Print
هشام أصلان

لوسيت لنيادو.. رحيل وريثة "البدلة البيضاء"

8 أغسطس 2019
هنا/الآن
منذ أيام قليلة مرّ على استحياء خبر رحيل الكاتبة الأميركية من أصل مصري لوسيت لنيادو، التي لا نعرف من مؤلفاتها غير كتاب وحيد مترجم للعربية هو "الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين.. وقائع خروج أسرة يهودية من مصر"، وبرغم كونه كتاباً وحيداً وجد صدى لافتاً ونوعياً عند صدوره في القاهرة عام 2010 عن دار الطناني للنشر، وأصبحت لوسيت اسماً معروفاً لدى المهتمين. وأكاد أجزم أنه ليس هناك، بين دوائري، ممن يُعرف عنهم الذوق الجميل في القراءة من لم يقرأ هذا الكتاب، أو على الأقل سمع عنه كلاماً جيداً.
"رجعونا مصر.. رجعونا مصر"- صرخة أخيرة يائسة أطلقها مواطن يهودي مصري جُن جنونه لحظة استقلاله الباخرة "مارسيليا" من ميناء الإسكندرية ورحيله مضطراً من بلده، هي نفسها الصرخة التي علقت في ذاكرة أغلب من قرأوا الكتاب. المواطن هو ليون لنيادو والد الكاتبة، التي جاءت إلى القاهرة عام 2005 في زيارة تستدعي عبرها ذاكرة طفولتها وتستعين بها على الانتهاء من كتابة سيرة عائلتها، منذ تقابل والديها صدفة في مقهى "الباريزيانا" في وسط القاهرة، حتى وقائع هجرة العائلة من مصر إلى أميركا مروراً على فرنسا اضطراراً، وتبعات هذه الهجرة، وكيف تحول والدها من شخص ميسور مُحب للحياة إلى بائع متجول لربطات العنق في محطات المترو الأميركية. وكانت آخر لياليه في القاهرة سهرة مع الأصدقاء ارتدى فيها بدلته البيضاء.
ولوسيت ليست من أصول مصرية خالصة، حيث تصل جذور عائلتها إلى حلب، قبل أن تأتي إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر وقت كانت القاهرة مدينة كوزموبوليتانية تحتوي تعدد
الثقافات والجنسيات. تزوج ليون وعاش مع أسرته الصغيرة في شارع الملكة نازلي- رمسيس حالياً-، حتى انتهى زمن الملكية مع 23 يوليو 1952، وسرت الأحداث التاريخية في مجرى تثير قراءته منذ سنوات قريبة جدلاً واسعاً بين من يعيدون النظر في حكم عبد الناصر مُعددين سلبياته، متهمين إياه بأنه كان بداية الانهيار الثقافي والحكم الشمولي، مُطلقين النكات المصحوبة بصور ساخرة، وبين من يرون في هذه القراءة ظُلماً، متكئين على فرضيات من قبيل أن الانفتاح الثقافي والاجتماعي ما قبل عبد الناصر لم تستفد منه غير شريحة صغيرة بينما جاء الفقر والظلم على باقي شرائح المجتمع المصري. وهي جدلية متروك أمرها للدارسين والباحثين، وليس في هذه السطور مجال لمناقشتها.
وليون لنيادو يهودي يعبر عن نموذج كان موجوداً بين أبناء الطبقة الوسطى المُنفتحة، خصوصاً ذات الأصول الأجنبية أو على الأقل التي تجيد التعامل بلغات أجنبية، فهو يحرص على الالتزام بمظاهر العبادة نهاراً إلى جانب ممارسة أعماله التجارية، وفي الليل يجول بين المقاهي أوروبية النمط وبين البارات وأماكن الحظ والبهجة، حيث لا تفرقة أو عنصرية بين المسلم والمسيحي واليهودي. وفي سيرة عائلته، التي كتبتها الراحلة لوسيت، عمق إنساني تكمله صورة لأجواء نستنشق بقايا رائحتها الآن في بعض أماكن القاهرة بعد منتصف الليل، حيث العمارة الخديوية، والمحال والمقاهي وبقايا النفس الكوزموبليتاني، متعدد الثقافات والأجناس، رائحة يستنشقها الجوّالون في المساء بعد الخلاص من نهار المدينة الذي بات شديد القسوة.
وفضلاً عن المتعة القرائية التي وجدها كثيرون في الكتاب، تأتي أهميته النظرية من كونه قد يزيل كثير من الظلال عن مرحلة تاريخية مهمة، خصوصاً وأنه، إضافة إلى شيء كبير من جاذبية الحكي الروائي، يفتح نافذة على مساحة كبيرة لملامح مدينة القاهرة في فترة زمنية بعينها من زاوية نظر مختلفة تماماً عن التي أتت في أغلب أعمال أدباء الستينيات المعروفين على اختلافهم. وهي إحدى السمات التي يشترك فيها "الرجل ذو البدلة البيضاء"، مع رواية وجيه غالي المشهورة "بيرة في نادي البلياردو"، ذلك أن الكاتبين، لوسيت ووجيه، على الرغم من انتمائهما لنفس المرحلة العمرية التي ينتمي إليها أدباء جيل الستينيات في مصر، أتيا من
منطقتين، رغم اختلاف حكايتهما وهمّهما الشخصي وسؤال كتابيهما، يرويان المدينة من زاوية قريبة لبعضهما، بعيدة عما قُدم من الأدب المعروف لهذه المرحلة الزمنية. وفي نظرة سريعة، تستطيع أن ترى ببساطة بعض العوامل المشتركة بينهما. كاتبان جاءت 23 يوليو بالضرر على حياتهما الشخصية، عاشا خارج مصر في مراحل زمنية مختلفة، وألفا كتابيهما بلغة غير عربية، ونظرة من أضيق نافذة للحياة الشخصية تطل على جانب مهم من المجتمع القاهري في الفترة الزمنية نفسها تقريباً، فضلاً عن أننا لم نقرأ لكل منهما غير كتاب واحد وجد تلقياً جيداً.
ويبدو أن الكتاب، حين صدور طبعته العربية، كان وجد اتهاماً بالمساهمة في التطبيع، ما رد عليه ناشره المصري مصطفى الطناني، وفق جريدة اليوم السابع وقتها، بأنه "ليس للكاتبة أية علاقة بإسرائيل، ولكنها من اليهود المصريين الذين عاشوا فى الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها رفضت الهجرة لإسرائيل وهاجرت إلى الولايات المتحدة". مع ذلك، ورغم أنها عاشت تعبر عن فقدها للحياة في مصر، لم يغب عن لوسيت، أبداً، الشعور بالغربة في كل البلاد التي عاشت فيها. وهي تقول: "كنت في مصر أجنبية لعدم قدرتي على تحدث العربية، وفي فرنسا حيث أقمنا مؤقتا لفترة وجيزة، ورغم طلاقتي في التحدث بالفرنسية، كنت أيضا أجنبية لأني مصرية، وفي أميركا ما زلت أجنبية لأني قادمة من القاهرة وباريس. بدا أن ذلك هو قدري المحتوم، أن أكون دائما أجنبية بصرف النظر عن أي مكان من العالم أقطن".