد أن الجوائز لا تهدف في الأساس إلى الاحتفاء بالكتب الفائزة بحد ذاتها وإنما تسعى لتنشيط حركة الكتابة والأدب والفن بشكل عام في الوطن العربي.
مشاركتي في مسابقة الشارقة للإصدار الأول أعتبرها من أهم محطات حياتي، وكتابي الأول وهو مجموعة قصصية بعنوان "عين ثالثة" هو كتابي الوحيد الذي صدر لي بعد أن طبع في الشارقة، بعد الجائزة أصبح كثير من الناس يعرفونني ويعرفون اسم كتابي أو فقط أنه ربح في جائزة أدبية ما، بعض الأصدقاء طلبوا مني نسخاً منه ولا أعرف إن كانوا قد قرأوها حقاً، بالنسبة لي أن أبدأ رحلتي مع الكتابة بجائزة وكتاب صادر في بلد آخر هو أمر مبهج وأنا فخورة به إلى أبعد حد. أسمع طبعاً الكثير من الهجوم على المسابقات على صفحات التواصل الاجتماعي والشك بمصداقيتها وبأهميتها، طبعاً الجائزة لا تصنع كاتباً، وأهم الكتب الموجودة حالياً في المكتبات لم تحصل على أي جوائز، الأدب يثبت نفسه بنفسه، لكنني مع ذلك أراها لفتة جميلة ومبادرة قيّمة تجاه الأدب والأدباء وأحياناً يكون الجانب المادي منها بالغ الأهمية كوننا نعاني خاصة في سورية من أوضاع غير مستقرة وليس أمراً هامشياً بالنسبة لنا أن تصل كتبنا إلى المكتبات العربية دون أن ننتظر سنوات حتى نجمع المبلغ اللازم لذلك.


محمد يويو (المغرب):
إعادة النظر في المعايير والأدوات
حقيقة أنّ أكثر ما قد يأتي الحديث عنه في زخم الجوائز الأدبية العتيقة أو المستحدثة، هو "أخلقتها"؛ بمعنى أن نقوم بإعادة النظر في المعايير والأدوات، التي من خلالها يتمّ ترشيح الأعمال الإبداعية، وأيضا مسوّغات بعض دور النشر في تقديم عمل دون آخر للجائزة.
فمعيارية الترشيح والتحكيم مثار اِلتباس واِرتباك يتردد مع نيل كل عمل جديد لجائزة ما. ولنستحضر بالمناسبة رسالة يوسا الأولى من رسائله إلى روائي شاب، حيث أنّ أوّل ما يقدّمه

له هو أن يعيش ممارسة الميل الأدبي، باعتباره مكافأته الأفضل، وبأنه أكبر بكثير من كل المكافآت الأخرى، التي يمكن له أن ينالها، دون أن ننكر ما تمارسه المكافآت العينية، من غواية على بعض الكتّاب، فتضطرّه إلى تغيير خطّته الكتابيّة، لتسير بمحاذاة غرض الميل إلى الشهرة والعائد الماديّ السخيّ، بصرف النظر عن حقيقة الأدب بين وضيع ورفيع، وحقيقة الإبداع بين الكتابة والاِستكتاب.
وبالمقابل، هناك بالطبع من الجوائز، التي تقدّر المبدع وتكون وراءها لجان محكّمة، مشهود لها: أولاً بالعطاء في الميدان الإبداعي وثانيّا بالمصداقية والإنصاف. ومن ثمّ تتيح للمبدع فرصة الحضور، ليس على الساحة العربيّة فحسب، بل والعالميّة، باعتبار أنّ عمله الفائز يحظى بالترجمة إلى لغات أجنبية، دون أن ننسى الدعم المادي الكبير، والترويج لاِسم المؤلف.
غير أنّ حلقة مفصليّة من حلقات العملية الإبداعية، تظهر معطّلة ها هنا؛ ألا وهي حلقة القارئ. فإزاء كمّ المبيعات من نسخ العمل الفائز في دول غربيّة، والتي قد تصل إلى المليون نسخة، يبدو نزوع القارئ واستعداده إلى الاِحتفاء بالإبداع والمبدع محتشمَين في حاضرتنا العربية.
أمّا عن "جائزة الديوان الأول" لدار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، والتي حزت دورتها الثانية، عن ديوان "الأسود الذي لا ترينه"، فأعتبرها تجربة راسخة، خصوصاً أنّها كانت أوّل مشاركة لي بجائزة للشعر، وأوّل تنويه أتلقّاه من لجنة محكّمة، لا يسع الواحد منّا إلاّ أن يفخر بمنجزها الإبداعي.


 محمد طه العثمان (سورية):
أعمال وفق مقاسات الجوائز
المفروض من جوائز أن تمنح لأدباء وفنانين عن عمل متميز أو عن مجمل أعمالهم أو مسيرتهم اعترافاً بجهودهم وعطائهم، لكن المراقب يلاحظ أنها أصبحت وتحولت شيئا فشيئاً لسوق وبازار؛ ينتج الأعمال المستنسخة والمكرسة على مقاسات هذه الجائزة أو تلك؛ ابتداء بسياسة الدولة؛ هل توجهها مع الربيع العربي أم لا، هل هي معادية للثورة السورية أم لا...

وانتهاء بمزاج لجان الجائزة... أنا ألاحظ أننا لم نعد نشهد الإبداع الحقيقي في المكرمين، على الرغم من وجود كتب مهمة وكتاب ينتجون أدباً مهماً في كل عام نقداً وتأليفاً... في الآونة الأخيرة ضاع الطالح بالصالح، فقلما نسمع بفوز أحد يستحق، في السنوات الأخيرة الوضع السياسي لعب دوراً كبيراً في موضوع الجوائز، وقد وصل الأمر أن خرجت للنور جوائز بناء على ذلك.
لكن لا يمكن أن نعمم.
حتى نقدم شيئاً مهماً يجب أن نكتب ما نحن عليه، ما نريد أن نكتب. فإن فاز فهو خير، وإن لم يفز، فالمسابقات لا ترفع شاعراً ولا تنزل آخر... ومن أراد الانتشار هنالك وسائل أخرى كثيرة.
للأسف لا زالت مسابقاتنا على الرغم من البذخ المالي الكبير معطوبة من الداخل، والكتاب يتهافتون على الكتابة على مقاسات كل مسابقة مقدمين لنا نصوصاً غير ناضجة، أو مقولبة، لذلك ما أراه بصدق أن الأدب اليوم يعاني من مرض سريري واحتضار، فكثير جداً هم الذين يكتبون، وقلة قليلة هي التي تبدع.